في بيان “توضيحي” رسمي جاء كجواب على ما قلته في تسجيل مصور حول مخاطر الانحرافات والفساد في سياسة البترول والغاز، بذلت هيئة إدارة قطاع البترول جهدا كبيرا لكشف ما تسميه “المغالطات” في التسجيل المشار اليه. جهد يستحق جزيل الشكر للهيئة المذكورة، وذلك لسببين. اولهما هو انه يتيح لي فرصة وضع نقاط كبيرة على حروف لا تقل عنها حجما، كي يفهم كل من لم يفهم بعد (او لا يريد ان يفهم) خطورة التصرفات الكارثية المتبعة في هذا المجال. اما السبب الثاني لواجب الشكر فهو ان توضيحات اعضاء هيئة البترول تزيد الطين بلة لأنها تبرز التناقضات التي يتخبطون فيها، والتي يمكن ايجازها في النقاط التالية:
اولا: اللف والدوران حول معنى مشاركة الدولة
من أغرب توضيحات الهيئة هو انها قد نسيت على ما يبدو انها كانت، هي هي، المسؤولة التي تم استعمالها كواجهة لتزوير المبادئ الاساسية التي قام عليها قانون البترول 132/2010 وفي طليعتها مشاركة الدولة في الأنشطة البترولية، وذلك عبر المادة 5 من المرسوم 43/2017 التي تنص حرفيا على انه “لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الاولى”. وها هي اليوم تؤكد وتكرر في بيانها ان الدولة تشارك فعليا بحجة انها تقوم بتأهيل الشركات المعنية، وتعطي رأيها في كل شاردة وواردة، ويحق لها طلب تعيين مراقب (أصم وأبكم) في بعض اجتماعات لجنة ادارة الشركات الاجنبية العاملة، الخ… هذا اللف والدوران هو تلاعب صبياني بالألفاظ لطمس حقيقة جوهرية، وهي ان المشاركة التي نص عليها القانون والتي تمارسها اكثر من 70 دولة في العالم تعني مشاركة فعلية في كل العمليات الصناعية والتجارية، وليس مجرد عمل اداري وبيروقراطي بين اربعة جدران يقتصر على رفع التقارير من فلان الى علتان.
الموضوع ليس مجرد فقه لغة. المهم هو ان التجرؤ على اصدار مرسوم مخالف للقانون يقضي بإمتناع الدولة عن المشاركة في دورة التراخيص الاولى (ناهيك عن الالتزام الضمني بهذا الامتناع في الدورة الثانية الحالية) يعني عمليا اعتبار المجلس النيابي نوعا من الفولكلور المحلي، كما يعني تنازلا كارثيا عن حقوق ملكية الدولة على النصيب الذي يعود لها من الانتاج. فاذا اعتبرنا على سبيل المثال ان نصيب الدولة المتفق عليه هو 40% من مجموع بترول وغاز مكتشف قيمته 50 مليار دولار في رقعة ما من العشر رقع البحرية، فهذا يعني بالعربية الفصحى خسارة ملكية نصيب يعود للدولة في ظل المشاركة الفعلية قيمته 20 مليار دولار !… وهذا نتيجة كرم أخلاق بضع موظفين في وزارة الطاقة.
أضف الى ذلك ان مشاركة الدولة الفعلية عبر اتفاق تقاسم الانتاج مع المتعهد الأجنبي هي الطريق الأمثل لتدريب الكوادر الوطنية ولمراقبة حسابات الطرف الأجنبي، كما حصل في كل الدول العربية وغيرها. اما التنازل عن المشاركة، فنتيجته ان لبنان يصبح كالأطرش في الزفة الذي الذي لا يسيطر ولا يعرف حقيقة الأرقام التي يقدمها المتعهد حول الأرباح والخسائر.
ثانيا: تحديد المشاركة يتم عند توقيع الاتفاق مع المتعهد الأجنبي، وليس بعد اكتشاف تجاري
ومن اطرف البدع التي يكررها المسؤولون عن سياسة البترول عندنا ان انشاء شركة بترول وطنية يمكنها ان تمثل الدولة في اطار مشاركة مع المتعهد الأجنبي قد تصبح ممكنة في حال التوصل الى اكتشافات واعدة.
هذه النظرية فسرها السيد وسام شباط، الرئيس السابق لهيئة البترول، بالقول في مقابلة تم نشرها في “النهار” في 20 نيسان 2017 بالقول ان عدم ذكر حق الدولة الدخول كشريك عند توقيع العقد “هو امر ليس لأبد الآبدين. فمرسوم تلزيم البلوكات يمكن ان يعدل بمرسوم آخر، اذ عندما نتأكد ان هناك اكتشافات واعدة في البحر، يمكن ان ندخل بنسب معينة وتكون النتيجة مضمونة أكثر” (هكذا بالحرف الواحد). فهل انه من المعقول يا ترى ان عدم خبرة رئيس هيئة قطاع البترول يبلغ درجة الجهل ان اتفاقية انتاج مع شركة عالمية هو أقرب ما يكون الى اتفاقية دولية لا تعدل بمجرد مرسوم، حسب مزاج هذا الموظف او ذاك من وزارة الطاقة؟ او ان عدم الخبرة لدى هذا الموظف وبعض زملائه تبلغ درجة الجهل ان اي قانون كان لا يمكن تعديله، ناهيك عن تزويره، عن طريق مرسوم تطبيقي؟… هذا ومع الاحترام الشخصي للموظفين المعنيين، لا بد من القول ان تصاريحهم حول المشاركة لا يمكن ان يتفوه بها الا من لا يعرف عما يتكلم.
ثالثا: هل ان تدخل الوزير في التسويق يخدم المصلحة الوطنية؟
من أعجب وأطرف التوضيحات التي تقدمها هيئة البترول كدليل على وجود المشاركة ان الوزير يعطي تعليماته، استنادا الى “توصية الهيئة”، لتسويق ما يمكن ان تتقاضاه الدولة عينا بشكل اتاوة او قسم من الارباح. هذا بدلا من ان يتولى هذه المهمة الفرع المختص بالتسويق في شركة بترول وطنية، كما هي الحال في مختلف انحاء المعمورة. وهكذا فان الفيول اويل الذي يستورده لبنان مثلا من الكويت او الجزائر يتم شراؤه من شركتي البترول الوطنيتين في هذين البلدين، وليس عن طريق الوزير والموظفين التابعين له في اي منهما، وذلك لأسباب بديهية اهمها الفصل ببن الصلاحيات وتجنب الرشى والفساد. هذا اللهم الا اذا كان من وضع المرسوم 43/2017 يعتبران الوزير وسائر المسؤولين عندنا لم يسمعوا بالمحاصصة والعمولات، ويقفون فوق كل الشبهات من هذا القبيل!…
رابعا: دخل مرتقب هو الأدنى في العالم
يؤكد البيان التوضيحي لهيئة البترول ان حصة الدولة من ارباح الانتاج في الرقعتين 4 و9 ستتراوح بين 53% و71% وذلك دون تقديم اي جدول او اي دليل على حقيقة هذه الأرقام الاعتباطية او على طريقة احتسابها.
بانتظار ذلك تبدو هذه الأرقام كنوع من احلام اليقظة عندما نقارنها بشتى عناصر حصة الدولة التي بمكن لكل من يجيد القراءة ان يجدها في المرسوم 43/2017 وفي القانون الخاص بضريبة الدخل على ارباح الشركات البترولية. هذه العناصر تمتاز كلها دون اي استثناء بكونها دون ما هو مطبق في العالم. وهكذا نجد ان النصوص التشريعية في لبنان لا تأتي على الاطلاق على ذكر مختلف العلاوات (Bonus) التي يتقاضاها عادة البلد المضيف عند توقيع الاتفاقية مع الطرف الاجنبي، او عندما يبلغ الانتاج مستويات معينة. ما نجده هو رسوم مساحات رمزية، وإتاوة (Royalty) من أتعس ما يكون على الغاز اذ انها لا تتجاوز 4% من قيمة الانتاج (اي اقل من ثلث نسبة 12,5% التي تبنتها إسرائيل مثلا والتي تشكل المعيار السائد في العالم)، وضريبة دخل 20% مقابل معدل 26% في البلدان الاخرى. استنادا الى هذه المعطيات يتبين ان حصة لبنان خلال السنوات الاولى من الانتاج ستتراوح بحدود 47%. هذا في أفضل الحالات، اي في حال قدمت الشركات ارقاما حقيقية عن حساباتها وارباحها، دون ان ننسى امكانية اعلانها عن خسائر، مما لا يترك للبلد المضيف سوى الإتاوة الهزيلة المذكورة اعلاه.
اخيرا لا آخرا، يبقى ان حصة الـ 47% التي يمكن تأملها في أحسن الحالات هي أدنى بأشواط من حصة 65 ـ 85% التي تحصل عليها الدول التي تطبق نظام تقاسم الانتاج الذي نص عليه القانون البترولي اللبناني، قبل ان يزوره المرسوم 43/2017. لا بل انها أدنى بكثير مما كانت تتقاضاه الدول المنتجة في ظل الامتيازات القديمة، اي اتاوة، 12,5% تضاف اليها ضريبة دخل 50% على ارباح الشركات العاملة.
هذه كلها معطيات لا يمكنها ان تؤدي الا الى نهب أكبر ثروة يعول عليها اللبنانيون للخروج من النفق الذي قادتهم اليه سنوات طويلة من سرقة المال العام والفساد، ولتأمين غد أفضل لأبنائهم. ولا شك ان اكبر خدمة يمكن ان يقدمها لهم المسؤولون عن السياسة البترولية المخجلة التي تم اتباعها حتى الأن هي الإعتذار العلني عن كل ما حصل من غش وتضليل لاستغبائهم ولإستباحة ثروتهم وآمالهم، فضلا عن تصرفات اخرى لا يمكن بشكل من الأشكال تبريرها بالإغراءات المالية مهما كانت. هذا بانتظار التحقيقات والمحاسبة المتأمل ان تقوم بها بأسرع ما يمكن الجهات المختصة، وعلى رأسها المجلس النيابي.