حدث ذلك في مطلع العام. هناك ضوء انطفأ. ازدادت العتمة ليلاً. “السفير” ودعت الحياة، والغريب، أنها لم تمت. ما تركته عندنا وفينا يغنينا عن “الموت”. أربعة وأربعون عاماً، هي حيّة ترزق. من يكون له ماضي كماضي “السفير”، يظل حاضراً وعابراً للأزمنة. من جهتي، ما زلت أقرأ “السفير”. أفتح المجلدات واتصفح عناوينها واستعيد أهواناً بحجم الكوارث وأتلمس من بين أوراقها، زمن الانتصارات: انتصار طلال سلمان على القتل. أصابوه في وجهه وظلّ عاصياً. عطبوا وجهه وظلّ ناطقاً. أقفلوا صفحاته وظلّ كاتباً وناشراً. أوقفوا إصداره فطلع عليهم من صحيفة أخرى لأيام، أحرقوا مطبعته، ضيقوا عليه الخناق، كادوا له وعليه، ومع ذلك، كبيروت، لم يرفع الرايات البيضاء. لم يستسلم.
ما زلت أقرأ “السفير”. استعيد أزمنة مجيدة. من حظي أني شهدت الانتصار الكبير في العام ألفين. من حظي أني كتبت المانشيت. كان فرحي يشبه المعجزة. كأني أسير على الماء. من حظي أني استعيد في “السفير” ماضي النكبات والحروب والفتن. أسأل نفسي: لماذا كل هذا؟ ولدت “السفير” في لحظة انبلاج الحراك الاجتماعي، ثم دعيت إلى الحرب فاختارت الدفاع عما تؤمن به. فلسطينياً ولبنانياً وعربياً وعالمياً. لم يكن ذلك من دون ثمن. دفعه طلال سلمان، عدّل وما تبدّل. يشهد “العاصي” أنه حضر إلى “السفير”، “الليطاني” وبؤساؤه كانوا من أصوات الذين لا صوت لهم. كل مناطق الفقر والحرمان والابعاد والاجمال، كان لهم مكان الصدارة.
بحسرة أطوي الصفحات، وأقول: هناك ضوء انطفأ. ازدادت العتمة ليلاً.
لم تكن “السفير” جزءاً من السياسة فقط. كانت جزءاً من الحياة. الآن، وقد انسحبت الجريدة إلى مكانها في التاريخ اللبناني، نشعر باليتم. يصعب عليّ لا أفتح عيني صباحاً على “السفير”. يحزنني أني أتعثر في قراءتي لسواها. شيء من الإدمان اللذيذ على تجربة معتقة بالجهد والكد والتعب والسهر والقلق والوحدة. معتقة وعميقة وملتزمة. ومع ذلك، خاب الظن بالبقاء، فيما كل ما حولنا يشهد النهايات.
ما الذي انتهى؟ ليس هو السؤال. بل، ما الذي بقي من تقاليد الحرية والابداع والريادة وفضائل المصاعب؟ بل ما الذي يسود في لبنان اليوم. أهذا هو لبنان؟ لقد كان لنا لبنان الريادة والحلم والحرية والديموقراطية والقومية والإنسان. هذا انتهى. لم يبق من ذلك الزمن الجميل، إلا تذكره. بلى، كان لبنان طائفياً بنسبة مقبولة. اليوم، هو وحش طائفي يزداد قفولاً. بلى، كان في لبنان فساد “مقبول”. اليوم، الفساد هو دين الدولة لا ينقدم عليه شيء. أنه مخيف ولا يخاف أحداً. بلى، كانت الدولة موجودة بنسبة معقولة. اليوم، هو دولات عميقة الفور، أقوى من دولة بعكازات تسمى أحزاباً وتيارات.
لـ”السفير”، مجد ماضيها. ولحظة اقفالها، كانت هي المانشيت، التي تنتمي إلى الأيام الجليلة والعصيبة.
لم يكن سهلاً علينا أن نخسر “السفير”. حجم الخسارة كبير. هي خسارة وطنية، في زمن، تبدو فيه الأرباح الطائلة هزيلة سياسياً واجتماعياً وقيمياً.
أنتم اليوم، تعيدون لـ”السفير” لحظاتها الجميلة. تكرمون صاحبها بما أنجز. وهذا دليل على وفاء “السفير” لأهلها، ووفاء أهلها لـ”السفير”. شكراً لكم. أنتم اليوم أشعلتم شمعة في عتم هذا الليل الطويل.
كلمة القيت في حفل تكريم جريدة “السفير” بشخص رئيس تحريرها الاستاذ طلال سلمان الذي اقامته جمعية هياكل بعلبك.