لم تكن ريم الأطرش تقصد أن تسفّه التاريخ المدرسي الرسمي المقرر في لبنان، ولا ان تستثير الذكريات الحميمة الغافية في صدور بعض الصبيان والبنات عن مغامرات المراهقة في أحضان ديدان القز، وهي تطلق دراستها الميدانية الجادة عن »الحرير في سورية لواء اسكندرون سورية ولبنان«.
لكن »حجر« ريم منصور الاطرش اصاب الهدفين معاً مستدراً مجموعة من التداعيات يهون »السياسي« منها أمام »الشخصي«، ولا سيما انهما من مواليد الفترة نفسها، ويتسمان بالقدر ذاته من القصور.
ذلك ان كتب التاريخ المقررة رسمياً على اطفالنا قد علمتنا ان دود القز، ومعها شجرة التوت، وبالتالي صناعة الحرير؛ كل ذلك من الاكتشافات العبقرية للأمير الذي نصبته الأساطير المحبوكة لهدف سياسي محدد إماماً للوطنية والسيادة والتحرر والاستقلال والعنفوان: فخر الدين المعني الثاني المعروف ب»الكبير«.
بعد كتب التاريخ جاء الرحابنة فغلفوا بإبداعهم الفني هذه الاسطورة وطرزوها بصوت الساحرة فيروز ورخامة الطرب الشجي التي تميز بها نصري شمس الدين، فرسخت الاسطورة في النفوس طاردة كل حقائق الزمان والمكان عن تلك الحقبة من تاريخ لبنان وما تلاها حتى اليوم.
قالت لنا تلك الكتب التي أنتجتها مؤسسة طائفية تتعاطى السياسة فتغرر بالعامة وتشوّه النشء الطالع، ان الأمير البطل كان قد انشأ »حلفاً« مع امراء فلورنسا، في ايطاليا (التي لم تكن قد وجدت كيانها السياسي الموحد بعد)، وهم من آل مديتشي.. ثم تجاوزت الكتب تبرير هذا الحلف لتقول ان فخر الدين قد قبس عن آل مديتشي صناعة الحرير، وأراد ان ينشرها في لبنان فجاء ببيوض ديدان الحرير (او دودة القز) من توسكانا، وشجع زراعة التوت في إمارته فازدهرت وازدهر معه شعبه العنيد، فقاده الى إلحاق الهزيمة بسيف السلطنة الطويل في عنجر.
ومع ان الأمير المستند إلى حلفه الوثيق مع اقرانه من آل مديتشي الفلورنسيين لم يلبث ان مات مختنقاً بالدخان في مغارة لجأ إليها بعدما حاصره العثمانيون ببعض آل بيته، فإن حكاية دودة القز طغت على ما عداها وقدمت صورة زاهية للأمير المستنير.
وها هي ريم منصور الاطرش تجيء ببحثها الرصين والمتميز بالدقة العلمية والمستند الى شهادات ومشاهدات ميدانية، فتفضح من دون قصد او رغبة منها أعمال التزوير المتعمد ولأهداف طائفية قابلة للاستثمار سياسياً في كتابة تاريخنا والتي تجعلنا خارج التاريخ.
فالدراسة التي قادت الباحثة الجادة الى مختلف المناطق المعنية (في لبنان تحديداً: كفرشيما، معاصر بيت الدين، شحيم، ذوق مكايل وضبية)، أثبتت حقائق تنقض التاريخ المدرسي الرسمي لدودة القز وزراعة التوت وصناعة الحرير، وإن كانت لم تنكر دور الامير فخر الدين في تعزيزها.
بين الوقائع التي يثبتها كتاب ريم الاطرش »الحرير في سورية لواء اسكندرون سورية ولبنان) نورد هنا الأطرف:
} ساهم العرب في إدخال صناعة الحرير الى اوروبا عبر طريق الاندلس.
} قام الخليفة الاموي الاول معاوية بن ابي سفيان بإنشاء مصنع لنسج الحرير في قصره بدمشق في العام 665م. (اي قبل ألف سنة على ظهور الأمير فخر الدين) فعرفت منسوجاته ب(الطراز).
} في العصر العباسي انشئ مثل هذا المعمل في حلب وصور، وكانت الانسجة الحريرية السورية تباع الى الاسواق الاوروبية.
} يقال إن احد الفرسان الصليبيين ويدعى سانت اوبون (كل فارس صليبي قديس!!) قد اخذ من سورية شتلة توت في العام 1147 ونقلها الى فرنسا وزرعها هناك فكانت اول شجرة توت تزرع في فرنسا (هذا يعني اننا صدّرنا التوت ولم نستورده..).
} اثناء السيطرة المملوكية ثم العثمانية كانت دمشق تشتهر بإنتاج الحرير، وكان منه اكثر من 40 صنفاً.
} في العصر الحديث انتشر الحرير بكثرة في القرن السابع عشر، زمن الدولة المعنية في لبنان الذي كان سباقاً في تربية دودة القز.
} في القرن التاسع عشر كان عدد الأنوال في دمشق 3 آلاف وفي حلب 6 آلاف.
} كان عدد اشجار التوت في ولاية سورية (ولاية دمشق) حوالى (000،395،3) شجرة موزعة في البقاع ودوما وبعلبك ووادي العجم وحاصبيا ومرجعيون وراشيا والسنبك والقنيطرة وحوران وجبل العرب.
أما في ولاية بيروت فكان عدد الاشجار حوالى (000،170،9) شجرة، موزعة في بيروت وطرابلس واللاذقية وعكا. وكان في لبنان كله حوالى 28 مليون شجرة توت.
هذا، وبين الاساطير الظريفة التي توردها ريم الاطرش في كتابها:
في العام 120م. قامت احدى الاميرات الصينيات المخطوبة لأحد امراء الهند بنقل بيوض ديدان الحرير وبذور التوت الى الهند، ودربت بعض الهنود على تربية دودة الحرير فانتشرت صناعة الحرير هناك.
} في حوالى العام 555م. انتقلت صناعة الحرير من الهند الى »الشرق الاوسط« على ايدي راهبي جبل آثوس.. ويقال انهما قاما بتهريب بيوض فراشة الحرير في عصا مجوفة. وهذه اسطورة جميلة، لكن لا علاقة لها بالحقيقة.
مشحوف الأهوار لم يرجع اليها
حين وصلنا كان محمد عبد الوهاب في انتظارنا يغني الاهوار وأهلها بصوت الفرح الذي لم يعرفوه.
لم تكن تلك هي »البندقية«، ولم يكن ذلك هو »الغندول«، ولقد شحبت صورتهما ونحن نغرق في بهاء الصباح المتعابثة شمسه فوق صفحة الماء، والمتوارية احياناً في ظلال النخيل المتناثر مخابئ ومهاجع كمثل ارخبيل من الخضرة الكامدة وسط البحر الطيني تخالطه الزرقة الصافية للسيل المسافر بلا تعب نحو شط العرب.
كنا في الاهوار.
لا ارض هنا.. والنهر مجموعة من المجاري العريضة تفصل في ما بينها شطائر من التربة المثبتة بأشجار النخيل، حتى لا تستحيل مستنقعاً مسبخاً.
و»المشحوف« هو الموعد والطريق، هو المكان والزمان.
المجداف بسيط، والفلاح الغليظ الملامح مضياف ولوجهه ملامح الارض التي تضيع منه فيستعيدها من قلب اليم الجارف.
لا يكون مثل هذا الهدوء إلا في من غلب الطوفان.
ولا تكون مثل هذه الرقة الصوفية إلا في من انتصر على الطغيان فهزمه في داخله واثقاً من النتيجة الحتمية الآتية في غد، كشمس الغد.
لطالما شهد المنازلة وشارك فيها فتعزز يقينه بالإثبات المتكرر:
يأتي الطوف فيجرف التربة والبيوت التي من قصب وسعف نخيل، فينهض ذلك النفر من الفقراء المشققة اكفهم وأقدامهم وقلوبهم بالفقر والتعاسة الأبدية لاستعادة ما ضاع من اعمارهم والجهد.. وتبدأ دورة اخرى من المواجهة بين الانسان المقهور في زمانه ومكانه وموارده، وبين الثروات المهدورة كما الناس في الجنوب العراقي المقتول.
يستعيد ترابه من الطوفان، حبة حبة، ويثبت التربة بنخلة، ومن حول النخل الذي يصير أرضاً يقيم منزلاً للأغاني الشجية، وفي ما بين جزر النخل يسري المشحوف بالاهازيج، ومن تزاوج المأساة والقرار بأن يحياها يجيء الصبيان والبنات ليزرعوا مزيداً من النخل في قلب الجرف، وليبتنّوا مزيداً من البيوت المسكونة بالغم، وليسري بهم المزيد من المشاحيف في اتجاه الأمل المرتجى الذي يستنبته اليقين.
ساعة وصلنا الاهوار كان اهل تلك القرية البلا اسم (ماذا تنفع الأسماء للمنكورة عليهم بلادهم) يزفون عريسين.
كانت المشاحيف مزينة بالهوام الاحمر والاخضر والاصفر والازرق.
وكانت الربابة تطلق زفرات الحزن المطعم بالفرح.
وكان الرجال يرقصون أمامنا، والبنات يرقصن خلف نخيلات اقمن من حولها ستاراً يهيج الشباب فيتذرعون بآلاف الاسباب لاختراقه طلباً لابتسامة طائرة او للمسة مسروقة.
الفرح اقوى من الفقر.
الفرح اقوى من النهر.
الفرح اقوى من الطغيان.
المشحوف والنخل والساعد والحب والحزن؛ كيف لا يتنفس الناس شعراً؟! كيف لا تزهر حبيبات التراب قصائد تتقطر حناناً وهي تذهب برسائل الحب الى الصبايا المحتجبات خلف حنايا الصدور؟
من الأهوار يجيء الشعر والحب والثورة.
وفي الاهوار يعيش كثير من رجال الغد.
(تحية الى الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين،
الذي من الأهوار جاء ثم لم يستطع العودة الى نخلته هناك فبعث بشعره ليعجل موعد الانتصار
على طوفان الطغيان)
قبل صفحة الماء بقليل
من فوق شرفة العمر تطلين وفي عينيك ليل عتاب!
أتأملك بشغف لأراني فيك، فتطير ابتسامتك الماكرة كحمامة بيضاء تشق كبد السأم الكالح وركود الايام المتشابهة.
لا ضرورة للاسئلة. تعرف الاجوبة واعرفها، وإن لم نعرفها ألّفناها!
لا مجال للرد او للمناقشة… تجيء الطلقات التالية متواترة:
منذ متى؟! الف عام؟! عنيف صمودك! لم أتذكرك كثيراً، ولكنني فشلت في ان انساك. اليوم قررت الموعد، فجئت بحيلة بلدية. تصوّرْ، سألت عن غيرك، وجلست الى مَن لا اعرف، وتحدثت في ما لا أقصد، حتى جاء ذكرك فادعيت انني انتبهت الى انك »هنا«… ماذا؟! لا تبدو فرحا بقدومي مع انني جئت بغير سبب.
قبل ان يستقر الصمت نكأته مجدداً:
أما زلت تغني؟ ها، ها، لم تكن انت، كان صوت ابهى المدن ونهرها المهيب يجمع ويسترجع فرح الحياة الذي يطلقه المتنزهون بالاغاني واللغو والضحكات وهمسات الغزل وآهات الاجساد المتداخلة.
هممت بأن أقول شيئاً فاستدركت:
ارمِ السنين خلفك! اظنني جئتك هنا من قبل. كانت الحرب، وكنا جبهتين! ها، ها، اتصورك تقاتلني.. ها، ها، لن تجرؤ. انت تخاف مني، بل انا اخاف منك، بل لعل الخوف يخاف منا… لقد غلبنا الحرب، اذاً، نحن نخيف! ربطة عنقك جميلة. أما زلت تنوي الموت غرقاً؟! لا عمل يستحق ان تعطيه ذاتك. الذات مقدسة، كما تعرف.. ام ان لا وقت لديك لتعرف؟! سأرحل الآن. موعدنا على ضفة النهر، تحت الطريق، على الرصيف، قبل صفحة الماء بقليل، وراء الآهة تماماً. لا تتركنا ننتظر طويلاً، سئمت الانتظار. ليس لدينا ألف سنة اخرى. باي…
صفقت الباب خلفها فندّت عني صرخة ألم.
ما زالت هي. هل تراني ما زلت أنا؟! متى آخر مرة كنت أنا؟!
من أقوال نسمة
قالي لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
اعرف حبيبك جيداً، انظر إليه في النور، وحاوره بذاته، لا تمنحه من ذاتك الصفات، ولا تفترض أنك تعرف أجوبته جميعاً.. اسمعها منه.
بدا عليّ أنني لم افهم مقصده تماماً فعاد يقول:
الحبيب اثنان: هو، ومن نتخيله.. ليسا دائماً واحداً. أحياناً نرى فيه من نحبه ان يكون. احياناً ننظره بقلوبنا، احياناً نسبغ عليه من الصفات ما نتمناه فيه.. والتراجع انكسار، أما المكابرة فهمٌّ مقيم.
لكأنك تمتهن الحب..
قال »نسمة« وهو يخفي عينيه عني:
لا تعرف حبيبك ان لم تعرف نفسك.. وليس حباً ان تعطي فيأخذ، وأن تزعم لنفسك ان ما عندك يكفيكما معاً. الحب اثنان لا واحد، الحب اثنان يصيران بالإرادة وبالرغبة وبالوعي واحداً. الحب اثنان يصيران ثالثاً هو الاكمل والانضج والابهى من حاصل جمعهما معاً. الحب ليس إلغاءً وليس دمجاً.
صمت »نسمة« قليلاً وأنا غارق في حيرتي ثم عاد يقول:
سمجة هي الشروح، جميل هو الحب، وأجمل ما فيه ان له عقله اليقظ.