وصلني صوته يتذمر ويتأفف من قبل ان يملأ الباب بزفرة حرّى كانت تظلل وجهه المغطى بالغيظ والعرق والضيق بحر الصيف البيروتي الرطب..
قال يكمل ما كان يدمدم به في الخارج:
نصائحك العظيمة، يا سيدي، ستقضي عليّ. طوّل بالك، طوّل بالك. وظللت أطوّل بالي حتى التف كحبل من حول عنقي، وها انا اكاد أختنق! هل تصورت يوماً ان الحب، كثرة الحب، قد تخنقك؟! انا اعوم فوق بحيرة من الحب. لم يتبق في منزلي من الهواء ما يكفي للتنفس. استهلك الحب كل الاوكسجين في البيت!
حاولت ان امازحه لعله يهدأ، قلت:
ولكنك انت من كان يعلن ان الحب هو الحياة، وان الحياة من غير حب هي جحيم! ألم تبلغني، ذات يوم، انه لو كان الحب يُعطى حسنةً لوقفت عند باب الجامع تستعطي الناس فُتاتاً من الحب حتى تحس بإنسانيتك!
قاطعني بشيء من الحدة:
أما اذا افترض أحدهم ان ليس في الحياة الا الحب فستكون مصيبته أعظم من ذلك الذي يراها سديما او صحراء لا تنبت الا اشواك البغض والحسد والحقد، وإلا فالحيرة الباردة التي تقتل في الانسان الانسان.
لم أعلق، تركته يجفف عرقه، ويطلب لنفسه فنجان قهوة، ثم يشعل لفافته الأنيقة ويسحب منها نفسا عميقا قبل ان يعاود الكلام فيقول:
انني اتقافز بين حب وحب حتى اكاد اسقط من الاعياء وفقدان التوازن! كل من في بيتي غارق في الحب الى ما فوق اذنيه. انني اعيش مع مجموعة من العميان. ثم انهم لا يسمعونني. أُحدّث الواحد منهم، او بالاحرى احاول محادثته، فأكتشف انه ينظرني فلا يراني، فإذا ما رآني لم يسمعني، فإذا ما سمع لم يعِ ما أقول.. وأحس انه مشغول عني تماماً، حتى اذا ما رن جرس الهاتف عاد اليه الوعي والسمع والنظر والاحساس.. بغيري! ان عدوي الأعظم الآن هو جرس الهاتف! كان لا يرن الا من اجلي وفي طلبي، والآن لا اكاد ألمس السماعة التي تتنقل بين اياديهم هم، والتي اجدها اذا ما صادف ان استخدمت الهاتف مرطبة لكثرة ما ألصقوها بآذانهم، ولطول ما احتضنوها بحنان!
أهي الغيرة، ام فقدان السيطرة، ام الاحساس بالهرم؟!
غيرة؟! هه!.. ما هذا السخف؟! وهل يعرف هؤلاء الجراميز كيف يحبون؟! ليتهم يعرفون الحب الذي أضاء حياتنا وأسعدنا وأمتعنا وجعلنا بشراً!.. ان حبهم من نمط خاص، مثل نمط أكلهم، ومثل نمط ملابسهم! كله »من قريبو«. سوف تقول عني أعرف انني رجعي، او، اذا ما خففت الحكم، محافظ، وانني انتمي الى عصر مضى وانقضى وعفى الزمان على قيمه ومفاهيمه، بما في ذلك المشاعر والأمزجة ووسائل التعبير عنها. ولكن الحب أنبل وأرقى وأبقى من ان يتم إخضاعه للموضة وتبدلاتها، فيكون طويلا سميكاً في الشتاء، ورقيقا شفافا في الصيف، مزهّراً وقصيرا في الربيع، قاتماً وممطوطاً حتى الكاحل في الخريف.
قلت بلهجة الحكيم صاحب التجربة العريضة:
إنه عصر آخر، عصر لغيرنا، وعلينا ان نسلّم بأننا نكاد نصير أغراباً فيه. ماذا تفهم حضرتك في الكومبيوتر؟! هل تمضي نصف يومك مستلباً، مستمتعاً، متوغلا داخل شبكات الانترنيت؟! لماذا تقبل ما أنتجه العقل الانساني من ابداعات واكتشافات علمية غيّرت حياتنا جميعا، ولا تقبل ما تنتجه هذه التحولات المذهلة من تبدلات في مفاهيمنا وفي قيمنا وفي مسلكنا، وفي وسائل التعبير عن مشاعرنا؟! هل سمعت او تسمع من ابنائك، مثلا، جملاً طويلة، او جملاً مفيدة، كما كنا نقول في ايامنا، ام هي بضع كلمات مبتسرة، مع شيء من الهمهمة، وكثير من الاشارات والغمزات والسهوم والنظرات الجامدة التي تشي بالعجز عن التعبير؟!
قال بشيء من الضيق:
ثم تسألني كيف لا أفهمهم؟! انني احاول، وكثيرا ما اجتهد، فتواجهني خيبتي في سهومهم اللعين هذا! أجتهد لفتح نقاش هادئ وجاد، فأمضي الوقت اتحدث وحدي. اسكت لعلهم يردون، فلا يقولون.. أعيد توضيح فكرتي، فلا يعلقون! أرجوهم ان يبلغوني ما يفكرون فيه. أُبدي استعدادي لأن اسمع، لأن اتفهّم، لأن أقبل منهم ما أجده منطقياً او حيوياً لهم، حتى ولو كان معتل المنطق، لكنهم لا ينطقون. يحملقون بي، وقد تصدر عنهم نأمة او غمغمة او همهمة، وقد يقول واحدهم جملة ناقصة، ثم يغرقونني في صمتهم فأجد نفسي على حافة الجنون.
قلت ممازحا:
انه عصر الملخصات والاختصار والاختزال. العالم يختزل ببعض القوى العظمى، والقوى العظمى سرعان ما تختزل بواحدة. الدول تختصر بحسب غناها، تقدمها الصناعي او ثرواتها الطبيعية. خذ منطقتنا مثلا، لا أهمية لكل امتدادها الهائل. وحدها آبار النفط هي العزيزة، وهي التي تُفتدى بالدم. الشعوب تُختزل بالاقوياء من السلاطين. الكتب تختزل بالكلمات الدالة، الصحف تختزل بعناوينها. الاسماء، حتى الاسماء تختصر ببعض الحروف منها.. بل ان التحيات تختزل بلفظة، او مقطع يذهب بالخير والسلام ولا يستبقي الا »هاي«!
لم أنجح في جره الى اللعب. كان مكلوم الفؤاد، حزينا ومرتبكا وسط عجزه عن الفهم، ثم عن التصرف.. تنهّد بحرقة قبل ان يقول:
الحب نعمة. الحب هو السعادة. الحب هو اكسير الحياة، فلماذا يتحول معي وعندي الى نقمة؟! لماذا يأتيني بالشقاء؟! كنا نعيش سعداء في حب واحد، فلما زاد علينا الحب تفرقنا ايدي سبأ. أخذ الحب كلاً من الى دنيا بعيدة. صرنا جبهات حب متواجهة. صار كل منا يتحصن وراء متراس حبه. أدخلنا هذا الطوفان من الحب في حرب اهلية داخل البيت الواحد.. هل هذا معقول؟!
امتدت إليّ حيرته وغمرني بعض عذابه بالغم، فقلت محاولاً تغيير الجو:
ولكنك داعية الحب الاول. لطالما كتبت للحب وعن المحبين. لطالما غزلت من الحب قصائد وعلقتها تميمة في آذان العشاق. ألا تذكر الرسائل التي كانت تصل الى الاذاعة طالبة اعادة بث حلقات من برنامجك »يا حبيبي«؟! أنسيت الاتصالات الهاتفية التي كانت تطاردك حتى في البيت؟! أيضيق صدرك بالحب الآن؟!
قال بشيء من القلق:
ولكن هل هو الحب؟! لقد بعثرنا الحب فكدنا نتباغض. أخشى ان يكون ما نحن فيه مجموعة من الانانيات المتصادمة. أعرف ان الحب يجعلك تحب الدنيا والناس. اعرف انه يجعل المشاعر أرق وأصفى. انه يقرّب بين الناس ويُسقط الحواجز التي كانوا يتوهمون انها تفصل بينهم.. أما عندي فقد أقام الحب حواجز بين الاخوة. بين الأم وبنيها. اننا نعيش في ارخبيل من الحب، لكن كل جزيرة منفصلة عن الاخرى، لا يسمع واحدنا الآخر، وأحياناً لا يراه، او لا يحب ان يراه، كأنما يخاف منه.
لم اجد ما ارد به، فاندفعت مع ميلي الطبيعي الى التسوية.. قلت:
هي مرحلة مؤقتة.. انه قانون طبيعي: ننفصل، في لحظات محددة، لنزداد اتصالاً بالعمق. لقد انتهى عهد الطفولة. هم الآن في عمر القرار. ان كلاً منهم يبحث عن نفسه ويحاول ان يؤكد نفسه. انهم يفترضون انهم انما يؤكدون لك قدرتهم على الاختيار. انهم يحاولون بأسلوبهم طمأنتك الى انهم يعرفون..
قاطعني صارخاً:
ولكن، ماذا تراهم يعرفون؟! انهم على مقاعد الدراسة بعد! انهم لا يعرفون عن الحياة شيئا! انهم يفترضون وكأن كل شيء سيظل يأتيهم بلا جهد او تعب. لا ينتبهون الى انني دفعت عمري كله من اجل ان اوفر لهم حياتهم المريحة.
قاطعته انا هذه المرة:
إياك ان تبدأ هذه النغمة. لقد فعلت ما هو واجبك، وهم لم يخذلوك. لقد نجحوا في دراستهم ولم يتوهوا او يشردوا، وسمعتهم، ولله الحمد، طيبة، وكثىرون هم من يتمنون لو كان ابناؤهم مثل اولادك..
هدأ قليلاً ولكنه لم يستسلم، قال:
ها هم الآن يبتعدون. لم تعد لي عائلة. لكل منهم عالمه المنفصل، فلا يعرف احد عن الآخر شيئاً. وحين أظهر استغرابي، تتوالى مرافعات الدفاع، لتظهر لهفتي عيباً، ولتُظهر التباعد وكأنه ممارسة طبيعية للحرية.
توقف لحظة عن الكلام، ثم انفجر:
لست عجوزاً، بعد، ولست رجعياً، ولست عدواً للحب، ولكنني ابحث عن نفسي فلا اجدها. لقد أضاعوني.
أمسكت بنقطة ضعفه:
المشكلة انت، اذاً، لا هم؛ موقعك ودورك وسلطتك. ولكنك فيهم. حاول ان تشعرهم بسعادتك لأنهم يحبون. حاول ان تسبح في بحور حبهم بدلاً من ان تخاف الغرق فيها. طمئنهم. شجعهم. ابقَ معهم وإلى جانبهم، ولو صامتاً. انهم انت، لكن زمانهم مختلف. هم لا يملكون فصاحتك. وقد لا يعرفون كيف يشرحون حالتهم، ولكنهم يعرفون كيف يعيشونها.
في هذه اللحظة سمعنا قرعاً خفيفاً على الباب. كان قد حان موعد موكلتي التي يطلبها مطلقها الى بيت الطاعة ليتملص من »النفقة«.
دخلت السيدة يتقدمها عطرها وجمالها الهادئ. وقفنا معاً، بينما كانت تواصل اعتذارها:
لم اجد الحاجب ليستأذن لي، آسفة إن كنت قد قطعت حديثكما.. هل أنتظر؟!
سبقني الى مصافحتها مقدماً نفسه، وقد استعاد بعض حيويته وبعض زهوه. وقال وهو يهمّ بالخروج: أنا عائد الى ارخبيلي. سأحاول ان أتعلّم السباحة.
وعند الباب التفت مستأذناً وهو يقول: أتمنى لك التوفيق يا سيدتي، وصديقي الممتاز هو افضل من ينقذ المهددين بالغرق!
نظَرتْ إليّ بكثير من الدهشة، فهربتُ من عينيها مندفعاً نحو المكتبة وكأنني أبحث عن »مرجع« معيّن.. وجاءني صوتها عميقاً:
هل صديقك مثلي، إحدى ضحايا الحب؟!
قلت وقد استعدت بعض وقاري:
كلنا ضحايا الحب، بعضنا يفيض عليه فيغرقه، والبعض الآخر يقضي عطشاً بينما الطوفان يُغرق الارض من حوله.
الشاهد وعاصمة الأمل
لبيروت الاميرة الشعر وأهازيج فرح الصمود ومجد المقاومة.
ولقد أرجأ ميشال سليمان الإفراج عن قصائده في بيروت الأقوى من الغزو والحصار حتى ارتأى ان الأوان قد حان فأصدر ديوانه الجديد »عاصمة الأمل«.
»وقف المساء على حروف زواله
يصغي وينحب
لا سؤال، ولا جواب..«
من 7 حزيران 1982 وحتى 28 آب 1982 أرّخ ميشال سليمان للأحياء جميعاً في المدينة التي فضلت ان تحترق ولا ترفع الاعلام البيضاء: من الاوزاعي الى اقصى بيروت في الطرف الآخر، الشواطئ جميعاً وقلب المدينة، البسطة، المصيطبة، باب ادريس، ساحة الشهداء، المزرعة، الاشرفية، الحمراء، ساقية الجنزير، شارع فردان ورأس بيروت، عند المتحف، وبين الحمراء وعروس البحر الخ…
ليست »يوميات الغزو« في ذلك الصيف المشتعل بالنار الاسرائيلية. انها يوميات بيروت وأهلها الذين بقوا وسيبقون فيها ابداً
»لم يبق لنا ارض وسماء
»لم يبق لنا الا الغضب المر
»سلاح الفقراء«
…
»الصبار المترامي حولي يسألني:
»هل أزهر؟«
…
»كان الهواء الثقيل يبدد ما جمعته الغيوم
وكف الجريمة تعقد ميثاق قتل جديد..
»يا سحب الارض، متى تقضين
حقوق الظمأ الفضاح؟!«
…
»جهيراً يصير الكلام اذا احتدم الدم
»فيما القناع المفصل طبقاً لعري الوجوه
يهرول شطر الحكام«
…
»حتى العصافير في موطني
»اصبحت تعرف طعم الألم«.
ميشال سليمان الشاهد الذي رأى وعرف، وعبر الموت، فبقي وعاش وهو يردد »اعطيت العالم لكني.. اهوى بيروت«، وديوانه الجديد ليس اكثر من اعتراف متجدد بالحب القديم.. المقيم.
من أقوال »نسمة« الحكيم
قال لي »نسمة« برقته التي تكاد تظهره عيياً:
إياك والاحتراق. احفظ الحلم ندياً في قلبك وأكمل حياتك.
وقال لي »نسمة« المشتعل حباً: لنا نساء الارض جميعاً ما عدا واحدة هي تلك التي نحب. لتبق واحدة خارج المطبخ وبعيدة عن طشت الغسيل!
وقال لي »نسمة« الذي يحمل ندوب حبه على وجهه: انها في سويسرا الآن، لكن الحلم معي دائماً.
وقال لي »نسمة« الممتلئ بعد الحب حكمة: الحياة بلا احلام جيفة. كيس زبالة. أمراض وهموم وأزمات مالية وسلسلة من سوء التفاهم مع الذات ومع الآخر.
الحب وحده يعطي الحياة معنى، تصير لائقة بالانسان. والحب مثل البلبل لا ينجب في الاقفاص. حبك حريتك، والباقي واجبك. قم بواجبك ولا تفقد حريتك.