طلال سلمان

النظام العربي النهايات!

يصعب الكلام في ظل هدير آلة الحرب الجهنمية ، خصوصاً وأننا هدفها المباشر، بحاضرنا ومستقبلنا، بوجودنا ومصيرنا، بأرضنا وثرواتها، بدولنا والمؤسسات القائمة فيها، السياسية منها والدينية، العسكرية منها والثقافية والإجتماعية وصولاً الى الأندية الرياضية.
ذلك أن عاصفة النار التي تتقدم عاتية يصعب ضبط الحريق الذي ستحدثه في هشيم أوضاعنا البائسة بل المتهالكة، على مختلف الصعد: فلا هي قادرة على المقاومة لرد العدوان بصلابة الالتفاف الشعبي، ولا هي مؤهلة للصمود بمتانة البنيان الذاتي للكيانات القائمة، لا سند لها من جمهور المحكومين ولا لها بذاتها طاقة على المواجهة، سيما وأن المواجهة في أيامنا هذه تمتد على جبهة واسعة تشمل منجزات العلم في طورها الثوري الباهر، وإشعاعات الفكر في ذروة الاحتدام والتصادم بين المألوف والتقليدي وبين الانقلابي والمستجد والطارىء الذي إستولدته التحولات السياسية الاقتصادية التي غيرت الكون فجعلته مختلفاً تماماً عن ذلك الذي عشنا فيه أجيالاً فألفنا الاستكانة الى ما كنا نراه من الثوابت فيه.
يصعب الكلام بينما نحن مسرح العمليات فحسب والفعل لغيرنا مع أننا موضوعه وضحاياه: يجرّب فينا أسلحته الجديدة وهو يبني استراتيجيته الجديدة، ومع ذلك نسقط ونحن المدانين بجرائم ابسطها اننا نهدد حركة النهوض الإنساني بالدمار، واننا نشد العالم الى الخلف نريد أن نرجعه القهقهرى لأننا أعجز من أن نواكب حركة تقدمه.
ويصعب الاستنتاج لان الثوابت التي ألفناها تتهاوى بلا بديل، ثم أن آمالنا بالتغيير تحولت عبر العجز الى أحلام والأحلام عبر الاستحالة الى أوهام او كوابيس.. ولذلك أسباب محددة ومفهومة، بينها:
{ إن الأنظمة القائمة في بلادنا تفتقر بمجملها الى الشرعية الشعبية: لا هي وصلت الى السلطة بالاستحقاق وعلى قاعدة برنامج واضح وفّر لها الفوز في الانتخابات، ولا هي تستمر في السلطة بقوة الديمقراطية بل بسبب غيابها… وهي لكي تؤكد شرعيتها المدعاة تلجأ الى العسف اضطهاداً لخصومها بالاعتقال او التشريد بحيث ألغت بدائلها المحتملة، وصار سقوطها يعني خطر الحرب الأهلية.
{ إن هذه الأنظمة القائمة وبعدما اطمأنت الى اندثار الحركة الشعبية صارت أضعف وبالتالي زادت حاجتها الى الإعتماد على الخارج… والخارج هو الأميركي وبوابته الإجبارية اسرائيل.
{ إن هذه الأنظمة القائمة بمجملها لاستحالة البديل، فقدت الكثير من شرعيتها عبر هزائمها المتكررة في مواجهة العدو القومي، اسرائيل، فحاولت التغطية عليها بمعاهدات الصلح المنفرد، مما أفقدها شرعيتها الشعبية قبل الدستورية. صار بين مصادر قوتها واستمرارها حماية العدو القومي، وبالتالي فقد صارت في صفه ضدّ شعبها.
فقد يكون الامتناع عن محاربة اسرائيل بعذر العجز عن تحقيق النصر مقبولاً ولو على مضض، أما صلح الاستسلام فمرفوض لا يقبله عربي سويّ لأنه يدرك جيداً انه بذلك انما يلغي حق ابنائه في الحياة.
* * *
لكأننا عند حافة النهاية لكل ما عرفنا وما ألفنا من مقومات وجودنا : فالأسئلة القلقة تتناول الكيانات والأنظمة، جمهورية وملكية، دستورية او مطلقة، يمينية الى حدود الدولة الدينية او اشتراكية شكلاً او ادعاء، كما في السابق، مهرولة للالتحاق باقتصاد السوق كما في الحاضر،
كذلك فإننا عند حافة النهايات لكل ما عرفنا من دعوات وادعاءات وتنظيمات ومنظمات: من دعوة الوحدة الى ادعاء الاشتراكية، ومن دعوة الالتحاق بالغرب المتقدم بغير تحفظ، الى ادعاء احتكار الإسلام والنطق بإسمه بغير شريك، من دعوة الرسالة القومية الجامعة الى ادعاء احتكار الوطنية بحيث تصير كيانية شوفينية تجعل العربي عنصرياً في مواجهة أخيه العربي الآخر !
ان مجموعة من التنظيمات النقابية والسياسية، في بيروت او غيرها من العواصم العربية، التي نشأت في أحضانها نخبنا العلمية والثقافية في العقود الخمسة الماضية تطوي الآن أعلامها معلنة عجزها عن مواجهة الاجتياح الأميركي الذي يتهدد منطقتنا بالموت، خصوصاً اذا ما انتبهنا الى رديفه الإسرائيلي بقيادة السفاح شارون على أرض فلسطين.
يستوي في ذلك من انتمى او اقترب من حزب البعث، او حركة القوميين العرب، حركة فتح او الجبهة الشعبية او الديمقراطية، الحزب الشيوعي او الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب التقدمي الاشتراكي او حزب الكتائب في لبنان، حزب الوفد في مصر او بعض الفرق الناصرية، حزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر او حزب الاستقلال او حزب الاتحاد الاشتراكي في المغرب الخ.
… ومَن قارَب، ولو من موقع الخصومة، حركة الإخوان المسلمين بتفرعاتها وتسمياتها وفصائلها المتعددة في مختلف البلاد العربية.
إن هذه التنظيمات التي استهلكتها السلطة بالحكم او بالمعارضة تبدو وكأنها تعيش ساعات النهايات.
ربما كان ضرورياً استثناء حركة الإخوان المسلمين او بعض تفرعاتها، لان الدين يصبح في مثل هذه اللحظات الملجأ الأخير، ثم أن استهدافه مباشرة يستنفر طاقة التحدي الهائلة فيه فيعود الى أفيائه من كان قد ابتعد عنه ويذود عنه وقد تجمّعت فيه معاني الكرامة الشخصية والوطنية والقومية جميعاً.
ولكن استمرار مثل هذه الحركة، او تناميها، ليس وعداً بغدٍ أفضل وان كان يؤكد انتهاء من انتدب نفسه ليكون البديل المتقدم والأقدر على استقطاب الجماهير.
* * *
إن الأنظمة تعيش نهاياتها المؤجلة منذ زمن بعيد لافتقاد البديل،
وكذلك المنظمات والأحزاب التي أعطت ما عندها فنجحت قليلاً وفشلت كثيراً تعيش نهاياتها المرجأة، لان أحداً لم يتقدم بعدها ليأخذ الراية.
بل ان النقابات العربية، التي لعبت ذات يوم دوراً مجيداً، في استحضار الطبقة العاملة الى حومة العمل السياسي، تبدو اليوم وكأنها قد اندثرت بعدما تولّت أجهزة المخابرات والمباحث السيطرة على قياداتها وبعدما انقرض العمال العرب او كادوا.
وصحيح ان بعض البلاد العربية الغنية »تستورد« عمالاً من بلاد عربية فقيرة، لكن هؤلاء يظلون افراداً ممنوع عليهم التجمع والانتظام في أي هيئة، بل وكثيراً ما يصطرعون في ما بينهم على الفرص المتاحة، وهي أقل مما يحتاجون بما لا يُقاس… وهكذا فإن الفقراء يحاربون الفقراء، بينما الأغنياء يرصدون عليهم أنفاسهم فإن تظلّموا طُردوا، وان تجمعوا واجهتهم الشوفينية القوية بالدبابات قبل أن تسلمهم الى سجون بلادهم!
* * *
لتبسيط الفكرة سأتخذ، بالقصد، من تجربة العراق مع الدولة والثورة والحياة السياسية والمؤسسات الديمقراطية من احزاب ونقابات وهيئات اجتماعية، نموذجاً للتعامل العربي مع المبادىء والعقائد كما مع الظرف السياسي الحاكم.
في حدود ما وعينا عليه كجيل يمكن تلخيص الدروس الآتية من التجربة العراقية:
في 14 تموز 1958 قام الجيش العراقي بانقلاب عسكري ناجح، هذه المرة، بعد محاولات فاشلة سابقة، أطاح بالعهد الملكي الذي كان قد اوصل الاسرة الهاشمية الى بغداد كتعويض عن الحلم المنهار: الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، لإقامة دولة العرب بعد التحرر من إسار السلطنة العثمانية وبالاعتماد على الحليف البريطاني.
كانت قيادة الانقلاب تضم خليطاً من الضباط القوميين واليساريين والوطنيين بزعامة عبد الكريم قاسم… وكان مما شجّعها ووفّر لها بعض الحماية ان دولة للوحدة كانت قد قامت قبل خمسة شهور باندماج سوريا المضطربة والتائهة بمصر جمال عبد الناصر الذي كان قد خرج مظفّراً من المواجهة البطولية مع العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا واسرائيل) في خريف 1956، اثر القرار المجيد بتأميم قناة السويس، والذي كان لا يخفي دعمه المؤثر لثوار الجزائر في معركتهم العظيمة لاستنقاذها من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
كانت العاطفة الوحدوية عند العراقيين جياشة، لكن السلطة بدباباتها أقوى،
وحين تبدّى وكأن الخيار بين الوحدة والديمقراطية حصل التصادم المريع الذي أودى بالحلمين معاً، ولم يستبقِ في بغداد غير شخصية دكتاتورية مهزوزة وسط بركة من دماء اولئك الذين كانوا نظرياً عدة النصر لتحقيق الأمنيتين: أقتتل الشيوعيون والكيانيون مع القوميين، مستنفرين الأقليات والعصبيات، فلم يعد في البلاد من قوة الا الجيش الذي صار اداة للقمع الجماعي، قبل ان تجتاحه الانقسامات فتشرذمه وتتوالى ضمنه الحركات الانقلابية حتى نجحت تلك المسماة »ثورة 8 شباط رمضان 1963«.
ومرة اخرى تصادمت دبابة السلطة بفكرة الوحدة التي كانت دولتها الجمهورية العربية المتحدة، قد انهارت بعد ثلاث سنوات وبضعة شهور فقط. فانتصرت الدبابة طبعاً، وهذه المرة بشعارات حزب البعث العربي الاشتراكي وحرسه القومي… ثم انتصرت الدبابة مرة أخرى على الحزب فأخرج عبد السلام عارف شركاءه ليتفرد مع ضباطه بالسلطة التي ورثها أخوه عبد الرحمن بعد سقوط منظّم لطائرة عبد السلام.
في 17 تموز 1968 عاد حزب البعث الى السلطة بانقلاب عسكري سرعان ما التهم قادته، مبقياً السلطة مطلقة في ايدي أحمد حسن البكر ورهط من أقاربه التكارته يتزعمهم المناضل الحزبي صدام حسين الذي عمل على استئصالهم واحداً واحداً حتى انفرد بالحكم، يساعده ولداه وبضعة معاونين اثبتوا إخلاصهم له فكتبت لهم النجاة.
كان جمال عبد الناصر قد سقط صريع هزيمة حزيران 1967، وسقطت معه رايات الدعوة الى الوحدة واحلام الدولة الجامعة، وأوهام التحالف الاستراتيجي مع المعسكر الشيوعي من موقع وطني عربي اسلامي هو في النهاية معادٍ للشيوعية كعقيدة وان طلب صداقة هذا المعسكر سياسياً ومعونته العسكرية والاقتصادية.
وبالكاد أمكن استنقاذ القائد عبر تحميله المسؤولية وإلزامه بالثبات في موقعه لاستعادة ما أُخذ بالقوة.
وفي حين كانت تولد من رحم هزيمتنا في 5 حزيران 1967 الدولة الثانية في اسرائيل، الأقوى بما لا يُقاس من تلك التي كانت في 1948 او خاصة من تلك التي كانت في 1956، لا سيما وانها جاءت الآن معززة بالاستعمار الجديد، الأميركي، الذي كان قد ورث الاستعمار القديم، الأوروبي، فإن الحركة القومية كانت تطوي أعلامها في انتظار نصر عسكري يعيد اليها الاعتبار السياسي.
* * *
ولدت الدولة الإسرائيلية الثانية في أحضان مشروع الهيمنة الأميركية المطلقة على منطقتنا هذه : صار للولايات المتحدة حليفها الأصلي الثابت، ففتحت لها الخزائن والمخازن والخرائط، وأمدّتها بالعقول والمال، عدة التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي، إضافة الى عدة الحرب، والحماية السياسية.
وفي حين كانت إسرائيل تتقدم، تحت الراية الأميركية، نحو مشروعها الإمبراطوري، كان العرب يتراجعون مبتعدين عن مخاطر حلم الوحدة الى دولهم القطرية وكيانياتهم المتعصبة ضد بعضهم البعض، مبهورين بالنموذج الإسرائيلي المنتصر عليهم، مأخوذين بالتفوق الأميركي الذي أخذ يهزم النموذج الشيوعي السوفياتي في مختلف مجالات التقدم الاقتصادي والتطور العلمي والتقني، والأخطر في الدعوة الى اطلاق الحريات العامة وحقوق الإنسان.
وبشيء من التركيز يمكن استخلاص النتائج التالية من التجربة العراقية (كنموذج عربي) بين 1958 واليوم :
{ أستُنفرت الدعوة الى الوحدة القومية في غياب الديمقراطية، وربما على حسابها، الكيانيات والأقليات العرقية والطائفية، إضافة الى الأعداء الطبيعيين في الخارج: اسرائيل والقوى الاستعمارية.
وفي حين شهد العراق حروباً أهلية شبه متصلة بين 1958 و1970، تاريخ رحيل جمال عبد الناصر، بكل ما كان يرمز اليه ويجسده كنموذج للبطل القومي في نظام كياني عسكري معادٍ لفكره وتوجهاته، يقدم المخابرات على الجماهير، ويعتمد الاستفتاء المطلق بدلاً من الانتخاب، فإن الحكم الذي قام في بغداد بعد ذلك بإسم حزب البعث العربي الاشتراكي انتهى حكماً للفرد الواحد الأحد تحت رايات وحدوية زائفة ومضللة.
رحل البطل، اذن، مصطحباً معه تجربته الغنية، وبقي نظامه الرديء نموذجاً يحتذى لضرب الشعارات التي بررت وجوده.
÷ وحين خاض الجيش المصري، معززاً بالجيش السوري في الجبهة الشرقية، حرب 1973 التحريرية، وقدم الجيشان بطولات اسطورية في العبور والمواجهة، تسلح أنور السادات بتلك الجدارة ليمكنه الذهاب الى الصلح المنفرد تحت الرعاية الأميركية في كامب ديفيد، 1978، بعد زيارة الاستسلام الشهيرة في خريف 1977، متخلياً عن شريكه في الحرب، فضلاً عن فلسطين، ويمكن ان نضيف أيضاً النظرية الثابتة في ان الأمن القومي المصري يبدأ من عند جبال طوروس.
ولعل القرار التاريخي المجيد بالحرب يعلنها العرب قبل ان تفرض عليهم قد انتهى بنتائج مأساوية كان من ضمنها اسقاط دور الجيوش في الصراع القومي أي في مواجهة اسرائيل ومن ثم تهميش دورها الوطني وتحويلها الى مجرد قوة حماية للنظام.
صار النظام أهم من الوطن. وصارت العلاقة مع اسرائيل ضمانة لبعض الأنظمة بينما الارتباط بفلسطين مصدر خطر عليها. وصار جيش النظام، في العديد من الحالات، حارساً لاسرائيل بدل ان يكون درع حماية للمقاومة الساعية الى تحرير بعض الأرض وبعض الحقوق لشعب فلسطين الذي صار بلا حماية فأمكن تمرير اتفاق أوسلو بعد عشرين عاماً من العجز عن الحرب وبالتالي العجز عن إستيلاد صيغة مقبولة لتسوية غير مهينة.
÷ بعد آخر الحروب العربية، الرسمية، مع العدو الإسرائيلي، كان بديهياً ان يسود اللغط وان ترتفع أصوات المهزومين بالاستسلام، وان يبتدع كل نظام عدوه الخاص وهكذا تفجرت الحرب الأهلية في لبنان لتستهلك حيوية شعبه والسمات الديمقراطية في نظامه، وكذلك ثورية منظمة التحرير الوطني الفلسطيني وقدسية قضيتها، ولتشغل سوريا وجيشها الخارج من حرب كان يمكن ان تكون بداية لعصر عربي جديد، فإذا هي تنتهي بقيام الدولة الثالثة في اسرائيل، الأقوى والأمنع والأكثر تقدماً بما لا يقاس من مجموع الدول العربية.
÷ وبينما معظم العرب منخرطون، مباشرة او بالواسطة، في الحرب الأهلية العظمى في لبنان، إذا بصدام حسين يندفع، تحت الشعار القومي المزوّر، الى محاربة الثورة الإسلامية الوليدة في ايران.
÷ انشقت العروبة عن الإسلام، وتصادما على امتداد ثماني سنوات من القتل والتدمير، فأصاب التشويه المكونات الأصلية لهذه المنطقة من العالم، وتفاقمت اسباب الضياع والتيه حتى لم يبق مرتكز لليقين.
÷ وكان بديهياً ان تستغل اسرائيل هذا الوضع النموذجي بالنسبة اليها، وهكذا تقدمت لاجتياح لبنان في صيف 1982، فلم تجد من يواجهها الا بعد حين، وبعدما عاد اللبنانيون الى وعيهم متحررين من لوثة الدم، باشروا مقاومتهم التي ستمتد وستتعاظم على امتداد ثماني سنوات طويلة حتى جاءت لحظة التحرير المجيدة. وكان لسوريا دور مؤكد في الرعاية والحماية كما كان لإيران الثورة الإسلامية دورها في توفير الدعم والإمداد… على أن هذا كله ما كان ليحقق نصراً مؤزراً لولا الوعي العميق الذي تمتعت به قيادة المقاومة الإسلامية، وعقلها المتفتح سياسياً وأهليتها العلمية لاستيعاب أحدث الأسلحة والابتكار والتجديد في وسائل استخدامها… فضلاً عن الالتفاف الجماهيري الواسع حولها وامتناع الدولة عن الغدر بها.
وهنا كانت واحدة من المواجهات الناجحة والنادرة بين العقل العربي المقاوم والعقل الإسرائيلي العسكري المتقدم.
نعود الى العراق او يعود الينا: ففي 2 آب من العام 1990 غزا صدام حسين الكويت فكان الانشقاق العظيم، الذي أوصل العرب لان يقاتلوا تحت الراية الأميركية، لانهم عجزوا عن منع الغزوة الصدامية، كما عجزوا عن حماية الكويت بإجماعهم او عن تحريرها بقواهم الذاتية.
وسقط معظم الوطن العربي تحت الاحتلال.
* * *
انها مراجعة سريعة للنهايات التي حفلت بها هذه المرحلة المثيرة من تاريخنا، والتي كنا فيها في منزلة بين منزلتي الشاهد والشهيد.
لقد ذوت الحركة الديمقراطية، التي جاءت مصاحبة لاستقلال الدولة، قبل ان تتنامى وتترسخ جذورها في الأرض، مخلية المساحة للانقلابات العسكرية التي حملت رايات التحرير، ثم انتهت الى الهزيمة.. فخسرنا مع فلسطين الديمقراطية.
كذلك فان استعجال الوحدة قبل استكمال شروطها السياسية والاقتصادية والثقافية قد أجهض الدولة وأساء الى الفكرة ذاتها، فصارت وكأنها خرافة او وهم، مما مكّن للقطرية والكيانية، وأعطى مساحة اضافية للمشروع الاسرائيلي في الارض العربية، ثم برر الاستعانة بالاجنبي.
وهكذا أسقطت الديمقراطية وهي جنين، لنتقدم مجموعات من الدكتاتوريات العسكرية او العشائرية في العديد من الأقطار العربية.
وسقطت فكرة الوحدة وهي جنين، في حين تعزز المشروع الاسرائيلي على حساب الانهيارت التي ضربت القضية الفلسطينية، أرض اللقاء العربي، في الصميم.
وعبر الحروب العربية العربية كان بديهياً ان تجد الكيانات الصغيرة ما يبرر لجوءها مجدداً الى الحماية الأجنبية مضحية باستقلال الدولة (بعد التضحية بحلم الوحدة).
فالكيانية حليف موضوعي لإسرائيل القوة القاهرة،
والكيانية انفصالية بالضرورة، ولا تجد ضيراً في طلب الحماية الأميركية متذرعة بطمع الأخ بأخيه وبالنزعات التوسعية عند بعض الحكام العرب متخذة من صدام حسين نموذجاً.
بديهي في هذه الحالة ان يضمر دور الجامعة العربية حتى الاندثار،
فتجميع الكيانيات في مؤسسة واحدة سيظل شكلياً… ثم ان الجامعة لا تتسع لكل أعلام الحماية التي تستظلها هذه الكيانيات.
ويمكن الاستشهاد هنا ولو سريعاً بالتجربة المتعثرة لتجربة مجلس التعاون الخليجي، وهو مجلس يضم من حيث المبدأ أنظمة متماثلة لكنها ممنوعة من التوحّد لألف سبب وسبب وأنتم بها أدرى مني.
* * *
لقد استهلك العرب الأنظمة جميعاً دون ان يبنوا نظاماً واحداً له شرعيته الشعبية.
استهلكنا النظام الجمهوري حين غيّبنا عنه الجمهور بضرب الديمقراطية
واستهلكنا النظام الملكي حين غابت عنه الشرعية الدستورية فظل مطلقاً يعتبر المُلك ارثاً عائليا وشخصياً ويعتبر الاعتراف برعيته تفضّلاً منه ومنة.
استهلكنا النظام العسكري الذي قضى على الديمقراطية باسم فلسطين، ثم قضى على فلسطين باسم السلام.. ولا سلام بلا فلسطين بل هو استسلام أكبر سيجر الى استسلامات لاحقة في مختلف الميادين.
استهلكنا نظام الاقتصاد الحر حين سخّرناه لمنافع طغمة مالية محدودة وجرّدناه من واجبه في الرعاية الاجتماعية، ومن الضوابط التي كان يمكن أن توفرها الديمقراطية والحركة الشعبية.
واستهلكنا النظام الاشتراكي حين أخذنا تطبيقاته المولدة للفساد والبيروقراطية، تحت لافتة العدالة، واستفدنا من نظمه البوليسية لضبط حركة الوعي والتحكم بالشعب بعيداً عن أهدافه وحقوقه المشروعة.
وها نحن نجد أنفسنا وسط حطام الأنظمة والأحزاب والمنظمات والعقائد،
إنه عصر النهايات.
لكأننا استهلكنا كل ما عرض في طريقنا، اقتباساً من الغرب او من الشرق.
ولقد خسرنا في مسلسل الهزائم التي مُنينا بها العروبة والاسلام معا، وخسرنا الدولة والديمقراطية معا، وخسرنا الاستقلال والثروة معا.
انه عصر النهايات لمرحلة عجز روادُها عن بنائها بما يتلاءم مع طموحات الانسان العربي وقدراته.
ولا بد من اصطناع عصر عربي جديد، فكرياً وثقافياً وسياسيا.
ولا بد من استيلاد فجر جديد، يكشح ليل الهزائم بدروسها الهائلة.
ان الإنسان العربي جبار.
تصوّروا انه استطاع ان يتحمل كل هذه الهزائم فلا يستسلم ولا يخرج على عروبته واسلامه، وما زال يقاتل بدمه وليس الا بدمه في فلسطين.
ان الإنسان العربي قادر. وهو اليوم أكثر أهلية لخوض معركة غده.
انه يعرف الخطأ ويعرف الخطاة والخاطئين،
ويعرف ان الحل ليس في تل ابيب ولا في واشنطن، ولا بالطبع عند حكامه الذين جروه بالقيود من هزيمة الى هزيمة.
يعرف انه هو هو الحل، لن يتبرّع له به عدوه ولن ينزل عليه من السماء.
لعلنا الآن أكثر وعياً بالحدود بين الصح والغلط.
لعلنا أعظم معرفة أين تكون نقطة البداية، وكيف تكون طريقنا الى غدنا.
لعلنا قد انتبها أخيراً، بعدما تحررنا من ثقل الأوهام والأساطير وأصنام الأبطال والأنبياء الكذبة.
وأول بداية صحيحة أن نقف ضد هذه الحرب عليها، بذريعة صدام حسين وأسلحته، فحساب صدام ونظامه عند الشعب العراقي وليس عند جيوش الاحتلال الأجنبي والوصاية الدولية.
(محاضرة ألقيت في المجمع الثقافي في أبو ظبي بدعوة من رابطة خريجي الجامعة الأميركية في بيروت)

Exit mobile version