طلال سلمان

الطائفة والجماعة الدينية

تستند الطائفة إلى الدين أو المذهب في تشكلها لكن يغلب عليها الطابع السياسي. لا يهم الطائفيين ممارسة الطقوس الدينية بقدر ما يهمهم حقوق الطائفة، بالأحرى حصة الطائفة في مغانهم السلطة، سواء كانت هذه مادية أو معنوية. تغلب على الجماعة الدينية ممارسة الشأن الديني على السياسي. الأولوية عندها للدين قبل السياسة، واستقامة ممارسة الدين على حنكة السياسة والسياسيين، لكن يمكن للجماعة الدينية أن تُشكّل ثقافة مغايرة.

ليس ما يمنع أن تكون الجماعة الدينية أوسع أفقاً وأكثر تسامحاً من الطائفة. لكن ذلك يكون عبر حدود ثقافية تمليها الجماعة على نفسها، وفي الحالتين، يكون الدين ثانوياً والإيمان أضعف من الاعتقاد. في الحالتين، يتجاهل أصحاب الملة أن الله كوني الطابع، وهو مستحيل الوجود دون هذه الصفة، وأن الإيمان به يُحتّم أن يكون الدين لا طائفة ولا جماعة منتمية إليه. خلو الدين من التناقض الذاتي يفترض أن يكون كونياً كي ينسجم مع الطبيعة الإلهية، لكن هذا ما لا يحدث في العادة. الأديان جميعها ضيقة النَفَسْ، ولا تحتمل التبعات الكونية.

يعتقد أصحاب الملة أنفسهم أن انتماءهم يجعلهم فوق الآخرين وأكثر نبلاً، وهذا ما يدفعهم إلى الإستعلاء واعتبار الآخرين أدنى منزلة مهما كان وضع كل منهم في السلم الاجتماعي. في الصراع أو لنقل في المنافسة على السلطة، هم يستندون الى تشريف أنفسهم بالدين وادعاء امتلاك الحقيقة. حقيقة الحياة، كل الحياة، وفي إعطائهم الأولوية للدين، لا يعني أنهم لا يتعاطون السياسة بل هم يخلطون بين الدين والسياسة، بحيث تكاد لا تُميّز بين الإثنين. الدين السياسي هو تحويل الدين الى السياسة، والسياسة الى الدين، بحيث نكاد لا نجد الدين ولا السياسة، والفرق بينهما؛ هو إلغاء السياسة بمعنى الحوار، إلا ما يجري عبر سياجات الثقافة ومن خلال تحالفات مع أبناء الطائفة أو خارجها، فيبدو الدين والسياسة على غير ما يجب أن يكونا عليه. إلغاء السياسة بمعنى التسويات يجعلها غير ملاءمة للدستور والقانون، بل تجنباً لهما، وذلك لصالح تأكيد وجهة النظر الذاتية. فما يريده أصحاب الدين السياسي ليس اعترافاً بحقائق موضوعية بل إعلاء الذاتي على الموضوعي، والنفس (الذات) على الآخرين؛ ولو جاء ذلك على حساب الدولة وأدى الى خرابها. إذ يؤول الأمر للذات المنتفخة، وسيّان الأمر سواء صَلُح أمرها أم لا؛ ذلك أن الناس ومصالحهم والجمهور ومطالبه وحتى الطائفة وما يُزعم أنها حقوقها ليس أولوية لديهم. كل ما هو تعبير عن وجود الناس لا مكان له إلا في خدمة القضية التي يمنحونها وشاح القداسة. وفي النهاية، تؤول القداسة الى بعض شخوصهم الذين إذا تكلموا مع الناس فذلك ليس على سبيل الحوار، لأنها ليست مخاطبة باتجاهين، بل هي في اتجاه واحد بين الخطيب والمتلقي. وما على المتلقي سوى إبداء السرور بما يتلقى؛ وهو يعتبر أو يفرض عليه الاعتبار بأنه قد تلقى القداسة بعينها. قداسة تنبذ الخطأ، لا بمعنى أنها لا ترتكبه بل بمعنى إنكار أنها يمكن أن تقع فيه. فالقداسة “ضمانة” ضد الخطأ، والدين هو بوليصة التأمين. الدين السياسي وعاء لجماعة دينية تتعاطى مع الآخرين باحتقار، وذلك يشمل الدين والسياسة. بنظرهم، ليس لدى الآخرين ما يقدمونه لخير المجتمع سوى الخضوع والطاعة، اللتان يظهرونهما عن طريق ترداد بعض الشعارات التي تكتسب قداستها من أصحابها لا من الواقع الذي تعبر عنه. الواقع يتبع شعارات، والوجود يخضع للقضية. ولا حساب  للمصلحة، مصلحة المجتمع، إلا بما يعتقدون وهماً أنه يعود عليهم بالربح أو الخسارة. هم حبساء أنفسهم. عبيد ذواتهم. أتقياء قادتهم. لا يأتون إلا بما تعجز عنه الآلهة كما في أساطير اليونان ومصر الفراعنة وبقية الحضارات القديمة. لدى “أسياد الشامانات” تعويذة لكل شيء. وكل تعويذة كفيلة بإزالة آلام الناس؛ والأمر هو أن ما يظهر على الشاشة هو الخراب والدمار. أما الألم فهو ما يتفاعل داخل كل فرد من الناس، إذ هو مشاعر مكبوتة، وما كبتها مسألة مقصودة، ولا إخفاؤها مما يمكن إظهارها، إذ يبقى الألم هو الخصوصية؛ الحياة الخاصة التي “يتمتّع” بها كل من أفراد العامة خارج الجماعة الدينية.

ليست الجماعة الدينية بما يختص بدين أو بمذهب دون آخر. هي موجودة لدى الجميع، إذ أن في العالم كله صعود لما بعد الحداثة والنيوليبرالية والفاشية، حيث تعلو لدى الجماعات الذات على الآخرين، وحيث لا حساب للموضوع إلا وفق ما يتناسب مع أصحاب القضية؛ لذلك شأنهم هو تدمير الدولة كإطار ناظم للمجتمع، ولا اعتبار لها إلا في المركز الإمبريالي. لدى كل جماعة من هذا النوع ميل لإفقاد الدولة نصابها. وتمتد العدوى إلى المركز الإمبريالي نفسه، أو تكاد. الجماعة الدينية، وإن عزلت نفسها خلف حجب الأيديولوجيا، إلا أنها امتداد لما يجري في العالم.

تكاد الجماعة الدينية أن تكون حزباً. فهي تنظيم له هيئة مركزية. من الطبيعي أن يتحكم بها فرد، وله سلطة ذات قداسة. وهذه السلطة تشع على الأقربين، ومن الأقربين إلى بقية المريدين والأتباع. وهي مثل كل حزب دعوي الطابع، لكنها تختلف في أن الدعوة محصورة بأبناء الطائفة، بينما الحزب يدعي أن دعوته لكل الطوائف، ولو كذباً.

الحزب شائع عند أهل الدعوة، أو لدى الجماعة الدينية، طمعاً في الدنيا والآخرة. يكرهون أن تخضع أفعالهم لحسيب أو رقيب، أو أن يحتسبوا نتائجها. هي القضية المقدسة وحسب. هم أولياؤها، وفي تولي القضية ربما قادهم الأمر إلى تولي المجتمع بكامله. إذ يحتكرون الاستقامة، وهي مقتصرة في اعتبارهم عليهم وحدهم. وما بقية الناس إلا ابتلاء أصيبوا بهم، أو يتكفل به غيرهم.

تتراجع مجتمعاتنا وتصير مسارح للاعبين. لا إرادة للشعوب عليهم. لم يكن الأمر كذلك خلال العقود الماضية. أما ما صار إليه فهم لا يعتبرونه شأنهم!

تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق

Exit mobile version