لا أكتب هنا عن المستقبل إنما عما سوف يرثه المستقبل من أيامنا. المستقبل قد يكون غدا أو بعد غد وقد يتأخر فيأتي بعد عقد من الزمن أو عقود. بين القادة الحكام من اختار وحدد له عام 2030 موعدا، وهناك من قرر بعد أن خطط واستعد للمستقبل أن يحل في عام 2050. أغلبنا يريد ألا يتعجل المستقبل قدومه قبل أن تكتمل استعداداتنا. نتمنى أن يأتي وقد تخلصنا من أسوأ ما أفسدته شهوتنا للعنف والجشع ومن ركام التخلف. هذا الركام الذي خلفه طول الخضوع لسلطة متخلفة أو لسلطة مستبدة أو لسلطة تعالت على ناسها وزمنها. نأمل أن نسمع المستقبل يدق أجراس بيوتنا عندما يتأكد من أن القوى العالمية توازنت. عندها يصبح السلام في العالم ممكنا والاستقرار أقوى احتمالا. ندعوه ألا يأتي إلا وقد اطمأن إلى أن منظومة أخلاق وقيم جديدة تماما قد تشكلت وأن وفاقا أو توافقا على وشك أن يتحقق بين إنجازات الذكاء الاصطناعي ومنظومة القيم. نسأله أن ينتظر حتى نثبت أن مجتمعاتنا عادت تنتج الأفكار وتبدع في ابتكار حلول لمشكلات التعليم ولأزمات الرأسمالية والاشتراكية وتراجعات مفاهيم العدل والعدالة والسقوط المتدرج للديموقراطية ومبادئ الحرية. أخشى ما أخشاه أن يأتي مبكرا فيبني ويشيد تاريخا فوق موروث علامات فشله كثيرة وعيوبه جد خطيرة. أتحدث هنا وفي السطور التالية عن حالات فشل وقع أغلبها خلال مرحلة كان العالم ينتقل فيها من نظام قطبية ثنائية مستقرة ومتوازنة إلى نظام لم يتحقق ألا وهو نظام القطبية الأحادية. بقي العالم طوال سنوات الانتقال هائما يبحث عن نظام جديد أركانه لم تتوفر. عاش سنوات الانتقال يكرس الفشل بعد الفشل والأسباب كثيرة.
***
كان لي أستاذ يعلمني أصول الدبلوماسية وتاريخها وآدابها وقيمها، وكان يخصص وقتا أطول ليعلمنا بافتخار واضح سير الأعلام المشاهير في هذه المهنة الراقية. تعلمت منه ثم علمت أن الدبلوماسية بمعناها المعاصر، أي بعد تخلصها من إسار فلاسفة العصور القديمة، تدين بالوفاء والعرفان للأمير كليمنس فون مترنيخ وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية وصاحب الفضل في بناء أول نظام دولي في العصر الحديث. لم ينته تأثير فون مترنيخ بوفاته أو بأحداث القارة من بعده، إذ أعاده، أو بكلمة أدق، أعاد مدرسته الدبلوماسية إلى الوجود الدكتور هنري كيسنجر مستشار الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته بعد مرور أكثر من مائة وعشرين عاما على وفاته.
لا يكتمل حديث عن ابتكارات وإنجازات الدبلوماسية دون ذكر المبادئ التي طرحها جورج كينان، وكان سفيرا لبلاده في موسكو، في تبريره لاقتراحه فرض حصار على الاتحاد السوفياتي وإقامة سلاسل من الأحلاف السياسية والعسكرية تحت قيادة الولايات المتحدة. هذا الاقتراح اعتبره أساتذة الدبلوماسية والعلاقات الدولية في ذلك الأوان بمثابة الكتاب المقدس لمرحلة الحرب الباردة وللأسس التي بني عليها نظام القطبية الثنائية.
كذلك يصعب أن نتجاهل الدور التاريخي الذي قام به دبلوماسيون مجهولون للعامة. هؤلاء ليسوا مجهولين لعلماء السياسة الذين درسوا تفاصيل الجهود التي بذلت على هامش الحرب العالمية الثانية لبناء مؤسسات لنظام عالمي جديد سوف يعلن انبثاقه في أعقاب نهاية الحرب. نذكر بالفخر اثنين ساهما بدور مشهود في وضع أساس أول وثيقة في التاريخ اهتمت بتعريف حقوق الإنسان ونصت على ضرورة حمايتها والدفاع عنها كشرط لا غنى عنه لضمان سلامة واستقرار النظام العالمي الجديد. الاثنان هما الوزير اللبناني شارل مالك والسفير المصري محمود عزمي.
لا أشك للحظة واحدة في أن ساحة العمل الدبلوماسي ظلت تفرز دبلوماسيين من طراز رفيع، إلا أن أحدا من الذين كتبوا عن الدبلوماسية المعاصرة استطاع أن يضع قائمة بأسماء دبلوماسيين، بخلاف هنري كيسنجر، استحقوا شرف المقارنة بمترنيخ ورفاقه في فيينا. الأسباب كثيرة في رأيي، ليس أقلها شأنا تعاظم ظاهرة “الحكام الزعماء”، أي هؤلاء الحكام الذين أصروا على إدارة الشؤون الخارجية بأنفسهم، وأغلبهم تعمد أن يركن جانبا أو بعيدا عن مواقع الشهرة الدبلوماسيين الأكفاء. حدث هذا الأمر بشكل متكرر خلال مرحلة الحرب الباردة واستمر في المرحلة الانتقالية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وإلى يومنا هذا.
***
لم تشهد الساحة الدبلوماسية خلال المرحلة الانتقالية، وهي المرحلة المستمرة معنا، دبلوماسيين حققوا إنجازات مبهرة كتلك التي حققها في مراحل سابقة النجوم العظام الذين ذكرت أسماء عدد منهم. كذلك، وبالمصادفة الغريبة، لم تشهد الساحة العسكرية العالمية خلال المرحلة نفسها، إنجازات حربية مبهرة كتلك التي حققها نجوم عظام على شاكلة نابليون وبسمارك ومونتجومري وأيزنهاور وماكارثر. بل أن دولة كبرى في العالم لم تدخل حربا خلال الثلاثين عاما الأخيرة وحققت انتصارا مشهودا. الولايات المتحدة في حد ذاتها نموذجا مثيرا. هذه الدولة الأعظم انتصرت في حربين عالميتين على دول كألمانيا واليابان، دولتان متسلحتان بأسلحة متقدمة وجيوش جرارة، ثم قادت حلف الأطلسي في حرب ضد أفغانستان. حرب صارت حالة فريدة في التاريخ الحربي بعد أن لقبت بأطول حرب دخلتها الولايات المتحدة منذ الاستقلال.
الحرب في أفغانستان مستمرة والأمل ضعيف في أن تحقق أمريكا نصرا حاسما فيها. وحرب أخرى في العراق انتهت إلى كارثة تاريخية بكل معنى الكلمة. حرب مشكوك في شرعيتها وأداء قادتها وفي قيمة أهدافها المعلنة ونهايتها الخالية من الدرس المفيد والمغزى وآثارها بعيدة المدى على توازن القوى في الشرق الأوسط وهيمنة إيران على العراق. هناك حرب ضد سوريا تستحق وبحق صفة حرب الطوابق المتعددة. طابق لحرب بين دولة وتنظيم إرهابي أو تنظيمين. طابق ثان لحرب بين دول كثيرة وتنظيمات كثيرة. طابق ثالث لحرب بين دول عديدة ودول عديدة وحرب في طابق رابع بين تنظيمات عديدة. وفي طابق خامس لحرب الكل ضد الكل تحت إشراف الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. وفي النهاية لا أمل بأن تخرج دولة منتصرة أو على الأقل فخورة بانتصارها في حرب فسادها صارخ وكفاءتها معدومة وما تسببت فيه من دمار يتجاوز الأسطورة.
حرب أخرى غموضها وفسادها وخسائرها يتحدى الفهم والعقل. إنها الحرب العالمية ضد الإرهاب. أخطبوط أذرعته بالعشرات، بينها الاستخباراتية وبينها شركات سلاح وسيارات رباعية الدفع وطائرات بدون طيار وبينها شركات ومصارف متعددة الجنسية وشركات تابع أغلبها لوزارات الدفاع تتاجر بالمرتزقة وعصابات تتاجر بالدين وعصابات تتاجر بالهجرة وسياسيون يتاجرون بالأزمات وحكومات تستغلها لقمع مواطنيها وموظفون كبار وصغار وشيوخ وخطباء مساجد. حرب لا نهاية قريبة لها إلا ربما حين تستكمل المرحلة الانتقالية دورتها ويتولى مسئولية السلم والاستقرار نظام دولي جديد.
***
لم تشهد المرحلة الانتقالية التي بدأت بنهاية الحرب الباردة ظهور دبلوماسيين عباقرة ولم تثمر مبادرات مبهرة. لم تشهد كذلك ظهور عسكريين متألقين ولم تثمر انتصارا واحدا مبهرا. لم تشهد على طول السنين ظهور مفكرين مبدعين في فنون الاستراتيجية وعلوم العلاقات الدولية وفلسفة الحكم. في الوقت نفسه نشهد نحن بأن هذه المرحلة الانتقالية لم تفرز لنا وللتاريخ رجال سياسة وقادة دول وحركات سياسية على مستوى ما أفرزته مراحل سابقة كمرحلة القطبية الثنائية أو مرحلة توازن القوى. هاتان المرحلتان أفرزتا ماو تسي تونج ووونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت وجوزيف ستالين، أفرزت أيضا تيتو ونهرو وعبد الناصر. فجأة توقف هذا السيل من السياسيين التاريخيين، توقف عندما انطلقت مترددة ومتعثرة المرحلة الانتقالية، وتوقفت مع انطلاقها تدفق الأحلام الكبار والأفكار البراقة في الدبلوماسية كما في العسكرية كما في إدارة السياسة والحكم.
***
في هذه المرحلة الانتقالية ترعرعت أفكار وحركات تمجد العودة إلى أساليب تعتمد الشعبوية أساسا للحكم. وفي هذه المرحلة انتكست الديموقراطية وتمرغت دساتير كثيرة في التراب. من المألوف في هذه المرحلة أن تكون قدسية الدستور موضوعا للسخرية. بدا واضحا، وفي حالات معينة بدا مؤكدا، أن روح الديموقراطية لم تجد التربة الصالحة لها في مجتمعات بعينها، الأدهى أن يكون هذا هو حالها في مجتمعات كانت حاضنة لها ومبشرة بها. نفهم أن يطلب الرئيس الصيني أن يتعدل الدستور ليبقى رئيس مدى الحياة ولكن ما لم نفهمه أن يتمنى ويحلم رئيس أمريكي بأن يبقى في منصبه لأكثر من فترتين.
ألا من نهاية قريبة لهذه المرحلة الانتقالية؟
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق