صعب الكلام بعد كلام الكبار، واصعب الكلام كلا في مآثر الرجال العظام، فكيف يكون الحال، ونحن اليوم نكرم علما من اعلام الصحافة والاعلام، في الوطن العربي وفي لبنان، فهذا ما يتطلب الكثير من الجرأة والاقدام.
يا صديقي.. منذ اكثر من اربعين عاما، وانا اسير معك على الطريق، واقسم معك “ان الهزيمة ليست قدرا”.
وكثيرا ما سمعت ثرثرة فوق بحيرة، رأس العين، تبوح باسرار الانتهاكات، وتشفيط السيارات وتخبرك كيف تنحر القيم، وكيف تهان الكرامات.
ويدفعني الشعور بالذل والظلم والاهمال، لاكتب احيانا عن اوجاع اميرة، عشقتها، لكن استباحوها، خدروها، وبقوة السلاح اغتصبوها، اسمها بعلبك.
… ومع كل هذا، استنفرت ما عندي من قوة وقدرات، وجيشت ما اعطيت من همة وطاقات علني استطيع اقتحام عالمك الواسع، واختصر ملحمة وجود في دقائق وساعات.
هيهات الوصول اليك.. هيهات.
تهيبت الموقف.. لن اجرؤ الدخول في عالمك، فالطريق صعبة، بالحبر مرشوشة، والدرب مليئة بالاشواك، ومع ذلك، لن اعلن انسحابي، لكن، سأكتفي بملامسة قدسية الاشياء.
صباح الخير.. من هنا بدأت الحكاية..
وتحط حمامة برتقالية، حاملة من القدس سلاما للامة العربي، ومن حيفا ويافا عتابا يسابق، تحية.
وتقدم لك جريدة “السفير” مزينة صفحتها الاولى بافتتاحية طلال سلمان “على الطريق”، كحبة هال تعطر قهوتك الصباحية.
وانت تحمل “السفير” تشعر بعرام الوطنية، وانت تقلب صفحاتها، تشتم عبق القومية العربية، وكأن الحبر وحدوي، والنبض ناصري، وفلسطين هي القضية.
فكانت “السفير” جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان.
بصراحة، وبالرغم من كل ما قلت، فنحن لسنا هنا اليوم، لنكرم طلال سلمان.
لسنا هنا، لنكرم طلال سلمان، وانما نحن هنا، لنكرّم بتكريمه الارض التي انبتته، وكوكبة من اصحاب الفكر والكلمة والقلم، ممن عمل في “السفير”، وكان من اسرة “السفير”، فغنى آمال الناس وافراحهم، وعبر عن آلام الناس واوجاعهم، وكأني بهم اليوم، بصوت واحد باسم الناس يتساءلون:
لماذا درسنا في المدارس، وتعلمنا في الجامعات؟
ألنبقى سلعة برسم البيع والشراء؟
ام لنبصم يوم الاستحقاق ويوم الانتخابات؟
ام لنسير على بركة الله مثل القطيع، لنشارك في احتفالات ومهرجانات وانتخابات.
لماذا حملنا الشهادات ونلنا الاجازات؟
النعلقها على الحيطان، في المكاتب والصالونات؟ ام لنتعلق كما الذباب الازرق، باذيال النافذين والحكام؟
ام لنرحل ونترك البلاد للسارقين، للمجرمين للمارقين وتجار المخدرات؟
لماذا نطالب بالحرية ونحاضر بالديموقراطية؟
النبقى مكبلين بسلاسل التعصب والطائفية؟
ام لنكرس المآسي ونطوب المناصب والكراسي ارثا شرعيا لابناء طبقة سياسية؟
هذا صوتي، هذا صوتكم..
هذا صوت صارخ.. صرخة ضمير، صرخة حق، هذا صوت الاكثرية الصامتة من المغلوب على امرهم، من المهمشين والمشلوحين على اطراف الوطن، هذا “صوت الذين لا صوت لهم”.
طلال سلمان، صحافي كبير.. من كبار رجال الصحافة في لبنان والوطن العربي، قضى العمر متنقلا في رياض الصحافة، حتى شكل مرجعية اعلامية في الشؤون العربية واللبنانية.
حاور الكثير من الملوك والرؤساء والزعماء، بعمق وشجاعة ومسؤولية، فكان اساتذا بفن الحوار، وملكا في الصحافة والاعلام.
على يديه نشأت اجيال واجيال، من ثماره قطفت، من خيراته غرفت، وبفضله اعترفت.
في مسيرته الطويلة، ترك للاجيال القادمة، محطات وعناوين يعودون اليها اتقاء من برد وزمهرير، واحتماء من نار ومن سعير.
بين يديه، زغرد القلم في عرس الكلمة والادب والمعاناة، فكان له عشرات الكتب والمؤلفات.
بين شفتيه “همسات” خجولة، ناعمة رقيقة، تعشعش في القلب برفقة الحبيبة، وترسم بالكلمات حدود العشق وعنوان القصيدة.
طلال سلمان حارب على كل الجبهات، سلاحه الموقف الصلب، وعدته الكلمات الصادقة الجريئة، وبالكلمة الحرة، حارب النظام الطائفي، وطبقة سياسية مهترئة بالية.
ولا يستطيع المرء وهو يتكلم في تكريم صحافي من هذا الطراز النادر، ان يغمض عينيه عن عواصف تلف المنطقة، وتهدد مصير بلاد محيطة، ولبنان في عين العاصفة، او يتغاضى عن استحقاقات وطنية، تقلق اللبنانين وتشغلهم، بينما السياسيون يتشاجرون على احتلال المواقع ويتناتشون الحصص والمنافع ويتسابقون على تقسيم الوطن الى محميات طائفية، الى مزارع، ويتجاهلون حقوق العامل والمعلم والمزارع. بلا ضمير ولا رادع.
وما همهم بعدما ان يبقى الظلام مخيما على وطن النور والاشعاع!؟
وما همهم ان تبقى مزابل هنا، وهناك مزابل، وعلى كل مزبلة ديك فصيح يصيح!؟
وما همهم ان تسود شريعة الغاب في البلاد، فيغيب الامن والامان، ويسود حكم الزعران والازلام!؟
رجال السياسة، عندما تتضارب مصالحهم يتضاربون، عندما تتوافق مصالحهم يتباوسون، وان هبت رياح الفضائح، باقذع العبارات يتراشقون.
كذب، نفاق وتدجيل، نهب، سرقات وتزوير
نعم، انهم صادقون، صادقون. انهم فاسدون.
طلال سلمان، عمل دائما الى ما يحقق كرامة الانسان والوطن.
وفي 5 آب 1982، عندما كانت بيروت تحترق تحت قصف العدو الاسرائيلي، لم يصدر من الصحف اللبنانية لشدة القصف والتدمير، سوى جريدة “السفير”، وكانت بعنوان:
“بيروت تحترق.. ولا ترفع الاعلام البيضاء”
عدد للتاريخ، اذهل الاصدقاء والاعداء على حد سواء، وحول الماساة الى عنفوان وكبرياء.
طلال سلمان، يمارس الحرية كالعبادة، ويشهد للحق دائما ابدا، بلا هوادة، ويلامس في شهادته للحق سكرات الموت، وكأن الشهادة كأس من السعادة.
وهذا ما عرضه فجر 14 تموز 1984 لمحاولة اغتيال امام منزله، لكنه خرج من تحت الرماد مثل طائر الفنيق، دون ان تحجب كثافة الرماد رؤيته، ولا خنقت رائحة البارود صوته، ولا تركت أثرا، الا وسام الفخر منقوشا على الوجه، وسام المجد محفورا على الجبين.
ولم يتردد ان يكمل المشوار..
فرش ملح الالم على الجراح، وراح مشرعا صدره للعواصف، للرياح. وما تخل عن قناعاته ولا عن مواقفه، واكمل المشوار، رمزا للحرية والتحرر من سيطرة العبودية والاستعباد.
واخيرا، عندما ادرك طلال سلمان، غدر الزمان، وادرك ان الكلمة لم تعد امضى من الحسام، ولكي لا يقول الدهر انه لم يبق في هذه الايام رجال، شد الرحال، على متون الجياد المطهمة، شاهرا قلمه، رافعا علمه ـ علم “السفير” ـ وهناك.. هناك، على قمة المجد، شك العلم، واستقر هناك كما النسر في القمم.
طلال سلمان.. يليق بك المجد.
طلال سلمان.. من دافع عن كرامة بعلبك وشرف لبنان، نحني له الهام.
كلمة القيت في حفل تكريم جريدة “السفير” بشخص رئيس تحريرها الاستاذ طلال سلمان الذي اقامته جمعية هياكل بعلبك.