اليوم، الثلاثاء 23 أيلول 2003، يبلغ قلم الصحافة العربية، محمد حسنين هيكل، الثمانين من عمره المثقَل بالعطاء المميّز.
ولأنه »هيكل«، فهو يستحق »السابقة«: أن تكرّم الصحافة العربية هذا الأستاذ لجيلين والكاتب الذي أرّخ بقلبه وعينه وفكره قبل الوثيقة والمقابلة الشهادة لمرحلة لعلها الأخطر في تاريخ هذه الأمة، بأبطالها والانتصارات في زمن النهوض، ثم بالانتكاسات ولاّدة الهزائم والتراجعات والتحولات التي بدّلت مصائر وخرائط وكيانات وما تزال مفتوحة على المجهول (منا) المعلوم من أعدائنا في حاضرنا وفي مستقبلنا.
وليس كثيراً على الصحافة العربية، المهدَّدة الآن في وجودها، أن تكرّم ذاتها في شخص كبير أعلامها، محمد حسنين هيكل، فتصدر »السفير« وصحف عربية أخرى أعداداً خاصة لهذه المناسبة، كأنما لتوكيد تصميمها على أن تستمر برغم المصاعب التي يتصدرها الخواء السياسي لانعدام الديموقراطية وشغور مقعد القيادة، ويندرج في سياقها تراجع الدخل الإعلاني وتناقص أعداد القراء .
فلقد جمع محمد حسنين هيكل في شخصه، الصحافي حتى العظم، والكاتب المجتهد في تثقيف نفسه، والارتقاء بلغته حتى كادت تكون مدرسة بذاتها، والداعية الناجح للأفكار والاجتهادات والسياسات التي افترض فيها الصحة، ثم المؤرخ الفريد في أسلوبه ومنهجه لعصر النهوض القومي والمواجهات التي فُرض على الأمة أن تخوضها مع قوى الاستعمار القديم ومع الحركة الصهيونية ودولتها إسرائيل ثم مع الاستعمار الجديد الذي يضم في ثناياه كل أولئك معاً ومعها أسباب التفوّق المطلق، كقوة عظمى، في السلاح والاقتصاد ومنجزات التقدم العلمي.
وجميل أن نكرّم محمد حسنين هيكل وهو بيننا، يقاتل أمامنا بإيمانه بالأمة قبل يأسه من الملوك والرؤساء و»نقيضهم« من قوى التغيير التي حوّلها القمع المتواصل والترهيب الدائم والترغيب المفتوح والرغبة في الاستكانة إلى »الواقع« إلى أشلاء وفرق متنابذة تنشغل بنفسها عن أعدائها، وتنهمك باجترار الماضي لمحاسبته أكثر ممّا تهتم بالمستقبل حتى لا يضيع منا.
لقد وقف محمد حسنين هيكل قلمه على التبشير والتحذير والتنوير، فتجاوز دوره الصحافي كشاهد رأى ما لم يتيسّر لغيره أن يراه، وعرف ما لم يتسنّ لغيره أن يعرفه، ثم إنه »بلّغ«، بل لعله قد لعب دور المنبّه اليقِظ إلى ما يُدبَّر في غرف القرارات السرية، والمستقرئ الممتاز لاستراتيجيات القوى العظمى في محاولتها الهيمنةَ على مقدرات الكون، وغالباً بالانطلاق من منطقتنا هذه التي كانت غنية بالرسالات والأفكار والطموحات والرجال القادرين على حملها والتقدم بها على طريق الغد، ثم فقدت قياداتها الشجاعة ومنارات الطريق ومنهج التحليل، واستسلمت لأنظمة العجز والتخاذل والهرب من المواجهة إلى الاستسلام والضياع.
وإذا كان الإيمان بضرورة التغيير وبقيادة جمال عبد الناصر لمعركة التغيير بالمواجهة، قد جعل من محمد حسنين هيكل داعية ومبشراً ومفلسفاً للقرارات الصعبة ولنتائجها، فإن غياب »البطل« الوطني والقومي وانتكاس المسيرة وسيادة منطق التسليم بالهيمنة الأجنبية (الأميركية أساساً) ومن داخلها الاندفاع إلى التورط في الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، وإسقاط رايات التغيير بالثورة وتجريم المقاومة وتكفير المجاهدين، كل ذلك أسهم في تحوّل هيكل إلى »مؤرخ« لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من إيمان الأمة بذاتها وبقدراتها، ولفهم ما يُدبَّر لها وجوداً ومصيراً.
وهكذا، استطاع محمد حسنين هيكل بدأبه الشديد ودقته المميزة وحرصه على تقديم مجريات الأحدات موثّقة، ومن ثم الانصراف إلى تحليلها واستنتاج الدلالات والدروس، أن يعيد تحديد التخوم بين السلام والاستسلام، بين الديموقراطية وعسف الاستفتاءات، بين القائد بالأهلية والقدرة على الإنجاز وبين الحاكم الفرد بالطغيان، بين حماية الثروة الوطنية وبين »الانفتاح« الذي يضيِّع الوطن قبل ثروته، بين الحرية كحق مقدس وبين التسيّب الذي يُسقط الوطن والشعب بغير قتال أمام الاحتلال الأجنبي ورديفه المحلي ممثلاً بالنهّابين وحرامية المال العام.
لم يسبق، في تاريخ الصحافة العربية، أن أنتج كاتب متحدر من صلب الصحافة، مكتبة سياسية كاملة تؤرخ بالشهادة الحية والوثيقة والسرد التفصيلي والتحليل الدقيق لمرحلة كاملة من عمر دولة كبرى، كمصر، بل وللأمة العربية جميعاً، في بعض الأخطر والأهم من مراحل تاريخها المعاصر.
ولقد أعَزّ هيكل الصحافة بأن أبقاها خارج السلطة، وحفظ نفسه بامتناعه عن الانخراط في السلطة والاندماج فيها.
ولقد كانت زيارة »الأهرام« في عهد هيكل زيارة لمصر كلها، أما زيارة هيكل اليوم فهي زيارة للتاريخ الحي لهذه الأمة بكل أوجاعها الثقيلة وطموحاتها العظيمة التي تنتظر هذه المرة »بطلاً« أوحد هو: الشعب.
تحية لهيكل الصحافة العربية في عيده الثمانين، وعسانا مجتمعين نُسهم في إكمال مهمته التي غدت عن حق رسالة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان