من خلال التجارب اللبنانية التي تبيّن طبيعة العلاقة العضوية بين النظام السياسي والكيان يغدو مشروعاً أن تتزايد المخاوف من نتائج سقوط النظام في بغداد على الكيان السياسي للعراق، كما عرفناه منذ إقامته على قاعدة »اتفاق سايكس بيكو« الذي وزع »ولايات« السلطنة العثمانية المندثرة على المنتصرين في الحرب العالمية الأولى: بريطانيا وفرنسا.
في كل مرة تعرض فيها النظام السياسي القائم في لبنان لخطر التعديل، بفعل التحولات السياسية في أقطار الجوار، لا سيما بعد إقامة »إسرائيل« على حساب فلسطين، أو بضغط الديموغرافيا، نشأ وتفاقم خطر التعديل في الجغرافيا، وانقسم اللبنانيون تحت عنوان النظام حول الكيان.. ولاح في الأفق خطر التقسيم!
… وها هي »اليوميات العراقية تحت الاحتلال الأميركي« تستدعي »اتفاق سايكس بيكو«، بوصفه المرجع العملي أو التاريخي! لهذه الكيانات السياسية القائمة في المشرق العربي (لبنان، سوريا، الأردن، العراق، أما فلسطين فقد حلت محلها إسرائيل، التي جاء الوعد بعد إقامتها بشهور فقط من اتفاق بريطانيا وفرنسا على تقاسم المشرق، وقد رسمت بموجبه الحدود على أسس هشة بينها القبلي والطائفي والمذهبي، ثم ثبتتها ومكّنت لها آبار النفط).
إن مستعمراً جديداً، أقوى وأعتى، يتحكّم الآن »بتراث أسلافه« الذي كان قد بات أمراً واقعاً على الأرض، عجز المعنيون به أو ضحاياه عن تغييره، فسلّموا به بقوة التعوّد أو التكيّف وبالاستناد الى مصالح المستفيدين من قيام هذه الكيانات، خصوصاً وقد تولى هؤلاء موقع القمة في أنظمتها المستحدثة، جمهورية أو ملكية.
ثم إن المستعمر الجديد يتميّز عن »أسلافه« بأن له »على الأرض« حليفاً قوياً يتمثل في إسرائيل التي ألغت عملياً »الكيان الفلسطيني« مع الاحترام لخارطة الطريق الأميركية! والتي لها مصلحة أكيدة في خلخلة الكيانات المجاورة، الضعيفة أصلاً، بحيث تصبح »الدولة العبرية« هي »المركز« ومن حولها مجموعة من »المحميات« أو »المستعمرات« العاجزة عن إعالة شعوبها فكيف باستقلالها، والمهددة بتنافر العناصر المكونة لها إذا ما حركتها »الأيدي السوداء«، وما أكثرها!
وكل ذلك تحت الخيمة الأميركية، صاحبة السطوة والقدرة والمهيمنة على الكون، بإمبراطوريته القديمة ودوله المستحدثة.
باختصار، ارتبطت هذه الكيانات عموما بطبيعة الأنظمة فيها، فصار أي تغيير في النظام السياسي يفتح الباب أمام مخاطر إعادة النظر في الكيان نفسه.
ثم إن التحولات ساعدت على اختزال النظام في طائفة، أو عائلة، وأحيانا في شخص واحد، كما نشهد الآن في العراق، حيث صار إسقاط صدام حسين (ونظامه) تهديداً بإعادة رسم الكيان السياسي، لا سيما ان الحاكم الفرد الذي صار النظام الكيان قد تسبب بخلخلة مرتكزات الكيان، وبتسميم العلاقات بين »رعاياه« الذين حرموا أو فقدوا نعمة »المواطنة«.
وليس مستهجناً، بالتالي، أن نسمع أصواتاً تتحدث الآن عن »الأكراد« وكأنهم عراقيون مع وقف التنفيذ في انتظار الفدرالية (التي اعتبرها مسعود البرازاني في حديث متلفز أمس، وكأنها الحد الأدنى الذي يرتضيه الأكراد، متذرعاً بأن برلمان كردستان قد اتخذ قراراً بذلك..).
كذلك فليس مستغرباً أن تعلو أصوات تتحدث عن »غبن السنة« في مشروع النظام الجديد (قيد الإنشاء)… وهي أصوات تصدر في الغالب الأعم، حتى اللحظة، عن قوى حاكمة في أنظمة عربية خارج العراق، ولكنها ترى في أي تعديل في تركيبة النظام العراقي (طائفياً أو مذهبياً) ما يفتح أمامها أبواب جهنم في كياناتها، حيث سترتفع الرايات مطالبة بإعادة النظر في حصص الطوائف والمذاهب في غنيمة الحكم.
ولقد ارتفعت (أو رفعت بالفعل) أصوات أردنية، بينما وشوشت أصوات خليجية مطالبة بالتحقق من هوية الأكثرية ومعدلات النسب المئوية بين المنتمين لهذا المذهب أو ذاك تحقيقاً لعدالة التوزيع في كعكة الحكم الجديد!
ومع أن الاحتلال ليس هو المرجع الصالح لإنصاف المغبونين أو المظلومين، إلا أن المتخوفين من امتداد آثار التعديل والتبديل في المواقع والحصص، لم يمانعوا في اللجوء إليه لكي يحسم الأمر على قواعد اتفاق سايكس بيكو، وبتطبيقاته التي كان يعتمدها النظام الساقط المصنف طاغية وعدواً لتطلعات شعبه إلى الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.
فمَن أفضل من الاحتلال الأميركي معيناً على تحقيق هذه المطامح النبيلة دفعة واحدة وبضربة واحدة؟!
إن ما يدبر للعراق ما بعد صدام قد يكون أخطر على داخله كما على جيرانه من حوله مما وقع فيه وله خلال حقبة حكم الطاغية.
إن »اتفاق بوش شارون« لن يكون أرحم من »اتفاق سايكس بيكو«.
… إلا إذا تنبه »أهل الحل والربط« قبل خراب البصرة، مجدداً، وكل ما يحيط بها من أمصار!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان