عشت في إيطاليا بعض أحلى سنوات حياتي. قبل إيطاليا كنت في الصين أعيش منسجما مع قوانين وسلوكيات تفرض الانضباط. الناس في طوابير لتحصل على القليل الضروري، لا تشكو. المرور منتظم بلا اختناقات ولا صوت واحد يصدر عن سيارة نقل أو أجرة. احترام الدولة يكاد يكون في مرتبة التقديس. حتى الطقس انضبط. من هناك انتقلت إلى إيطاليا. انتقلت من آسيا إلى أوروبا ومن بكين مدينة الزهد والتقشف إلى روما مدينة الرخاء والوفرة. وصلت روما في وقت كان الأمريكيون يصورون في أهم شوارعها مشاهد للحياة الحلوة التي يحياها الإيطاليون. ظهرت هذه المشاهد بعد ذلك في شكل فيلم سينمائي حمل عنوان الحياة الحلوة، وبعد عرضه راحت الناس تذهب أفواجا إلى إيطاليا لتتعرف عن قرب على القفزة الاقتصادية التي استحقت لقب المعجزة الإيطالية في وقت كانت بقية أوروبا تعاني آثار الحرب ومشقات إعادة التعمير. حياة حلوة ومعجزة اقتصادية اجتمعتا في بلد شعبه يفضل الفوضى على النظام، يفضل الحرية على الانضباط، يفضل الراحة والاستجمام على العمل، يفضل الاستماع إلى الموسيقى عن الاستماع إلى خطب السياسيين. يكره رجال ونساء السياسة ويسخر منهم ومن أخلاقهم .
***
قبل أيام جلست أمام شاشة التليفزيون أشاهد مولد تيار سياسي عالمي ذكرني بتيار أو تنظيم ما عرف وقتها بالدولية الاشتراكية. رأيت ستيف بانون، لا شك تذكرونه فهو الرجل غريب الأطوار الذي جاء به المرشح لمنصب الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب ليكون مستشاره الخاص للشؤون الاستراتيجية، أو كما في قول آخر هو الرجل غريب الأطوار الذي ربما جاء بدونالد ترامب مرشحا لمنصب الرئاسة ثم رئيسا لأمريكا وفي الوقت نفسه النموذج والقائد لدولية جديدة تحت اسم “القوميون الجدد”. رأيت بانون في باريس وإلى جانبه رئيسة الجبهة القومية يتحدث إلى أعضاء الجبهة مدشنا الدولية الجديدة، وفي واقع الأمر لم يغادر باريس إلا وقد اطمأن إلى أن الجبهة القومية الفرنسية قررت إدخال تغييرات مهمة في مكوناتها وأدائها.
رأيته، أي ستيفن بانون، في روما يحتفل مع قادة حركة النجوم الخمسة وقادة حزب “الجامعة” أو “الليجا” بالإنجاز الهائل الذي حققوه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. الحركتان أو الحزبان تنهجان النهج نفسه الذي يسير عليه الرئيس دونالد ترامب في واشنطن. بانون الرجل الذي أزاحه الرئيس ترامب من منصبه تحت ضغط العسكريين في البيت الأبيض وقف بالساعات أمام أنصار الحزبين القوميين الإيطاليين كما فعل أمام جماهير الجبهة القومية في فرنسا يشيد بسياسات الرئيس ترامب المناهضة للعولمة. أشاد بقراره زيادة الضرائب الجمركية على واردات الحديد والصلب وهو القرار الذي يصب مثل غيره في جهة تقييد حرية التجارة ورفض الاتفاقات التجارية متعددة الأطراف لصالح اتفاقات ثنائية تضمن لأمريكا حقا واضحا. بانون يحرض الفرنسيين والإيطاليين لينضموا إلى رفاقهم من حكام بولندا والمجر المتمردين على الاتحاد الأوروبي. بانون يكاد يدعو قادة القوميين الأوروبيين للتحالف مع قادة روسيا ضد الاتحاد الأوروبي. حسب معلوماتي، لم يصدر بعد من واشنطن ما يكفي لإقناعي بأن الرئيس ترامب ليس على علم بأن نظامه طرف في جماعة دولية ـ تحت الانشاء ـ تدعو إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، وأن معظم سياساته الخارجية تصب في صالح هذه الدولية القومية الجديدة.
***
تابعت عن بعد المرحلة الأولى في انتخابات برلمانية مهمة جرت في إيطاليا وأسفرت نتائجها عن مفاجأة لم يتوقعها قادة دول غرب أوروبا أو على الأقل كانوا يتمنون عدم حدوثها. أفاقوا في اليوم التالي لعملية الانتخاب على بيانات تعلن فوز القوى القومية على الناحيتين اليسارية واليمينية بحوالي نصف أصوات الناخبين. أؤكد أن قليلين هم الذين توقعوا هذه النتيجة، إذ كان قد ساد القارة الأوروبية ما يشبه الاقتناع بأن فوز إيمانويل ماكرون على ماريان لوبين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية حطم أسطورة الصعود المحقق للقوميين على حساب أنصار الفكرة الأوروبية وغيرها من أفكار ومؤسسات وممارسات العولمة. لقد اتضح من نتائج الانتخابات الألمانية وتصرفات حكومات شرق أوروبا والمسئولين عن صنع سياسات الكرملين وقرارات الرئيس ترامب أن الاتحاد الأوروبي مرشح لمصاعب هائلة في المستقبل. هذه المرحلة في الانتخابات البرلمانية الإيطالية كانت في حد ذاتها مفيدة من نواحي عديدة للتأمل ثم الدرس واستخلاص اجتهادات أكتفي هنا بذكر القليل منها.
***
أولا: تعلمت من تجربتي الشخصيىة في أوروبا وبخاصة في إيطاليا أن قليلين بين زعماء وسياسيي غرب أوروبا يأخذون الإيطاليين مأخذ الجد. الشعب الذي عايشته خفيف الظل محبا للمرح شغوفا بالحياة شديد التدين ومغرما بالفساد واختصار الطرق نحو الهدف هو الشعب الذي عايشته، وإن من بعيد، قبل أيام ناخبا في ظروف مختلفة وزمن غير ذاك الزمن. لم يتغير. برلسكوني يعود ولا أحد مكترث بما فعله واستحق عليه أحكاما لم ينفذها طبعا وينزل الانتخابات ويحصل على أصوات لا بأس بها ولو أنها لا تصل إلى ما تمناه. المهم أنه يظل الزعيم الوحيد المرشح لقيادة تحالف وسط يميني، بعد السقوط المروع للحزب الديموقراطي الحاكم.
ثانيا: الناخب الإيطالي في هذه الانتخابات كان يختار بين أنظمة حكم وليس بين أحزاب. بمعنى آخر أظن أنه كان يفكر في أمور أخرى غير اختيار أحزاب بعينها لتحكم. كان يفكر مثلا في أنه ينتمي إلى أقاليم جنوب إيطاليا أو شمالها. كان يفكر في جواز عودة الفاشيين إلى الحكم، وعلى كل حال لم يتوقف الإيطاليون أو على الأقل نسبة معتبرة منهم عن التفكير في انتخاب عناصر تمثل الفاشية بالعقل أو بالحنين. أمثالهم ينتخبون من يتحدث باللغة الشيوعية بعد أن انحلت أحزابها وانهارت الشيوعية في بلادها الأصلية. آخرون وهم الآن أقلية صوتوا لصالح مرشحين يعتنقون الفكرة الأوروبية. أعداد أكثر بدون شك هي التي صوتت لمن يرفع شعار “إيطاليا أولا”، وهو الشعار الذي يهرول من أجل تعميم فكرته المناضل القومي ستيفن بانون في دولة أوروبية بعد أخرى.
ثالثا: النظام القديم في أوروبا يسقط، أو بدقة أكثر أقول إن كثيرا من علامات النظام الأوروبي القديم تختفي. تختفي أو تضمحل القدرة الفريدة على إقامة تحالفات حزبية قوية لتحكم. أتوقع أن نشاهد مرحلة عصيبة من محاولات إقامة تحالف مناسب يحكم إيطاليا في الفترة القادمة. لدينا نموذج في المحاولات القاسية التى مر بها السياسيون في ألمانيا وعلى رأسهم السيدة أنجيلا ميركل لإقامة حلف يحكم ألمانيا. مرت شهور خمسة ولم تتشكل حكومة بعد.
من ناحية أخرى. أشعر منذ فترة كما لو أن الأوروبيين عادوا يعيشون حال الانقسام بين شرق وغرب، وهو الحال الذي عاشوه لأكثر من ثلاثين عاما خلال الحرب الباردة. يبدو كما لو أن الانقسام أصبح في حكم الطبيعة السياسية الأوروبية. هناك فعلا تيار واسع الانتشار في دول في شرق أوروبا لا يستغيث أنصاره فكرة الوحدة مع شعوب ودول غرب أوروبا. أخشى أن العكس ربما كان صحيحا أيضا. رغم ذلك هناك من يعتقد أن زلزالا وقع في أوروبا هز إلى الأعماق العقل السياسي الأوروبي. أما عناصر هذا الزلزال فهي، حسب أنصار نفس الاعتقاد، أربعة هي الهجرة السورية الإفريقية إلى أوروبا، والفساد الرهيب المتفشي بين السياسيين الأوروبيين، والضعف المتزايد في قوة ونفوذ سلطة المركز، أي الحكومات المنتخبة ديموقراطيا، وأخيرا هي التناقص المستمر في ليبرالية الديموقراطية الأوروبية تحت ضغط العناصر الثلاثة السابقة. أوروبا تتجه أكثر فأكثر نحو ديموقراطية غير ليبرالية.
***
أعود إلى إيطاليا التي رغم مشكلاتها العديدة وبخاصة المشكلات الاقتصادية مثل تفاقم البطالة وزيادة حجم الديون إلا أنها تظل بالنسبة لقادة أوروبا الموحدة في بروكسل وبرلين لا تزال العضو الأوروبي الأقل إثارة للانزعاج . أكثر إزعاجا من إيطاليا كانت تأتي بريطانيا في المقدمة، الآن تأتي دول شرق أوروبا بالإضافة إلى فرنسا وهولندا.
تنشر بالتنزامن مع جريدة الشروق