طلال سلمان

هوامش

عن دمشق المعلقة على جبين التاريخ
هتف بي محمود درويش حين فتح نافذته في الفندق الذي ذهبت برونقه السنون، في قلب دمشق وأطل على بردى أواخر أيلول، وقد كان ساقية شحيحة الماء تكاد تسدها نفايات معرض دمشق الدولي: هذه مدينة مخادعة!. هيا، أعدني الآن إلى بيروت.
كان محبطاً، تأخذه خيبة الأمل إلى رفض ما يراه بعينيه مقارناً مع ما في ذاكرته، ومن ثم في خياله، عن «أم التاريخ» التي انكشف عريها لعينيه ففجعته: هذه مدينة مخادعة!. هيا أعدني إلى بيروت التي تدخلك العصر، لنترك فوراً الماضي المجمد هنا داخل الأسطورة.
حاولت تهدئته، قبل أن تأتيه نجدة بعض الأصدقاء الذين أسقطت دمشق انتماءاتهم البلدية وصيرتهم منها فأخذونا في «جولة سياحية» في بعض أسواقها ومعالمها الثابتة… لكنه استمر يقذف حممه من قلب الإحباط الذي غمره: قم ناجِ جُلَّقَ وأنشدْ رسم من بانوا!. هه، هه… لقد قال الشعراء في بردى ـ الساقية هذه دواوين شعر لم ينظموا مثلها في نيل القاهرة الذي بعض بحر. لا شيء باهراً في هذه المدينة يعادل ما في ذاكرتي عنها. الذاكرة ليست مستودعاً للتاريخ. إنها عين تقرأ الغد في الماضي. ولكن مدينتكم هذه لا تساعدني.. أسواقها عادية إلا بباعتها الذين يصلحون أساتذة لتعليم فن التجارة. إنهم يبيعونك حتى الغبار.
قال واحد من الأصدقاء وقد تبرع ليكون الدليل السياحي: إننا هنا ستة، بعضنا من حوران، وبعضنا من دير الزور، وبعضنا من الساحل، وبعضنا من حلب، ومعنا هذا اللبناني وأنت الفلسطيني، لكن دمشق عاصمتنا جميعاً. لا أتحدث عن الماضي، فدمشق تتميز بأن ماضيها حاضر لا ينقضي بمرور السنين، وأهلها الأمم جميعاً، فعندها القدرة على استيلادهم من جديد وكأنهم من أهل الميدان. هيا، لنتجول قليلاً وسط هذا المزيج الكوني الاستثنائي من الآراميين والسريان وبقايا اليونانيين والرومان والفرس إلى المماليك والأتراك وصولاً إلى العرب العاربة. ألم تنتبه إلى تجاور رأس يوحنا المعمدان مع سيف خالد بن الوليد في المسجد الأموي؟ وتجاور صلاح الدين والجنرال اللنبي ويوسف العظمة والجنرال غورو في خلفيته؟! ثم ألم يلفتك التآلف بين أعراق الدمشقيين الحاليين وفيهم الكلدان والأتراك والكرد والمتحدرون من البلقان والشراكسة والمغاربة واليهود والبدو الذين يحتفظون ببقايا السيوف التي انحطمت في الأندلس؟!
كانت تلك أول جولة سياحية لمحمود درويش في «الشام»: يوم 24 أيلول 1972. أما في الزيارات الأخرى التي انفتحت له فيها البيوت بأهلها، قبل «الدولة» وبعدها، فلم يحتج إلي كدليل، وإن أنا ضبطته وقد باشر عزف بعض شعرها من ديوانه الذي ضاع سطره الأول ويكاد يضيع منا السطر الأخير فيه.
]]]
لا تقبلك دمشق راثياً أو مؤبنا. إنها عنوان الحياة حتى لو حاصرتها عواصف الموت الآتية من الجاهلية.
هنا مقتطفات من ديوان جديد للشاعر العراقي محمد مظلوم: «معلقة دمشق» الذي نزفه وهو فيها لا يغادرها ولا تغادره، وعاش مع أهلها الذين يختصرون الأمم والامبراطوريات والأديان والأزمنة.. ورفض أن يهجرها وقد أنهكتها السياسة فجعلتها المركز، تفتح ذراعيها للوافدين إليها من البعيد البعيد كما من القريب القريب، وتحتضن كل من جاءها طالباً أن يكبر بها وأن يدخل التاريخ منها وبها حتى وهو يعرف أنه لن يخرج منها إلا وقد دمغته بختمها. إنها أكبر من غزاتها ومن الأباطرة الذين عبروها، ولقد بقيت، وأعطت من جاءها ليحتمي ببعدها شرف أن يكون منها إذا ذاب فيها.
]]]
يا شامُ،/ يا شامةً على خدِّ الله الأيسر،
وقُبلةَ على الأيمن،/ ودمعةً على نحر نبيٍّ مخذول.
يا مُنعرج الهروبِ/ بين الأبدية والبيت،
الدمشقيون الذين كتبوا سِيَرَهُم على ظل النسيم،
وأسماء حبيباتهم على حبّة القمح،
أولئك الذين انتحروا/ من أعلى «قاسيونَ»
وبُعثوا في «سوق الحميدية» في الوقت نفسه،
يتقدَّدون الآنَ/ في أرضٍ بعيدة.
دمشقُ يا دمشقُ/ يا هبةَ الشمس للعارفينَ. ومِكحلة الأعمى!
يا نِصفَ الأبدية التائه/ وبراعة الهواء في الإمساك بريشة تبني المُدُن.
شيّدها المتسللون من الفردوس/ وعادوا يتجادلون مع النَّدم.
يا أول مقبرةٍ. وآخر باب للفردوس.
أيتها المدينة التي بنتها الملائكةُ
والمياه والنّسيمُ.
حُدودُها بين الصَّخر والياسمينِ.
]]]
أُمويُّون يدخلون نزاعات مع التاريخ،
ويخرجون في تغريبة،
تُلوِّن صحراء من الذكريات.
كان الصّقر القُرشي، بجناحيه المطويِّين قليلاً على الحُزن، قد مال
بجناحه الأيسر نحو البحر، فسمع أنين السيرينيّاتِ، وحلَّق في غيمةٍ
مُبتعداً عن موانئ الإغريق، ليخُطّ بالدّمع وكراً لأحلامه.
فكان الغروب أندلساً حمراء،/ سبيكةً من ذهب الطوائف.
وبعد قُرون/ كان الأحفاد يرثون في عيونهم
تلك النخلة التي زرعها الأُمويُّ في عينيه،
آخر مشهدٍ للبلادِ في هجرته القديمة:
قال عبد الرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس:
تبدَّت لنا وسط الرَّصافة نخلةٌ
تناءَت بأرضِ الغرب عن بلدِ النخلِ
فقلتُ: شبيهي في التَّغرُّبِ والنَّوى
وطول اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلي
نَشَأتِ بأرض أنتِ فيها غريبة
فمِثلُكِ في الإقصاء والمنتأى مثلي
]]]
يعودُ المغاربةُ، وفي قلوبهم أندلسٌ مقلوبة، أُمَويُّون يعودون، بقُرون منافيهم التي نبتت، نخلاً كثيراً في العيون،
ويُعيدون تنقيح خرائط الهجرة القديمة، بلسان عبد الرحمن الداخل:
أيها الرَّاكب الميمِّم أرضي
أقْرَ من بعضيَ السلام لبعضي
إن جسمي، كما رأيتَ، بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قد قضى الله بالفِراق علينا
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
قدَّر البينُ بيننا فافترقنا
وطوى البينُ عن جُفوني غمضي
لا يزالُ فندق «فيكتوريا» ينتظرُ «فكتوريا»/ لتهرب من موتها الإنكليزيِّ
وتُلقي بتاجها من فوق الجسر/ على رؤوس، تتدافع نحو «ساحة المرجة»
وهي تخرج من حانات صغيرة
في «شارع شيكاغو»/ كانت نادلاتُها نساء «بالميني جيب»
هربنَ من مُشاحنات يومية،/ مع الطائرين قُرب سيقانهنَّ،
واشتغلن في حُجوزات طيرانٍ آخر،/ وكذلك بقية الحانات، على الأرصفة القريبة،
تهرُبُ في طائراتٍ
وبنوك وبازارات.
وثمّة مصوِّر أرمنيٌّ في الصالحية،/ يدفع بي إلى أرشيفه،/ وأنا ما زلت أُقهقه في الصورة.
أكرادٌ،/ ليس لهم أعداءٌ في المرايا/ يتنزّهون، في الأزقّة الخلفيّة لليل،
مُتنكّرين بأطياف الأيوبيين/ ويحملون في قلوبهم/ جبلاً من وردٍ مقتول/ يُخرجون منه كل يوم وردةَ/ ويغرسونها في الطريق، إلى جبلٍ في الشمال.
أتنكّر لمقابلة كاهن ضال.
لأقول له:
إنها لُعبة كشتبان.
وتحتها رأس يوحنَّا.
أقرأ في كتاب: «الرّوضة الرّيّا فِيْمَنْ ـ قُتل ـ بداريَّا»(1)
عن أولياء أضحكوا زمانهم
وهم يُنازلون الأبدية في حفرة ضيّقة.
وأُحاول أن أدفن شاماً شريفاً، فلا أجد قبراً
لكل هذا الموت من حولي.
يا مدينةَ الرؤوس المقطوعة،
من رأس نبيٍّ في الطَّست
وعيناه تتلفّتان نحو موسيقى قريبة
إلى رأس الإمام المُسافر على رُمح
يقرأ الأشعار وأسفار المُلُوك،
إلى رأس هشَّمته صخرةٌ نبتت فيها وردةٌ،
وتأكل الغِربان أحلامه النازفة.
دِمشق يا دِمشق
العِشق يا دِمشق.
الشَّوق يا دِمشق
الدَّمع يا دِمشق
والدَّمُ يا دِمشق.
حُنجُرتي مخنوقةٌ والدَّمع رق.
الياسمين أحمر
وشُرفةُ المنزل ـ آهٍ ـ تقطرُ
وسيفُكِ الدَّامي على أصابعي
من اسمِك البعيد يُشتق.
قيثارتي مجروحةٌ
من سُومر حتَّى دِمشق.

(1) «الروضةُ الريَّا فيمَنْ دُفِنَ بدَاريَّا» كتاب لعبد الرحمن بن علي أفندي الدمشقي (المتوفى: 1223هـ).
واصف الذي ليس كمثله شاهد!
أخيراً فعلها واصف عواضة: استجمع شجاعته وكتب تجربته مع الصحافة وعبرها، ومن ضمنها معايشته التلفزيون الذي كان واحداً فتعدد وكان حكوميا ولو بالشراكة مع القطاع الخاص فأفلت من عقاله ليتوزع انصبة على زعامات الطوائف ورجال المال وبعض المغامرين الذين يراهنون على التحولات الدولية وتفجرات الإقليم بالشعار الديني.
روى ابن الناقورة حكايته بفصولها المختلفة وأولها اختطافه وهو فتى يجرب حظه في صيد السمك، مع اقرانه عند شاطئ بلدته… وكان المختطفون جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين سيشهد واصف عواضة انسحابهم المرتجل وهم في حالة انهيار بالزعر فجر الخامس والعشرين من أيار 2000 تحت ضربات مجاهدي المقاومة ليكون «عيد التحرير»، وهو الذي «ليس كمثله يوم».
لكن ذلك «اليوم» ليس إلا محطة مضيئة على طريق ابن الناقورة الذي اختار الصحافة مهنة، وأمضى زهرة شبابه بين التلفزيون والوكالة الوطنية وبعض المجلات (الشراع) والصحف (السفير)… وقد أتاح له موقعه في الاعلام الرسمي أن يسافر كثيراً ملحقا بوفود رسمية، وان يزور بلدانا عديدة، فيغني معارفه ويلتقي العديد من المسؤولين، في بلدان عربية كثيرة كما في إيران وبعض الدول الغربية.
يروي واصف، من موقع الشاهد، حكايات كثيرة عن الاعلام الرسمي، والتلفزيون الذي أعطاه نصف عمره، بشكل خاص، وعن بعض الأحداث والحوادث التي شكلت محطات مهمة في الحياة السياسية اللبنانية، أبرزها ما لا يسقط بمرور الزمن كاتفاق العار في 17 أيار 1983 مع العدو الإسرائيلي… ثم بعض اللطائف والطرائف عن عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي.
ولأن واصف عواضة بالغ اللياقة فقد استذكر بعض محاسن المسؤولين ممن عمل معهم أو تحت إشرافهم كوزراء للإعلام أو في رحاب تلفزيون الدولة قبل انطفائه، وغض النظر عن مباذلهم الا أقلها، الكتاب هادئ، مثل واصف، وان هو حفل باستذكار وقائع وأحداث خطيرة، لكن الزميل العزيز ظل في موقع الشاهد لا يغادره.
وهذه الكلمة بديل متأخر عن مقدمة وعدت بإنجازها لكتاب واصف عواضة «ليس كمثله يوم»… وبعد مائة يوم من صدوره كشهادة لمراقب يتحاشى ان يكون طرفاً، وهذه معجزة انجزها هذا الزميل الذي يعزف على قلمه وكأنه عود.
انطباعات سياحية…
^ قال المغربي الذي جاء سائحاً وعاد شاعراً: بلادكم جميلة، فيها الجبال تحرس البحر، والأغنياء يمخرون عبابه بيخوتهم بينما الفقراء يبحثون عن شاطئ غير مصادر بالثروة لكي يتعلموا السباحة بلا مرشد. انكم تبيعون الجمال للسياح وتعيشون خارجه. تتعاملون معه كسلعة لها مردود طيب كاستثمار مفتوح، متى تدخلون بلادكم كوطن؟! متى تكفون عن التعامل مع هويتكم وكأنها أداة تعريف مؤقت في انتظار جواز السفر السحري من بلاد الآخرين؟
^ وقال المصري لمضيفه: أراكم تتعاملون مع بلادكم كسوق حرة… لكأنكم مستعدون لبيع أعمدة بعلبك وما تبقى من أشجار الأرز!
متى تستوطنون لبنانكم الجميل؟
^ وقال الخليجي: ما يعجبني في اللبناني انه يتعامل مع هويته كاستثمار. نحن نبيع فرص العمل واحلام الثراء، ونستمتع بموقع الآمر الناهي. أنتم تشترون تلك الفرص فتستأجرون من يعمل وتتفرغون لرعايتنا. لكنكم لا تنتبهون إلى اننا لم نعد بحاجة إلى مترجمين ووسطاء ومقدمي خدمات. مالنا يشتري الدول بالملوك والرؤساء، العباقرة والخبراء، نجوم السينما والعلماء، المتاحف والجامعات والبنوك والشركات العالمية. لا تحتاج سمعتك النفطية إلى تزكية. لقد انتهى الزمن الذي كان يعاملنا فيه الآخرون وكأننا أغنياء بالمصادفة، سذج بل أغبياء، طارئون على سوق المال. لقد صرنا ما كان عليه الأجداد: نبيع اللؤلؤ بالذهب، والذهب بالبشر، والبشر بالرمل… ورمالنا بلا ضفاف.
حكاية/ في انتظار العاصفة.. مجدداً
..ولقد اقتحمتني مرة: لم أعرف تماماً هل نزلتِ من عل أم دخلت مع الهواء، ولكنني وقفت مذهولاً لفترة في قلب السؤال عما جاء بك، بلا موعد، وبلا سابق معرفة تتجاوز تحية المجاملة الباردة. ثم كان عليّ ان أرد على التحية بمثلها… وهكذا استبقيت بعض عطرك ونتفا من كلماتك المتقاطعة والكثير من الشياطين التي تتفلت من عينيك ناثرة شميم الغواية في الزوايا الأربع.
في المرة الثانية كنا على موعد مع التيه. سقط الوقت عارياً وانطوى علينا المكان في عبق التنهدات واستأخرنا العتمة حتى فاضت بنا فسرينا إلى ركن الهمس المحموم، تتقطع فيه الكلمات وتتناثر جملا مفككة تشابه النبضات المتسارعة للقلب المنهك بعطش الشوق إلى الامتلاء.
في المرة الثالثة استهلكنا فضول من حولنا فانصرفنا يثقل حركتنا الشعور بالخسارة…
أما في المرة الرابعة فقد سقطت البدايات أرضاً فانحطمت..
وها نحن نعمل على ترميم خسائر العاصفة في انتظار هبوبها من جديد.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ منذ أول لقاء عرفني حبيبي بعيوبي ومباذلي ووجوه التميز. وهو يرحمني فيغفر لي ارتباكي وتعثري حين التقيه مع امرأة أخرى. يقول لي مهدئاً روعي: أما وقد احببتك فكل النساء أنت.. الحب لا يتسع إلا لامرأة واحدة والباقيات من الجواري وخدم اللذة.

Exit mobile version