تطل عبر عيني الصقر ابتسامة يمازج فيها المرح المكر، وتندفع الاسنان الغليظة الى خارج الوجه لتشهد على الالتباس، في حين تظلل السويداء القلب والأوردة:
أولاد الزانية! انهم لا يقبلوننا إلا حطاماً!
يلتفت متفحصاً الوجوه من حوله فإذا اطمأن اطلق الزخة الثانية من الرصاص:
نفهم ان يطاردنا عسسهم. نفهم ان يخافونا فيأمروا بالسجن او بالمنع من السفر او بنفينا، ولكن لماذا يصرون على إجبارنا على احتقار أنفسنا؟! لماذا يريدون من كل منا ان يطحن الآخرين ويذهب إليهم ليمنحوه شهادة حسن السلوك؟!
يقتحم »المتنبي« الجلسة فيتصدرنا، ونحلق مع شعره المتدفق غضباً وإحباطاً يأخذه الى »الحكمة«. لكم يتشابهان: كلاهما عاش فوق السلّم المتحرك بين القمة المحظورة للأقوى والقاع المهجور للخائبة جهودهم.
كلاهما كان يرى نفسه، عن حق، أجدر وأكفأ ممن يعمل لهم، ويتجرع مرارة الهزيمة أمامهم، ويعيش حالة اقتتال مفتوح بين ضرورة ان يرفضهم وبين اضطراره الى شراء قبولهم له.
الاحتقار متبادل، لكن الذهب في يد الآخر، المنحط والتافه والسفاح.
الخوف متبادل، لكن السيف في يد الآخر، الذي يريد لسانه حتى لو كان قلبه يتفجر باللعنات عليه.
* * *
كنا جماعة نساهر باريس في انتظار فجرها البهي.
قالت واحدة من الصديقات: نحن نقيم في باريس ولا نعرفها.
قالت صديقة اخرى: انها مدينة كالأخريات، قد تكون أجمل، لكننا نعرف عنها ما يكفي.
وقال »شيخ القعدة«: معكم هنا اعظم خبير في باريس. لكأنه من بث فيها روحها. يكاد يعرفها اكثر مما يعرفها أهلها. انه يرى فيها ما لا يراه غيره، ويفهمها اكثر من الذين كتبوا المؤلفات المعززة بالخرائط عنها.
التفتنا الى »الباهي«، فإذا هو مسافر مع الانوار الشاحبة للفجر الآتي من قلب الليل.. كان مسحوراً، وأخذنا الى صمته الذي كالصلاة.
فجأة انطلق الصوت متهدجاً بآيات من القرآن الكريم.
ذهلنا جميعاً: ما الصلة بين باريس والقرآن؟!
ختم تلاوته، كما يختم المقرئ المحترف، ثم تدفق النهر مجدداً، شعراً هذه المرة. ألفية ابن مالك، ثم بعض شعر أبي تمام، وصولاً الى »شفيعه« المتنبي.
ربما لأنه انتبه أخيراً الى السامرات معنا، بادر الى إيقاظ »المجنون« وأطلقه مرة جديدة يتلمس ظل »ليلى« ويتتبع عطرها، ويموت دونها.
ساد الصمت من جديد، وكنا تائهين بعد في صحراء الوجه، حين لعلع صوت الباهي مجدداً مستذكراً قصائد لشعراء فرنسيين مجددين، معظمها في الحب، وفي كل منها وجه جديد لليلى واسم مختلف لقيس بن الملوح.
قبيل الشمس، كنا نستمع من الباهي الى غزليات بدوية، بالدارجة المغربية، وكانت ليلى تنصب شعرها خيمة لقيس الذي أحرقه الهجر والهجرة.
* * *
قال هامساً: لنترك المقهى، ولنخرج الى الشمس، أريدك في أمر.
كنت متعباً، وافترضت انني اعرف ما يريد الباهي ان يساورني فيه، لكنه ألح: ما أريدك ان تعرفه لا يجوز ان يقال هنا. اننا لا نعرف أين يقيم هذا الذي يحصي علينا انفاسنا. ربما يقتعد فنجان القهوة!
في منتصف الشارع تماماً، ونحن فوق معبر المشاة نتعجل الخطى في اتجاه رصيف السلامة قال الباهي:
يريدونني ان أعود الى المغرب، ويلحون عليّ. أعرف رأيك. انت تطاردني بضرورة ان اعود ولو الى السجن هناك، لكن القرار صعب عليّ لألف سبب وسبب.
البقاء هنا أصعب، في نتائجه.
تعرف، الاسرة، وضع ابنتيّ، حياتي، صعلكتي، كتبي، قراءاتي، مصدر الرزق، ثم.. الدور. يريدونني ان اعود لأتولى مسؤولية في جريدة الحزب.
لنبدأ من حيث يجب ان تكون البداية. أنت الآن في المغرب، والمطلوب حلول عملية لمشكلاتك، العائلية منها والثقافية. ولنسأل بشكل محدد: هل تريد او تستطيع ان تكون زعيماً؟!
أعوذ بالله.
هل ما زلت قادراً على لعب دور القائد الحزبي؟ لم تنجح في حياتك الا كمناضل برسم السجن. انت »القاعدة« دائماً.
أعرف، ولعلني سأنتهي في السجن من جديد.
هل امامك فسحة للعب دور جدي في الصحيفة، بعيداً عن الضوابط الحزبية؟ هل ستظل أنت ام ستصير قلماً للبروباغندا الحزبية؟!
لا أدري، هذا ما أخاف منه؟!
وماذا يقول »الفقيه« (محمد البصري)؟
انه ميال لأن يحسم أمره فيعود، لكنه يريدني معه في القرار وفي المغرب.
قضي الأمر، اذاً.. لن تترك »الفقيه« يعود وحيداً.
خيّم الصمت دقيقة او يزيد، ورف علينا الحزن كثيفاً:
إنما نعود لنموت في المغرب.
ولكننا نموت في منافينا كل يوم ألف مرة، ونموت بلا مشيّعين.
أن تهرب من الموت المجاني الى الموت ذي المعنى، هذه هي حياتنا.
امامنا فرصة بعد لأن نوفر للآتين شروط حياة أفضل…
الى متى سنظل نسافر بين الموتين ولا نعثر على حياتنا؟!
انفجرت قهقهته الساخرة قبل ان يضيف: لعل حياتنا بعد الموت، بل بعد الموتين!
وها هو الباهي محمد يطل علينا بعد الموتين وفي عينيه تلتمع السخرية من هؤلاء الموتى بلا قبور والمفترضين انهم يصنعون الحياة!
الحزن مرجأ في انتظار ان تهل بشائر زمن الفرح.
والفرح خلف الأفق لا تطاله العين ولا الخاطرة.
لكن الاحلام تأخذنا اليه، كل ليلة، بينما تباعدنا عنه »الاخبار«.
لعل الباهي محمد قد ضجر من انتظار الفرح المكبل بأصفاد التخلف وإرادة السلطان.
لعله قد توغل في صحراء يأسه، بعد مصابه في ابنته، فقرر ان يسافر اليها، في قلب الفرح الموعود، بدل ان يظل يمضغ انتظاره على رصيف العبث وافتقاد المعنى.
فلا وجود للباهي محمد خارج المعنى.
ولعله قد اختار موعد الغياب في »عرس قانا« الذي طالما ساهم الباهي محمد في إحياء امثاله في مشارق الارض العربية ومغاربها.
الحزن مرجأ.. حتى نستطيع ان نخرج من قلبه ونميزه، فنحن الآن لا نعرف غيره، ولا نعرف شيئاً خارج تخومه.
الحزن مرجأ، لكنه الآن اكثر اكتمالاً.
»الطفل« الذي يصنع لنا الفرح
هذا الطفل الذي يأخذ من الزمان فرحه ولا يشيخ.
»قمر مشغرة« الذي يأخذنا الى الفرح لنقوى على الزمان وعادياته، والذي ينثر نقاءه على دنيا الفن في لبنان وسائر الارض العربية، منحنا القوة لعمر جديد، مساء السبت الماضي، من خلال مشاركته في »عرس قانا« تنتهي لياليه في مسرح المدينة اليوم (الجمعة) .
ليس الفن ترفاً.
وليس الفن تهويماً في سديم العبث.
الفن للناس وبالناس: منهم ينبع وإليهم يتجه، يكشح السويداء ويعمق الحزن ليصير ذروة التحدي لقدرة الانسان على التحمل والمواجهة وتخطي الواقع.
ومن قلب الحزن يستولد زكي ناصيف الفرح الانساني. يكاغيه ويلاغيه ويمسح عليه بشيء من طفولته ثم يطلقه ليقول للناس انهم هم البداية والنهاية: هم البناؤون، هم الفلاحون، هم الحصادون، على وجوههم ترتاح الشمس ومن ضياء عرق الجبين يستمد القمر نوره ومن ارتعاش عيون الصبايا بالحب تتوالد النجمات وتفرش السماء ملاءة وأثواب زفاف.
زكي ناصيف لا يغني: انها روح البقاع، ارضه بالنهر فيها والشجر، بالطير ونسيمات الجنوب المطعمة بنكهة فلسطين، بشموخ جبل الشيخ ومنقلبه السوري حيث تزاوج عبق الايمان بالمسيحية والاسلام تحت عباءة البداوة التي ورثت تمدن السابقين لتصنع حضارة جديدة غنية الوجدان بالرموز…
ومن الرموز تجيء الفلسفة والرياضيات والموسيقى والمعادلات التي تستولد لكل أرض انسانها.
وكالروح، زكي ناصيف، لا يهرم ولا يشيخ ولا يتوقف عن العطاء.
* * *
لماذا يتباعد هؤلاء »المتكاملون«؟!
لماذا يضيع الشعر عن لحنه ويتوه اللحن عن صوته؟!
لماذا لا يغني عبد الكريم الشعار وجدان طلال حيدر بروح زكي ناصيف؟!
انها دعوة »أنانية« يطلقها مستمع يتشهى اكتمال المبنى بالمعنى.
انها دعوة الى اختراق الركاكة والهشاشة وليل الاغتراب عن الذات بالأصيل والجميل والذي يبقى للذين بعدنا ويرشدهم الى أنفسهم.
رامح مدلج يبكيهم ثم يبتسم ليراهم
كنت يافعاً حين سمعت رامح مدلج يغني فيبكي سامعوه طرباً او لوعة على الذين فارقوهم او افترقوا عنهم او عز عليهم انهم »لم يكونوا معهم ليفوزوا، اذاً، فوزاً عظيماً«.
العينان المطفأتان نبعا حزن تسح منهما المواجع، والصوت بئر طافح بالشجن، والجمهور الذي تربى على تعذيب الذات يستزيده بكائيات فلا يطلب الا »الفراقيات« والايغال في الأسى العراقي المعتق حتى لحظة مصرع قابين على يد أخيه هابيل.
هل ارتكب هؤلاء من الخطايا ما يبرر كل هذا البكاء؟!
أم هل وقع على هؤلاء الذين قرت وجوههم من الصخر وترف على قلوبهم قرون اقحوانه، من الظلم ما يبرر كل هذا النواح؟!
وهل الرد على الظلم يكون بالنواح والايغال فيه واعتماده طقساً؟!
ثم ان في النواح ما يتعدى الاعلان عن الظلامة: ان فيه اعترافاً بالقصور والتقصير والجبن والخوف والهرب من مواجهة الظالم..
وربابة رامح مدلج فصيحة: تقول بأوتارها الضئيلة كل هذا وتعيده فلا يرتوي الندابون ولا تأتي المغفرة.
على انني في لحظة ما لمحت فوق النظارتين السوداوين الحاجبتين العينين المطفأتين طيف ابتسامة.
وحتى لحظة سماعي خبر رحيل هذا الذي كان يختصره صوته، ما زلت استمد بعض فهمي لنهر الحياة المتدفق من تلك الابتسامة الغامضة التي ظلت تشع من بصيرة رامح مدلج حين يغلق الحزن المستعاد او المستعار عيون جمهوره المتنقل ابداً بين النقيضين: بين الحداء المفاخر بالمبالغة و»الفراقيات« الموغلة في الحزن حتى تخوم الجفاف المطلق!
الشعر يذهب الى النوم
عندما تحضرين يذهب الشعر الى النوم.
*
كان الشاعر يروي بعينيك.
ولم يسمعه أحد، لأن عينيك كانتا مغمضتين عليه.
*
تخرجين من الحكاية لتُدخلينا اليها.
ونظل ندور فوق خشبة المسرح وتدور اصواتنا حولنا، نحاول عبثاً ان ننهي الحكاية التي تضيفين إليها في كل لفتة بطلاً ضحية.
* يعيش العرب في الشعر، فإذا أخرجوا منه اندثروا.
*
النقطة ضيقة لا تتسع للقصيدة.
والنقاط الكثيرة لا تصنع وجداناً.
وفراغ ما بين النقطتين لا ينجب المعنى.
كيف تعيش أمة خارج المعنى؟!
*
دخلت القاعة الفسيحة منتشياً بسحر اللون.
لا اذكر كيف سقط عليّ قوس قزح، فأصابني دوار خفيف.
أعرف الآن أنني غارق في مدى عينيك وأنك تصطنعين لي نهاراتي والليالي.