طلال سلمان

يوم ليس كبقية الأيام

يحل عندي، بعد أيام قليلة، يوم يختلف عن بقية أيام السنة. كنت قبل سنين عديدة أنسى، وفي الواقع، أتناسى قرب حلوله. رأيت فيه بدعة أو افتعال لمناسبة يتجمع فيها الأقارب ويتبادلون هم والأصدقاء مع صاحب اليوم المشهود المجاملات، بعضها عيني وأكثرها بالكلمات وأحيانا بالأحضان والقبلات. استمر التجاهل حتى وصلت في العمر إلى زمن أصبح عنده لهذا اليوم المختلف عن بقية الأيام معانٍ أكثر ومحتوى تأخر حضوره أو التعرف عليه.

كان أهلي في زمن عمرى المبكر حريصين على الاحتفال بهذا اليوم ولكن مصحوبا بالتعتيم. ففي هذا اليوم يحتفل الناس عادة بوصول المحتفى به إلى مستوى طيب من العمر ومن الحال. أهلي اختلفوا عن عامة الناس. فالابن، وهو المحتفى به، أتي إلى عالمهم في شكل صدفة غير متوقعة. أنجبت أمي بعد أختي وأخي الأكبر عددا لم يعش منه أحد، وحملت في عدد آخر وفقدته في مرحلة التكون. ثم جئت ولكن عشت. وعلى امتداد مراحل طفولتي ومراهقتي وشبابي حتى وقد صرت رب عائلة، وفي غمرة الإحساس القوى بمن فقدوا، لم يتخل عنهم الإحساس بتوقع أن يكون مصيري من مصير أشقاء عديدين سبقوني إلى الحياة وتخلى القدر عنهم بعد حين.

***

جرت عادة أمي على أن نقضي هذا اليوم بين أهلها، أمها وشقيقاتها الثلاثة وجيش من بناتهن. ننزل من بيتنا في شارع سامي تصحبنا شقيقتي التي تصغرني بست سنوات ونمشي في اتجاه محطة الترام في شارع خيرت. أسير بجانبهما فخورا بما ارتديت من ملابس جديدة وقدماي في حذاء يلمع جلده وساقاي في بنطلون حتى الركبة وعلى فخذاي بقايا بودرة طبية حماية لهما وتخفيفا لآثار احتكاكهما بسبب سمنتهما. نمشي وسط ترحيب سيدات الحي إن تصادف وجودهن في الطريق خاصة وأن لأمي مكانة واحترام لديهن ولدى البائعين الجوالين وشباب الحي المتجمعين دائما على نواصي الشوارع عند تقاطعها مع شارعنا. أذكرها على طول الطريق وداخل الترام وكلما سمعت إطراء لي ولشقيقتي أو تهنئة على حسن تنشئتنا وأناقتنا، تتمتم بآيات تصد بها حسد الحاسدين.

***

بمناسبة شباب الحي تذكرت الآن أننا كنا ونحن أطفال نختلط، وإن نادرا،  بأطفال يسكنون بعض حواري وأزقة متفرعة من شارعي مجلس النواب  وجامع الإسماعيلي وكلاهما من الشوارع الرئيسة في حي الدواوين. أذكر أن عددا منهم كانوا يمشون وراء رجل كبير في السن يستند في المشي على عصا، وهم يهتفون في سخرية “يا راجل يا عجوز مناخيرك أد الكوز”. كثيرا ما استدار الرجل الكهل والتقط أحجارا صغيرة يلقيها في اتجاه هؤلاء الأشقياء.

أظن أنني عشت في قلق خشية أن يكبر أبي إلى حد يجعله يمشي بظهر منحن وفي يده عصا يهش بها على أطفال ناقصي التربية والدين والخلق. المثير أن والدي ومعظم أقرانه في الحي الذي نشأت فيه كانوا يتقاعدون قبل أن يصلوا إلى الستين، السن القانوني للتقاعد.

عشت بعدهم أفكر فيما قد يحدث لي في حال تجاوزت الستين من عمري. هل أنتهي إلى شكل لا ينتسب لكل أو لبعض سمات شبابي ومنتصف عمري؟. الغريب أن بعض ما فكرت فيه صارحني به أصدقاء وزملاء ممن عملوا معي في روما. قالوا إن بعض سلوكياتي وتصرفاتي كانت أقرب إلى سلوكيات وتصرفات العجائز. أضف إليها بعض سمات الاكتئاب والنظرة السوداء إلى الدنيا وإلى مستقبل بلدنا فتصير صورتي بالفعل عند الناس نموذجا لشاب عجوز، فما بالك بشخص بدأ يفقد في سن مبكرة أكثر شعر رأسه وأقبل مرحبا وما يزال في منتصف العشرينيات على إجراء عملية جراحية لإزالة قرحة تكونت في الاثني عشر بتأثير اجتماع الوهم مع الاكتئاب. فتحوا وبحثوا ولم تكن هناك قرحة أو حتى ما شابه.

***

تغير إيقاع الزمن، وتغيرت الطموحات والأحلام، وتغيرت وتيرة الحياة. تغير المستحيل حتى صار في كثير من الحالات ممكنا. أصبح التغيير وليس الاستقرار الترياق للأمراض الاجتماعية المستعصية. تغيرت أنا نفسي. أنهيت الاكتئاب مستخدما كل ما توفر لي في ذلك الوقت من أسلحة وعلم وعشق للحياة. اكتشفت ما بداخلي من رغبة في الفرح والحب وإثراء العقل. أطلقت العنان لإمكانات محبوسة وفرضت القيود على نزعة اتخاذ قرارات غير محسوبة.

***

أمس استقبلت أربع صديقات في زيارة رمضانية. الصديقات الأربعة من خلفيات غير متطابقة وتجارب حياتية متباينة ولكل منهن منهاج تعامل مختلف. تربط بين الأربعة وشائج صداقة وعلاقات طيبة، والأربعة يجمعهن أواسط العمر. على غير عادتي تجنبت توجيه النقاش أو إدارته. تركت الحديث يتدفق في كل الاتجاهات، بعضها عام وأكثرها خاص بهن وبكل واحدة على حدة. لم يتأثر الحوار بوجود رجل يستمع وهو في الغالب مستمتع.

جئن، دون أن يفصحن، تحية لصديق تجاوز الحدود المتعارف عليها في مجتمعنا لكبر السن. سمعن مني مرارا وقرأن عبارة أنني أعيش في هذه السن أحلى أيام عمري. أعرف أنني بهذه العبارة أثرت فضول الكثيرين والكثيرات. جئن للزيارة وهن الواثقات من أنني لست بالكهولة التي ينبئ بها عمري بل إنسان عرف كيف يتآلف مع الزمن. عرف كيف يتجدد ويتغير معه. عرف كيف يوازن بين القدر والزمن.

***

قلتها مرارا عن قناعة وصدق، قلتها في البداية همسا وانتهيت إلى أن أكتبها جهارا، أنا، وأنا في هذا العمر، غير نادم على خطأ ارتكبت واعتذرت عنه أو فاتني الاعتذار، غير نادم على حد تجاوزت فتضررت وتضرر غيري. أنا غير نادم على عهد نسيت فنقضت، ولا نادم على غبن وقع ولم أرفعه في وقته ولا عن آلام تسببت فيها لعدم نضج أو لجهل أو لسوء فهم. أنا غير نادم عن قصور في الأداء لنقص في الطموح أو لانشغال في تفاهات أو استسلاما لغوايات.

أقول سأعيش أيامي القادمة دون أن أحمل على ظهري أثقالا من الندم أو تأنيب الضمير أو جلد الذات. فالأيام لمن هم في عمري أغلى بكثير من كل ما عشت من أيام. هي ثروتي ولن أبددها في ندم أو في غضب وحزن.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version