هي الأرض، واسم الشهرة عيناثا ، فكيف يُطلب منها أن تغادر؟ كيف يطلب من القلب أن يغادر الصدر، كيف يطلب من العين أن تغادر محجرها؟ هي المنبت والحضن ومرتع الشباب ومهوى الذكريات. هي الخير، القمح والزيتون. هي الماء، المنبع والمجرى وكل شيء حيّ.
هي عيناثا. هذا هو اسمها، هويتها الكاملة، تاريخها، جغرافيتها ومثوى الشهيد. هذه السماء سماؤها. هذا الهواء هواؤها، وما زالت تميّز فيه أنفاس حبيبها وأنيسها وراعيها وحاميها الذي أعطى حياته لأرضه، لعيناثا وما بدل في العقيدة وفي المكان، ولكنها واثقة أنه بدّل في مسرى الزمان وأنه سبقها إلى الغد.
هي عيناثا. هي زينب التي سيصيرها الفرح أم حسين ثم ستكتسب بعد الحجّ اللقب الذي ستُعرف به الحاجة زينب في انتظار أن تلتحق، وعلى الطريق نفسه برفيق العمر الذي كان بشارة لفجر المقاومة، علي أيوب.
هي عيناثا. هي الأرض، تصد الغزاة وتبقى. قد تُقصف وقد تُنسف بيوتها وقد يُستشهد رجالها عند عتبتها، وقد يجتاحها العدو لبعض الوقت. ولكنه عابر في جملة معترضة. تلغيه وتبقى.
هي الكل هنا. هي الوالدة والحاضنة والراعية. هي المسؤولة عن الجميع. ليست ناطورة المفاتيح. هي البيوت، ولو منسوفة، وأهلها ولو شهداء، لكنها ثابتة، راسخة، لا ترحل ولا تموت، بل هي باقية بقاء الشمس والقمر والهواء والنجوم. وهي باقية بإنسانها ولإنسانها.
ولكنك يا حاجة زينب بت عجوزاً الآن، ووحيدة، وتستندين على عكازك، فلا تستطيعين التحرك بسرعة للاحتماء من القصف. وعدونا متوحش يقتل الورد وشبابيك الغزل والشعر، يقتل الكتب والبلابل، ويدمّر البيوت وينسف الذكريات ويقصف ذكريات الهوى الأول. يا حاجة، لنذهب إلى مكان قد يكون آمناً أكثر.
تهوّل الحاجة زينب على ناصحيها بعصاها: وأترك أهلي.. أترك علياً؟ علّمنا الله أن الموت حق يأتينا ولو كنا في بروج مشيّدة… ويعلمنا الله أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وعندما صمت الناصحون همست لنفسها: ثم إنني اشتقت لعلي. لقد عشت ألومه وأكاد أحسده أنه قد سبقني، فهل أتركه الآن وأرحل.
ورفعت صوتها: أعوذ بالله..
أمس، وبعد عشرة أيام من استشهاد الحاجة زينب مع مجموعة من أهل عيناثا، أمكن رفع الركام والأنقاض عن أجداث الشهداء الذين أضافوا إلى أرضها المزيد من الطهر، وجعلوها كمثل سائر البلدات في جبل عامل ولاّدة الشهداء.
وداعاً، يا حاجة زينب، وهنيئاً لك زميلنا حسين أيوب: يا ابن الشهيدين.