الوعي السائد في المجتمع، أو مستوى المعرفة المتعارف عليها، تبلورها نخب سياسية وثقافية. تتلقى هذه النخب معرفتها من السلف والتقاليد والماضي، فتكون ذات عقل مستسلم، أو تتجاوز كل ذلك نحو تشكيل وعي جديد، لا يتناقض بالضرورة مع الوعي الموروث لكنه لا يقف عنده ولا يعترف به إلا حيث يلزم، أو حيث يكون متناسباً مع مقتضيات التجاوز. ما يهمنا هنا هو النخبة التي تستطيع أن تتجاوز وتتمرد فتقود مجتمعها وتحدث تغييراً فيه.
يكثر عدد خريجي المدارس والجامعات العربية. هناك شك لدى الكثيرين أن النخبة الثقافية تتشكّل من هؤلاء الخريجين؛ من بعضهم على الأقل. ينبع الشك بسبب المعرفة التي يمتلكها هؤلاء الخريجون؛ ومدى اتساع أفقها وعمقها.
يتخرّج الواحد منهم وهو يحمل شهادة. لم يكن هذا ممكنا لولا حيازة صاحبها معلومات. ماذا يحدث لهذا الكم من المعلومات في دماغه؟ هل هو مستعد للتساؤل؟ هل هو مستعد للشك بالمعلومات المتلقاة؟ هل هو مستعد للبحث في أسس ما يعرف؟ هل هو مستعد للتحليل والاستنتاج بما يخزّن من معلومات أو بما يرد أمامه؟ هل ان المعلومات أمامه حيزها واسع الشمول أم أفقها محصور؟ باختصار، هل هو مستعد وقادر على التمحيص في المعلومات التي يتلقاها؛ ويرفضها إذا اقتضى الأمر؟ هل هو مستعد للتمرد؟ أو يكتفي بعقل مستريح ووعي موروث؟
المعلومات لا تجعل من حاملها مثقفاً مهما كان اتساع الأفق وعمق الغور. الاشتعال الداخلي، والذي يسمى ملكة التفكير، هو المادة الحقيقية للمثقفين. القلق الدائم، وعدم الاستكانة أو الاطمئنان لأي معلومة أو معرفة؛ السعي الدائم وراء الحقيقة ربما لا يوجد ولن يوجد ولم يوجد. في السعي توجد الحقيقة، بين أيدينا، ولا نستطيع القبض عليها. لا يسعى إلا من كان قلقاً. ولا يقلق إلا من كان متسائلاً. ولا يتساءل إلا من كان ذا شك. ولا يشك إلا من كان ملتزماً بمجتمعه والحقيقة لدى مجتمعه والإنسانية. ليس مجتمعنا معزولاً إلا إذا أردنا ذلك. الدوران حول أنفسنا هو الانعزال. يحدث ذلك بتكرار واجترار ما لدينا من أفكار ومعلومات حتى ولو اعتبرناها سماوية.
يلتقي الباحث والمثقف حول ذلك. لكن الباحث أكثر ميلاً للتخصص والبحث الموضوعي، والتعمّق في مجال اختصاصه، والبعد عن اتخاذ الموقف السياسي. المثقف أكثر ميلاً لاتخاذ الموقف. لكن الموقف لا يكون جدياً إلا متى استند على البحث العلمي. ليس صدفة أن بلداننا العربية تخلو من مراكز البحث العلمي، سواء كانت تتعلّق بالعلوم المادية أو الإنسانية؛ وكأنها ممنوعة علينا، أو أن السلطات السياسية ترفضها لأنها تجد فيها ما يتعارض مع الدعائم المعرفية لهذه السلطة. وترى فيها ما يناقض الوعي السائد الذي يستكين له المجتمع. كل منهما عدو للبحث العلمي ولنشوء فئة مثقفين دعامتها الباحثون. العائقان هما استبدادية السلطة
وسيطرة التقليد المستسلم للماضي. كلاهما يساهم في نشوء العقل المغلق، الذي يدور حول نفسه؛ وكلاهما يخاف ويعارض التجاوز والخروج من الدوران حول الذات. وكلاهما يعتبر الجديد خطراً عليه. إن خلو بلادنا من مراكز بحث جدية هو تعبير عن هذا الخوف الذي يؤدي الى معارضة شرسة لما هو جديد، والى القمع ضد الرؤوس التي تعتقد أن حرية البحث حق لها وواجب عليها.
لا يتطوّر المجتمع إلا من داخله. غير ذلك يعتبر استعماراً أو استبداداً. الاستبداد أيضاً قوة خارجية. تربض فوق المجتمع وتضغط عليه وتمنع تطوره. على الأقل، هذا هو نوع الاستبداد الذي شهدناه في بلادنا العربية. أما الاستعمار، فعندما يفرض نفسه يجر الناس الى تعبئة من أجل التحرر الوطني، والى نسيان ضرورة التطوّر والتجاوز.
لا تفيدنا العلوم الدينية في تقديم حلول لمشاكل مجتمعنا. معظمها اجتهادات استنباطية. نستخرج الأحكام من قوانين معطاة سلفاً. هي لا تزيد لمعرفتنا النظرية شيئاً، ولا تساهم في التطوير باتجاه التجاوز. تدعي أن مهمتها الحفاظ على استقامة التقوى. التطوّر لا يحدث بالسير على صراط مستقيم. بل يحدث على طريق متعرجة تخلو من الاستقامة.
الاستبداد الذي لدينا لا هم له إلا البقاء في السلطة، ويرى ذلك مرهونا بإبقاء الوعي السائد. حتى الاستبداد المستنير أمر نفتقده. استبداد مسكون بالماضي، يرى العلوم الدينية دعامة له. لم يكن صدفة أنه منذ عقود والاستبداد يتلاعب بالدين؛ يحارب بعضه ويشجع بعضه الآخر، ويتبنى مظاهر التقوى كي يحافظ على قاعدته التقليدية.
يتعاون الاستبداد والتقليد على مجتمعنا، وإن اختلفت المظاهر لدى كل منهما. يتصارعان لكن البنية الفكرية واحدة عندهما. كل منهما يعتبر أنه يمتلك الحقيقة. حقيقة المجتمع وما يمكن أن يؤول إليه. يختلف جوهر الحقيقتين، لكنهما تتغازلان في تحالف شيطاني ضد المجتمع. تعتبران أنه يجب أن تبقى الامور كما هي. رؤية كل منهما رجعية أو ما يشابهها. رغم ادعاءات تقدمية عند طرف دون الآخر.
المقارنات مع التجارب التاريخية للشعوب الأخرى في العالم ربما تكون مفيدة. تقدّم اليابان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قامت به نخبة. استقلال الولايات المتحدة ودستورها قامت بهما نخبة. نهوض روسيا في بداية القرن الثامن عشر قام به قيصر مستبد. ثورة فيتنام قام بها حزب على رأسه هوشيه منه المستنير. نهوض ماليزيا منذ الاستقلال في 1962 قامت به نخبة قليلة العدد. نهوض سنغافورة قام به قائد تاريخي هو “لي كوان يو”. استقلال الهند قاده غاندي سلمياً بواسطة الاضرابات، وتابعه بعد الاستقلال مثقف اسمه نهرو. تحرر افريقيا الجنوبية حدث ونلسون مانديلا في السجن. نهوض كوريا الجنوبية قامت به شركات احتكارية مع حكام فاسدين. نهوض الصين الرأسمالي يقوم به حزب ستاليني-ماركسي مع فساد واسع الانتشار. لم يكن صحابة النبي على رأس الفتوحات العظيمة منزّهين عن الغنائم. بعضهم توفي ولديه ثروات هائلة بكل المقاييس. الفقراء قتلوا الخليفة الثالث، الخ… وكل هذه التجارب قلدت ثقافة الغرب.
يبدو أن النخب لا تنشأ إلا في مجتمع مفتوح. تحتاج النخبة الى تبادل أفكار، والى حوار تتصارع فيه الرؤى. من قواعد الحوار أن يرى كل طرف أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، وأن رأي الخصم خطأ يحتمل الصواب. يكون السعي وراء الحقيقة عن طريق إزالة الخطأ لدى كل فريق. في الغالب، يظهر الخطأ حين يكشفه الخصوم. يحتاج الحوار الى ملكة التهذيب. ليس لدينا حوارات كالتي دارت بين محمد عبده وفرح أنطون في آخر القرن التاسع عشر. منذ الثلاثينات صار لكل فريق وجهة نظر لا يتنازل عنها ويرى فيها الحل. الإسلاميون رفعوا شعار “الإسلام هو الحل”. لا ندري عن أي إسلام يتحدثون. الاسلام التاريخي فيه تعدديات كثيرة واجتهادات متناقضة. حتى الرجوع الى الكتاب المقدس احتاج الى مراجعات عديدة، وإلا ما كان ليصدر تفسير جديد للكتاب كل بضعة عقود. صدق من قال أن الكتاب “حمال أوجه”. نفاق السلطات أكثر لؤماً. لديهم حقيقة معلنة. كل من يخالفها يقمع. القمع لا يستند الى قانون. القوانين فيها ما يبرر للسلطة قمعها مثل تلك التي تنص على معاقبة من يمس “الشعور القومي” أو “الشعور الديني”. هذا يفسح المجال أمام الاستنسابية والعشوائية. تتحالف الأطراف الدينية والسلطوية تحت الطاولة، ويدخلون في حروب أهلية أمام الجميع. مهمتهم الأساسية قمع الناس وسد الأفواه.
حتى في أيام العثمانيين كان المجتمع مفتوحاً أكثر مما هو الآن. كان أفق الأفكار أوسع. وكان النقاش بين مختلف الأطراف أكثر جدية. وكانت الصحف أكثر عدداً، والكتب أكثر نزقاً. وكانت وتائر النمو الاقتصادي في القرن التاسع عشر أعلى مما وصلت اليه في القرن العشرين في أرجاء الوطن العربي قاطبة، وكادت تتشكّل نخب ثقافية لا نرى مثيلها الآن.
المجتمع المفتوح ليس ضمانة بحد ذاته. هو مجال للحوار والتقدم. مجال تستخدمه النخب من أجل نشر أفكارها. قضي على هذا المجتمع المفتوح في السبعينات. بوادر ذلك بدأت في أواخر الثلاثينات مع ظهور النفط. استولى العقل التقني. اعتبرت السلطات السياسية والثقافية أنه يمكن استيراد منتجات الغرب من دون ثقافة الغرب.
تعني ثقافة الغرب، قبل كل شيء وفوق كل شيء، سيطرة العقل النظري والفلسفي؛ وطرح الأسئلة الكبرى حول المجتمع والكون. هذه الأسئلة لا نطرحها. يجبرنا القمع على استيراد التقنيات والتمتع بمنتجاتها. بالمقابل نحتفظ بما عندنا من موروث ثقافي.
تنشر بالتنسيق مع موقع الفضل شلق