لم يعرف لبنان تجربة كهذه. عرف مشكلات عاصية. دهمته نكبات متوالية. ذاق طعم العنف دما. أيقن أن طائفيته مبرمة. احتمل قيادات وزعامات متنابذة ومتناحرة. اعتاد على معالجة امراضه بأمراض اضافية. لكنه لم يعرف تجربة كهذه. سعد الحريري، ليس هو هذا الـ”سعد” ابداً.
من دمعته ترتسم صورة رجل متعب، مرهق، بالكاد يحرك شفتيه بالكلام ويديه بالتعبير. عيناه، وحدهما، كانتا معبرتين. تقولان عكس ما تنطق به الشفتان. دمعته، بيت القصيد. وكل ما قاله بوهن وصوت مرتجف وعبارات متقطعة تدل على أن الرجل كان في محنة، والآتي، ليس فيه مكان للراحة.
قال ما يجب أن يقال. لم يخرج عن نص “الاستقالة ـ الاقالة”. انما كانت هذه لغته المسالمة ونبرته المتواضعة وصوته المختنق. هذا دليل على أن نص “الاستقالة ـ الاقالة”، ليس من قاموسه ابداً. لقد ترجم المضمون بلغة سياسية متداولة. وهذا، ليس جديداً، فالخلاف على سلاح “حزب الله” قديم، والنأي بالنفس، كانت فذلكة لبنانية، لحل قضية لا حل لها، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل. وتلك قضية القضايا من المتوسط إلى بابا المندب.
اللبنانيون، على صورتهم ومثالهم. لا شبيه لهم في الملمات والمآزق.
انهم منحازون بالسليقة الطائفية والمذهبية. هذه المرة، خرجوا على تقليدهم. طالبوا بسعد الحريري، كلبنانيين من لبنان. كأن لكل فريق حصة فيه. سعد السعودي، في ايام اقامته الملتبسة قليلاً والمؤكدة كثيراً، كمحتجز وكمتهم وكمطارد وكممنوع عن الكلام، سعد السعودي هذا، خلع اللبنانيون عنه عباءة المملكة، وطالبوه بالعودة لبنانياً، جار عليه الحليف حتى الانهاك.
لحظة لبنانية نادرة، كيف سيصرفها اهل السياسة في ما بعد؟
إن عاد واستقال، فعلى الحكومة السلام. لا حظوظ لحكومة جديدة.
كل حكومة جديدة ستصطدم بالسعودي او بالإيراني او بكليهما. “حزب الله” مطلوب منه أن يصبح “أمل”. وهذا مستحيل. فالحليفان يتشابهان في المذهب اساساً، ويختلفان في ما بعد خلافاً سرياً غير معلن.
كل حكومة يعمل على تأليفها بعد الاستشارات الملزمة، ملزمة قبل الثقة، بتفاهم ليس من اختصاص اللبنانيين وحدهم. التفاهمات السابقة قاصرة. كانت اتفاقات داخلية، تحت “غلالة النأي بالنفس”. هذا الاختراع، النأي بالنفس، تخطته المعارك الاقليمية ـ الدولية، الطاحنة. انخراط اللبنانيين كان اقل من انخراط السعوديين والقطريين والاتراك والاماراتيين والروس والايرانيين والاميركيين. حروب اقليمية قاصمة للكيانات ومدمرة للمجتمعات بأيد ابتكرت عنفاً تكفيرياً غير مسبوق.
لا حل، بالنأي بالنفس، ولا حل بحوار بين اللبنانيين وحدهم. لا تفاهمات جديدة، قبل جلوس السعودية وإيران حول طاولة وفتح ملفات المنطقة. هذه الطاولة غير متوفرة، انها بلا قوائم. الحرب مستمرة إلى اجل غير مسمى، وللبنان حصة فيها، وتنعكس عليه آثارها وقد تنهكه نتائجها.
من هناك يبدأ الحل. ما بين إيران والسعودية ألف قضية. من بينها قضية “حزب الله”. وحزب الله، لم يخرج إلى القتال خارج لبنان، بأسباب لبنانية بحتة. رأى “الحزب” إلى الحروب الدائرة في المنطقة، وكأنها ضده. منذ البداية. فهو في محور منذ اندلاع معاركه وانتصاراته. وان انتصار أي فريق مناوئ او معاد له ولسلاحه، سيؤدي إلى انتقال “الفتنة” إلى لبنان وسوف يعطي اسرائيل، فرصة عربية، قوامها السلم والتصالح، او سيوفر لها اقامة عربية، لا توفر للمقاومة سوى الخناجر في الظهر.
منطق المقاومة، هو من طبيعة الموقع والتاريخ، ويلزم أن لا ينظر اليها على انها للإيجار او لتحقيق مكاسب سياسية تقلب التوازن الطوائفي في الداخل. فلكل حصته. هذه قاعدة لازمة لاستقرار لبنان.
كأن الحزب يقول: خذوا ما شئتم من السياسة في الداخل، ولا تقتربوا من مرامي السلاح وحقول رمايته. لذا، الخطر على سلاح الحزب، هو اسرائيلي أولاً، وعربي اولاً ايضاً.
اليس هذا التصور على صواب؟ الانظمة العربية ناوأت إيران الثورة منذ ولادتها، فدفعت بصدام حسين لخوض حرب مدمرة من وقت كانت طهران تستبدل السفارة الاسرائيلية بالسفارة الفلسطينية، فأصبحت طهران احدى المرجعيات الفلسطينية ولا تزال.
سلاح “حزب الله” لبناني أولاً، وشرعيته من مقاومته لاحتلال اسرائيلي استقدمه فريق لبناني “اصيل”، وتهاون لبنان الرسمي في تحريره. ومن حقه أن يُحصن نفسه ويحمي ظهره، بحلفاء من خارج لبنان، لان بعض لبنان، يسن الخناجر.
غداً، يعود الحريري إلى لبنان، وليس في يده غير استقالته المدعومة بمنطق تتفق عليه منظومة عربية بقيادة السعودية. هو امام ممنوعات كثيرة: ممنوعة دمشق، ممنوع سلاح الحزب، ممنوع تدخله ودعمه لدول في منظومة معادية للسعودية. ممنوعات تمنع تألف حكومة.
الاشتباك في لبنان، ليس لبنانيا لبنانيا. لذا، فحله خارج لبنان. فكيف سيتعايش لبنان وهذا المستحيل؟
أن دمعة الحريري معدية. هو دمع تأثراً لحال لبنان ولحالته. غداً، قد تُنذر عيون اللبنانيين للدمع، فيتساوى اللبنانيون في احزانهم.
لقد مضى زمن الازمات. جاء زمن الكوارث…
الا إذا …