لورا مقدسي وأيام بغداد الدموية .. وقصة الحب الخائب
عنوان الكتاب مخادع «700 يوم في بغداد»، ذلك أن الأيام الحقيقية التي عاشتها الكاتبة والصحافية لورا مقدسي يمكن قياسها مرة بالسنوات في ظل جنون حرب ما بعد الحرب، ومرة أخرى بهنيهات من الفرح والعشق، وإن جاءت خاتمتها أقسى من كل المآسي التي شهدتها فأوجعت قلبها المكلوم بتجربتها الشخصية.
يؤرّخ الكتاب لسنتين من المرحلة الدموية المفتوحة التي عاشها وما زال يعيش في إسارها العراق والعراقيون في قلب الموت، مع تفاوت في أعداد الضحايا بين يوم وآخر، شهر وآخر، سنة وأخرى… وهذا واضح في عناوين الفصول كما في سياق السرد وكله ينطلق من المشاهدات المباشرة بمجازر السيارات المفخخة وضحايا مشاريع الفتن بين السنّة والشيعة، إلى كشف ممارسات الاحتلال الأميركي وطابور الذين تعاونوا معه من الوجاهات العراقية المحلية أو المستعادة من الخارج… كذلك ترد إشارات توضيحية لموقع الأكراد وطموحاتهم، وتعريفية بسائر الأقليات من اليزيديين إلى الكلدان والصابئة إلخ..
تكفي عناوين الفصول للدلالة على المضمون: رحلة إلى بغداد ـ بيتي فندق الرشيد ـ عقوبات.. وسقوط: ألف قتيل وبطل واحد ـ صفية الجميلة ـ دستور تحت الاحتلال ـ حبش وخمر وموت ـ الجامع في الصدارة ـ نحو صناديق الاقتراع ـ محاكمة صدام ـ كردستان… جزء من العراق ـ الأقليات أولى ضحايا العنف ـ انشقاق بين الشيعة والسنة ـ حرب أهلية أم لا.
ثمة واحة يتيمة في هذا الكتاب الذي يؤرّخ لجانب من المأساة العراقية عنوانها علاء الدين، وهي تنطوي على قصة حب ملتهبة في قلب مخاطر الموت، تنتهي هي الأخرى بمرارة الخيبة.
ذهبت الكاتبة مع الأمم المتحدة فأُنزلت في فندق الرشيد الذي أراده صدام حسين تحفة وجعلته حروب الاحتلال وما بعده مسكناً خرباً للأشباح في مدينة مستباحة حيث يحصد الموت مئة ضحية في اليوم الواحد.
تغلب لغة الرثاء أحياناً في الحديث عن بغداد، «عاصمة الخلفاء ومفخرة العرب، بلاد ما بين النهرين، مهد الحضارات القديمة التي شكلت مفاهيمنا الحديثة حول الحق والباطل، الخير والشر استناداً إلى مدوّنة حمورابي وملحمة جلجامش، البحث عن سر الخلود ومعنى الحياة… أما عن الحياة اليومية فوقائعها سيارات مفخخة، والسلامة الشخصية مسؤولية شخصية، والغرفة في فندق الرشيد تغرق في طوفان من الماء، بينما لم ترَ أثراً لدجلة «النهر المزاجي المجنون كما لو أن هولاكو قد محاه من الوجود في القرن الثالث عشر حين دمر بغداد وأحرق مكتبتها بكنوز المعرفة فيها والتي لم يكن لها مثيل في العالم».
لا تهمل لورا مقدسي الحياة اليومية في بغداد المحترقة بالنارين: نار الاحتلال ونار مقدمات الحرب الأهلية التي وجدت الكاتبة أن هذا الاحتلال يغذيها لتكون فتنة بين الشيعة والسنة.
النفس روائي، والعين لاقطة، والوصف تفصيلي وجميل، وهي لا تهمل التفاصيل والشخصيات السياسية وحتى الهامشية، من صفية السهيل بعطرها الباريسي إلى سرمد الخادم الذي كان يحمل في داخله كل أطياف العراق، فوالده شيعي وأمه كردية وزوجته سنية، وهو «فيلي»، أي كردي شيعي.
ثم إنها تقدم الأقليات الدينية والعرقية في العراق:
ـ التركمان، وهم قد وقعوا ضحية مرتين: «مرة عند تعريب كركوك، ومرة عند كردنتها. والمشكلة تكمن في تبعثر التركمان وتشتتهم السياسي، فالشيعة منهم التفوا حول الأحزاب الشيعية والسنة حول الجبهة الوطنية التركمانية التي نالت مقعداً واحداً في البرلمان. ولا يعرف أحد أعداد التركمان الذين جاؤوا إلى العراق على دفعات خلال الحكم العباسي وانتسبوا إلى جيش الإمبراطورية وهم مستقرون في كركوك ونينوى والمناطق المحيطة».
ـ الصابئة أو المندائيون، وهم أصغر الأقليات وأقدمها، وهم يؤمنون بيوحنا المعمدان مسيحاً لهم وبرسالته الإلهية لتحرير الإنسانية.. وقد مارسوا طقوسهم وعاداتهم لآلاف من السنين لكنهم لم يتقوقعوا، بل سكنوا في الأحياء المختلطة لبغداد. و«كشف لي الشيخ ستار جبار، مسؤول التجمع المندائي في بغداد أنه من أصل 75 ألف مندائي لم يبق في العراق أكثر من 15 ألفاً، وهاجر الباقون بأكثريتهم إلى أوروبا واستراليا وسوريا» (!).
ـ اليزيديون، ورواية الخلق عندهم لا تختلف عن القصة اليهودية والمسيحية والإسلامية.. فالله خلق الملائكة، ثم خلق الأرض وبعد ذلك جدّنا آدم. وكان الملائكة يلعبون دور الوسيط بين آدم والله. أحد الملائكة تمرد يوماً على الله.. فطرده الله. أما في الرواية اليزيدية «فيسأل الله الملك المتمرد لماذا لم يطعه، فكان الجواب: أنه لم يكن ليستطيع أن ينحني لآدم، فقط لله! وسُرّ الله بهذه الإجابة فنصّب الملاك المتمرد رئيساً للملائكة وسمي ازازيل أو الملاك الطاووس». والمفارقة أنه لا ذكر للشيطان في الديانة اليزيدية، ولا أثر للجنة أو لجهنم وهي تستعين بمبادئ من الزرادشتية، وتؤمن بالتقمّص كالهندوسية، وبالعمادة كالمسيحية، «وعندما نصلي ندير وجهنا صوب الشمس كالزرادشتيين، ونستلهم تعاليم الصوفية»، ولكنهم لا يأتلفون مع الإسلام. ولا تسمح اليزيدية بالزيجات المختلطة، ولا يجوز الزواج في نيسان أو ارتداء اللون الأزرق لأنه لون مقدس: أما عمر الديانة فيزيد على أربعة آلاف سنة، وفي القرن السابع عشر كانوا يزيدون على المليون، أما اليوم فنصف مليون. وخلال عهد صدام كانوا يعيشون في ظروف بدائية إذ قُطعت عنهم المياه والكهرباء وحُرموا من التعليم المجاني والخدمات الطبية لأنهم رفضوا مطلب صدام بأن يسجلوا أنفسهم كعرب.
يبقى الكلدان، ومن طرائفهم أنه ابتداءً من القرن السادس عشر صار للكنيسة الآشورية بطريركان: واحد يحتل منصبه بالوراثة، والثاني بمباركة بابا الفاتيكان. وقد اختارت روما تسمية الكنيسة الكلدانية لتمييزها عن الكنيسة الآشورية القديمة… وبطريركها لبابل والكلدان.
في قلب الحرب وأنهار الدم المسفوح أطل علاء الدين ومعه الحب:
«لم نعد نفترق إلا نادراً. كنا نشعر برغبة طاغية في أن نكون معاً. وكان يأتي متخفياً إلى غرفتي في المساء، يشدني من يدي برفق حتى أتقوقع في حضنه. حالة من العشق اجتاحت كلينا. ودهشة من مشاعر جارفة لم يتح لأي منا أن يختبرها قبلاً… لكن سماءنا لم تكن صافية تماماً، والغيوم التي عكّرت عليّ سعادتي كانت تتعلق بوضع علاء الدين العائلي وبموقعي في حياته كعشيقة».
تتوالى التفاصيل راسمة ملامح المأساة: يعود علاء الدين إلى عائلته «يمارس الجنس مع زوجته بانتظام ويلعب كرة القدم مع أولاده، ولا يتأخر عن تلبية كل المناسبات الاجتماعية… وشعرت بأنني فقدت شيئاً ثميناً. فقدت الثقة بعلاء الدين وبالحب الذي ينقذنا من أنفسنا ومن تفاهات الحياة اليومية».
وانتهت قصة الحب العظيم بخاتمة مأسوية، ما يبرّر ـ ربما ـ أن تدرج في سياق المذبحة العراقية المفتوحة.
[ [ [
الكتاب ممتع بالمعلومات التفصيلية عن عراق الحرب التي لما تنتهِ، وإن كان القارئ سوف يفاجأ بقصة الحب المأسوية التي تعترض طريقه كحاجز مسلح. وواضح أن الكاتبة قد سجلت يومياتها بدقة، ما يقدّم صورة عن الكارثة المفتوحة في بلاد الرافدين.
البحث عن الحب في بحر الظلمات
… ودخلت في عتمتين: الليل وبحر الظلمات كما أطلق العرب على المحيط الأطلسي حين وقفوا بخيولهم عند حافته بعدما فتحوا المغرب.
كان ركاب الطائرة قد خلدوا إلى النوم متعبين، وكنت وحدي الذي طار نعاسه فلجأت إلى كتاب مضاد للقلق فمضيت أحاول القراءة عبثاً. كنت كلما أنهيت صفحة منه انتبهت إلى أنني لم أستوعب ما قرأت فأعيد البحلقة في السطور فأنتبه الى أنني قد قرأتها من قبل، لكنني نسيت ما قبلها وصار صعباً عليّ أن أتركها إلى ما بعدها.
أعادتني أفكاري إلى محطة الانطلاق خلفي بينما سرح خيالي إلى محطة الوصول في ما وراء المحيط، وتوزعت على امتداد المسافة المن ظلمة وماء، أحاول استعادة وجوه الذين غابوا عنا منذ زمن بعيد حتى كدت أنسى ملامحهم جميعاً ما عدا تلك التي أخذها اليأس من حاضرها إلى قلب اليأس من مستقبلها.
هل أنا مسافر إلى الماضي الذي لم أعشه معها أم إلى المستقبل الذي لن تعيشه معي، والحاضر فاصل يختلط فيه اليأس ووجع الخذلان وذل الإحساس ببؤس الصفقة التي انتشلتها من وهدة البؤس لترميها في عتمة البُعد مجردة من ذاتها لتكون غير من كانته وغير من أرادت أو حلمت بأن تكونه.
وجدت القراءة الليلية في بحر الظلمات أوسع بمساحة التخيّل فيها من كتابة الحاضر بلغة الماضي كي يستشف المستقبل.
خيالي أسرع من الطائرة، وأوهامي أكثف عتمة من المحيط، لكن الواقع أقسى من أن أستطيع تفكيكه تمهيداً لإعادة تركيبه بما يرضي الذكريات.
ارتجّت الطائرة فانتبه، وحين عبرت به المضيفة وهي تجول لتطمئن على الركاب منحته ابتسامة وهي تقول: هو الخوف أم الحب، هذان هما مصدرا القلق هنا. نظرها في عينيها فلم يقرأ لغة الشرق المتخمة بالألغاز. قالت وهي تبتعد: الأفضل أن تنام لأن أمامك عمراً من السهر!
… ولكنه يهاجر من السهر في استراحة قصيرة.
غالب الأرق فغلبه. عاد يحاول القراءة فهرب منه المعنى، صارت الكلمات تعيد تشكيل سياقها في جمل مقطّعة يعجز ذهنه المكدود عن فهمها. قال لنفسه: فلأقرأ قدري في هذه العتمة.
تزاحمت الصور فطمست القدرة على التخيّل. قال: لأقرأ الليل إذاً! واجهته أشباح عديدة نبتت من حوله، فجأة، وبعضها تدلى من السقف، أما أخطرها فقد جاءه من بحر الظلمات. اشتبكت الأشباح فاستحالت القراءة وانهمرت فوقه الحروف وقد انفصلت عن كلماتها فضاع المعنى.
فجأة انبثق الماضي مقطّع الأوصال: لم تكن حاضرة فيه، وإن كانت نظراتها الأخيرة قد أوحت أنه كان حاضراً فيها بالتمني. لكنهما موزعان الآن على مستقبلين يستحيل تلاقيهما وبينهما محيط من الأوهام أوسع من هذا المحيط تحته وأكثر إظلاماً.. ممّ يخاف إذاً؟ لا هي كانت موجودة في ماضيه ولا هو موجود في حاضرها والمستقبل أكثر غموضاً وإظلاماً من الليل المكثف بعتمة المحيط الذي يباعد بين القارات وكل منهما على ضفة، وبين الضفتين زمان مفتوح على المجهول، أما المشترك ففتات يصعب جمعه في جملة مفيدة: كيف تعيش حلماً أنت خارجه؟ وبأي حق تقحم نفسه في حلم غيرك، حتى لو انتبه متأخراً إلى الحقيقة الموجعة؟ اترك لغيرك حق الحلم إن أنت عجزت عن مشاركته فيه. الحلم أجمل من الواقع، فلماذا تدمّره؟ ثم إنك ستكون بعيداً بما يضمن ألا يدمّر الحلم بالتجربة. إنك تبتعد عن الماضي من دون أن تقترب من المستقبل والحاضر. عتمة من فوقك وعتمة من تحتك، ولا يصلح الوهم دار سكن.
جاءت المضيفة مرة أخرى، قالت: هل تريد منوماً؟
ضحك، فضحكت. قال: هل أحببت؟ قالت: طبعاً. لكنني خرجت من التجربة بأقل ضرر ممكن.. فماذا عنك؟ قال: أما أنا فأضراري من الحب أعظم من أن تحمله هذه الطائرة!
ابتسمت وهي تقول: سأبلغ القبطان أن لدينا حالة طارئة، ليُنزلك في أقرب مطار.
قال بغير قصد: وماذا إذا كانت عيناكِ مطاري؟
قالت: سأبلغ الطبيب إذاً أن معنا راكباً أصيب بدوار المحيط. لا تخف! هي حقنة واحدة لكنها كفيلة بأن تحملك إلى الجنة.
انتبه إلى تسرّعه فحاول الاعتذار، لكنها بادرته بقولها:
ـ إياك أن تعتذر من امرأة لأنك غازلتها. فأما الغزل فإنه يبهجها، وأما الاعتذار عنه فيظهرك متحرشاً غبياً. دعني سعيدة بالوهم الذي أنعش أنوثتي التي تجمدها هنا موجبات العمل.
صمتت لحظة قبل أن تسأل بشيء من الخجل: سامحني.. هل تسافر معنا إلى حبيب أم هرباً من حب خائب؟
قال من دون أن ينظرها: بل أبحث عن نفسي في بحر الظلمات.
تأملته قليلاً ثم انصرفت وهي تقول: أنت تحتاج نوراً يعرّفك إلى نفسك، وهو داخلك فابحث عنه!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ــ حبيبي لطيف، عطوف، رقيق ومتسامح. إنه يرأف بضعفي فيترك لي مساحة للتنفس. ولأنه يخاف عليّ مني فهو يتولى تصفية الهواء، وتحديد كمية الضوء الذي أحتاجـــه، ويســـمح بشيء من الثرثرة مع غيره.. ولكـــنه يطـــارد أحلامــي إذا ما اشـــتبه بوجـــود غـــيره فيهــا.
ولكنني أرحب منه وأكثر عدلاً.. فأنا أسكنه.