شباب مصر يصنعون الغد: من الزنازين إلى «الميدان»
أرجو ان يسمح لي ببعض الكلام الحميم، وان بدا مضطرباً بسبب السرعة القياسية لانتصار الميدان في مصر، وإسقاط حكم الإخوان أو حكم الطغيان.. وقد ثبت انهما واحد.
[ [ [
منذ أواسط الستينيات صارت القاهرة بيتي ودار اللقاء مع مجاميع الأصدقاء من أهلها أو من الوافدين إليها من أربع رياح الأرض العربية. فأما «المصريون» منهم فنخبة من الكتاب والصحافيين تتقدمهم كوكبة من الشعراء، من أهل الوزن والقافية. أو من الذين فضلوا العامية للتعبير عن ضمير الشعب. وأما «الضيوف» مثلي فخليط يضم لاجئين سياسيين ولاجئين عاطفيين ودارسين وصحافيين وسواهم ومتسكعين ورجال مخابرات بمستويات ذكاء متباينة.
كنت أذهب موفداً من دار الصياد لتغطية الأحداث في عاصمة القرار بالقائد المتوهج فيها جمال عبد الناصر.
كان فندق شبرد للإقامة. وكانت جامعة الدول العربية القريبة مركز النميمة والشائعات القابلة التحول إلى «اخبار». أما «المصادر» فيتوزعها الزملاء الكبار في «الأهرام» و«روز اليوسف» و«المصور» في دار الهلال.
أما الصحافة والثقافة والفن فالمركز في فندق سميراميس بطرازه القديم، وقد برز له في الجانب الآخر من الشارع المنافس الخطر فندق هيلتون الحديث، ومن خلفهما معاً ميدان التحرير بالمليون عابر فيه على مدار الساعة… وعلى الضفة الأخرى من النيل كازينو قصر النيل حيث «المقر التعليمي» للروائي المميز نجيب محفوظ الذي كان يلتقي مرتين في الأسبوع، الثلاثاء والخميس، مع مجاميع من شباب مصر، وبالذات من الطلاب الجامعيين الذين كانوا يأتون ليناقشوا معه مشروعات تخرجهم.
[ [ [
في العام 1969 سلمني الكاتب المرحوم غالي شكري مخطوطة الديوان الأول لأحمد فؤاد نجم «يعيش أهل بلدي» لكي أدسها بين ملابسي وأهربها إلى بيروت لتتم الطباعة بعيداً عن عيون الرقابة في مصر. لم تكن شهرة نجم قد عمّت أرجاء الوطن العربي لكن جماعات من المثقفين كانت قد عرفته ثم عرفت معه الشيخ إمام. ولقد أديت الأمانة فأوصلت المخطوطة إلى من سيطبعها، ثم أشرفت على التصحيح.
في العام 1971 وتحت إلحاحي صحبني بعض الأصدقاء إلى «القصر الصيفي» للشيخ إمام في حوش آدم، في شارع آدم المتفرع من منطقة الغورية، لأجد تلك الكوكبة من الطلاب والطالبات يحتفلون بإطلاق سراحهم بعد اعتقالهم لأسابيع باتهامات مفبركة مثل «تهديد الأمن القومي»… واكتمل النصاب بوصول أحمد فؤاد نجم.
كان «نجم» مغتاظاً، فهو ـ هذه المرة ـ لم يعتقل مع الشباب.. ولكنه عبّر عن غيظه بأن غنى لهم بصوت الشيخ إمام:
«أنا رحت القلعة وشفت ياسين/ حواليه العسكر والزنازين
والشوم والبوم وكلاب الروم/ يا خسارة يا أزهار البساتين
«أنا شفت شباب الجامعة الزين ـ أحمد وبهاء والكردي وزين
«حارمينهم حتى الشوف بالعين/ وفي عز الظهر مغمايين
عيطي يا بهية على القوانين
«وقابلت سهام/ في كلام إنسان
«منقوش ومأثر في الجدران
«عن مصر وعن عمال حلوان
«مظاليم العهد المعتقلين».
يومها حاولت ان أنسج علاقة معرفة مع الذين ذكر نجم أسماءهم في القصيدة. ونجحت مع بعضهم، لا سيما زين الذين ستعرفه بيروت ومناطق لبنانية كثيرة في ما بعد باسم الشاعر زين العابدين فؤاد.
ولقد نجحت في ان أخترق «حصار الغربة»، وان أناقش مع بعض هؤلاء الشباب وأقرانهم المواضيع التي تستقطب اهتمامهم: الحرية، الديموقراطية، المستقبل ودورهم فيه.
في رحلة أخرى، أخبرنا الزملاء أن حملة الاعتقالات قد شملت، إضافة إلى طلاب الجامعة بعض الفتيان من الطلبة في الصفوف الثانوية… ولقد رتب لنا «الدينامو» مهدي الحسيني، شقيق الزميل الكبير الراحل مصطفى الحسيني، أن نسهر مع بعض المفرج عنهم لتحيتهم بلسان أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام:
«رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني
«يا مصر أنتِ اللي باقية وأنتِ قطف الأماني
«لا كورة نفعت ولا اونطه/ ولا المناقشة وجدل بيزنطه
«ولا الصحافة والصحفجية/ شغلوا شبابنا عن القضية»
[ [ [
عشنا في القاهرة هزيمة 5 حزيران، كما عشنا الانتفاضة الشعبية المجيدة التي أصرت على جمال عبد الناصر ان يتحمّل مسؤوليته فيعوض «النكسة». ولقد عاد الى الميدان وظل فيه حتى سقط صريعاً بمرض الانشقاق العربي وقد كان عنوانه الصدام بين الجيش الملكي الأردني و«الفدائيين» الذين كانوا قد اتخذوا من هذه الأرض سورية الهوية بالأصل فلسطينية الموقع بالدور منطلقاً لعملياتهم ضد إسرائيل فإذا «رصاص الأخوة» يطاردهم فيخرجهم من معبرهم الأقرب إلى العدو محتل أرضهم المقدسة.
وعشنا في القاهرة الأيام المجيدة لحرب الاستنزاف التي أكد فيها شعب مصر، بجيشه الطليعة، وتحت قيادة «البطل» الذي هزمته الغفلة والخلط بين حق الصديق وحق الموقع بكفاءة جديرة بتحقيق النصر.
ثم جاء زمن الحزن: غاب القائد وعمّ الشعور باليتم أرجاء الوطن العربي جميعاً.
… وكان الوداع الأسطوري في حشده والذي نستعيد صورته الآن مع هذه الملايين التي تدفقت «لتخلع» حكم الحزب الذي يريد إعادة مصر (والعرب) إلى الجاهلية تحت الشعار الإسلامي.
… وجاء زمن آخر مع أنور السادات: ذهب الجيش إلى النصر فكاد ينجزه لولا الأوامر التي فرضت عليه المراوحة في مكانه حتى تمكن منه العدو وضاعت سيناء، مرة أخرى، ومدن القناة، وأُخضعت مصر لمقتضيات الأمن الإسرائيلي فخرجت من دورها القيادي عربياً والذي ليس في الدول العربية من يعوضه.
[ [ [
بعد «منع دخول» امتد لأربعة عشر عاماً عدت إلى بيتي: القاهرة. وطفت أعيد التعرف إلى مصر التي تبدلت فكادت تنكرني.
استذكرت حكاية ذلك «الباشا» الذي كان يجيء يومياً إلى فندق شبرد، في أواخر الستينيات، فيمارس طقوسه بهدوء: يقصد طاولة محددة في «الشرفة» التي تعلو الصالون الفسيح، يضع منديله على واحدة من الكنبات ليرسي عليها طربوشه، ويخلع سترته، ويشمّر كمّيه، ثم يقصد إلى المغاسل، فإذا عاد جاءه النادل بمطلبه الذي لا يتبدل: الشاي طوال ستة أشهر، و«الجيلاتي» أي المثلجات خلال الشهور الستة الأخرى. لم تنفع تحرشاتنا لاستدراجه إلى الحديث، أي حديث في أي موضوع… إلى أن كان يوم جلسنا نغالب فضولنا ونناقش كيف يمكن التحايل عليه لجره إلى الكلام. وكانت معنا الزميلة امتثال جويدي (زوجة الزميل فؤاد مطر) فقالت: «دعوا الأمر لي».
عندما عادت إلينا امتثال روت لنا ما عرفته من سلوكه الطريف. قال إنه كان «كبيراً» في العهد الملكي، وأن مصر قد تبدلت في مختلف جوانب حياتها، حتى أنه لم يعد يعرفها، كل ما في القاهرة جديد عليه، يكاد ينكره. وأخطر ما يعاني منه انقطاع تواصله مع الشباب: «شباب الأيام دي هايف، ما ينفعش. الكوره والهلس، وبس…». وهو يأتي يومياً، ويتخذ مجلسه في الشرفة، ويمكث ما يكفي ليطمئن أن معلماً ما من معالم مصر التي يعرفها ما زال على حاله. وختم بقوله: الأصح أنني أجيء لأطمئن إلى أن النيل، على الأقل، ما زال يجري من منبعه إلى مصبه، وأنه يعبر القاهرة بصمته العميق، كما في الزمن الماضي.
[ [ [
ألا يشبه هذا الباشا الآتي يومها، من خارج زمنه إلى زمن آخر، حالة الإخوان المسلمين وهم يتصدرون واجهة الحكم في مصر التي لا يعرفونها لأن مصراً أخرى تستقر في ذاكرتهم لا هي تغادرهم ولا هم يرغبون في مغادرتها بعدما قفزوا، في غفلة منها، إلى سدة السلطة وموقع القرار. إنهم في غربة عنها. لا يعرفون شعبها حق المعرفة. لقد أعماهم طلب السلطة، ثم زاد من عماهم أنهم كمنوا لها حتى تمكنوا منها بالتواطؤ مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أسقطه «حليفه» حكم الإخوان… ولقد تصرف الإخوان بعدما تفردوا بالحكم وكأنهم غاصبو سلطة لا يجيدون إلا التحدي في مواجهة من يطالبهم بالحق في الشراكة، وكان أن أسقطتهم الميادين بدعم من القوات المسلحة.
… والنيل يجري هادئاً في قاهرة المعز.
[ [ [
في السنوات الأخيرة لحكم حسني مبارك صرنا نتصرف كذلك «الباشا» الذي كنا نصادفه كل يوم، خلال زياراتنا المتكررة، والذي كان يجيء الى فندق شبرد ليطمئن ـ فقط ـ الى ان النيل، أقله، ما زال يجري فيمخر برّ مصر من أقصاه الى البحر المتوسط ناشراً الهدوء.
كان قد أصابنا اليأس، خصوصاً أن العديد من أصدقائنا من أهل الأدب والصحافة والفن قد رحلوا، فلم يعد مقرنا بيت بهاجيجو في المنيل، ولا عدنا نشارك في سهرة «الحرافيش» مع نجيب محفوظ وفي بيت سعد كامل، ولا عدنا نتحايل على رسام الكاريكاتور المبدع أحمد حجازي لكي يفتح لنا باب بيته.
كانت الغالبية من الصحافيين الشباب ناقصة علم وثقافة، إذ إنهم لم يتلقوا تعليماً جيداً. ثم ان مؤسسات الدولة، وبينها الصحافة كانت تحشو إداراتها بمجاميع من هؤلاء الشباب لضمان سكوتهم ليس إلا. وهكذا تضخم مبنى التلفزيون الرسمي حتى صار يحتوي أربعين ألف موظف أكثريتهم الساحقة بلا عمل فعلي، وكذلك كان الأمر في الصحف الحكومية، ثم جاء السماح بإصدار الصحف الخاصة ليفاقم أزمة التوظيف من دون التدقيق في الكفاءة والرغبة.
وكان يمكن ان تلتقي في أي مكان تذهب إليه عشرات الشباب الذين يبتدعون لأنفسهم وظائف وهمية ولكنها توفر لهم فرصة العيش.
بالمقابل، كان آلاف الآلاف من أصحاب الكفاءات يهاجرون فلا يعودون إلا لزيارة الأهل ثم ينغمسون تدريجياً في مجتمعاتهم الجديدة وينسون مصرهم.
ثم تفجرت مصر بالثورة… وكان لا بد من ان يحدث مثل هذا الانفجار. فملايين الشباب الذين ملأوا الميادين في السنتين الماضيتين كانوا مقهورين، يحسون بأنهم مهانون في كرامتهم وفي كفاءتهم ومجوعون قصداً… فمن ذهب الى الخليج خرج من مصريته حتى لا يحاسب بها. وكان طبيعياً أن يتولى الميدان النطق باسم شعبها.
على ان الفرحة بإنجاز الميدان لم تطل، إذ سرعان ما احتلت الخديعة قرار الميدان، وتواطأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع «الإخوان المسلمين» فمهّد لتسلمهم السلطة، خصوصاً وقد تفرق المعارضون شيعا وأحزابا وتنظيمات وليدة، فإذا الانتخابات تجيء بإخواني إلى رئاسة الدولة… تمهيداً لأن يصادر الدولة.
وكانت العودة إلى الميدان ضرورية… فعاد الجيل الجديد الذي يختزن الثورة ليصنع الغد العربي الجديد، انطلاقاً من مصر مرة أخرى.
حكاية/الحب ينسيك أن تنساه
لا يشيخ الحب ولا يسقــط من الذاكـــرة تماماً، بل يتوارى في زاوية منها كطيف… قد يذبله الافـــتراق، إذا ما طال أمده، وقد يطفئ جمره تباعد اللقاءات واخــتلال التواصل، لكنه يمكث في مكان من قلبك، لا يغادره، يطـــل بين حين وآخر كصورة عتيقة لأيام من البهجة في زمن مضـــى لا ترغب في أن يذهب إلى النسيان… وفي لحظة ما يأتيك صـــوته فتنـــبثق في صدرك نجمة. وإذا أنت تهـــتف بعتـــاب اللهفة: أينك أيها القاســـي؟ كيـــف حالك؟ لماذا اختـــفيت وأين؟ هـــل أنت بخير؟ هل أنــت في إجـــازة مـــني أم أنـــك قـــد بـــدّلت الوجــهة؟!
ـ «من يدخل القلب لا يخرج منه، ولو بعد ألف سنة…»، قالت لي السيدة التي توشك أن تغادر الكهولة إلى الشيخوخة… ثم تنهدت قبل أن تضيف بقدر من المتعة: «لو كان عندك وقت لرويت لك قصص حب عشتها ثم انطفأت قبل اكتمالها… أحياناً أجدني أستعيدها بشيء من المتعة. صحيح أنها لم تكتمل كما كنت أرغب، لكنها باقية، ولطالما تمنيت لو عاد بي الزمان إلى الخلف لأبدّل الخاتمة وفق رغبتي وليس بالاضطرار».
ولقد حاولت أن تعتذر بمأساة عاشتها فغيبتها في غمارها. كان صوتها ينضح حزناً، وفي كلماتها رنة صدق، فارتبك وغمغم بكلمات غير مفهومة، ثم ساد الصمت. بعد لحظات همست: أنسيتني؟! ثم ترقرقت في عينيها دمعتان. وقام يحتضنها ليسمعها الجواب، مرجئاً العتاب، لأن اللحظة لا تحتمل أكثر من آهتين.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حضور حبيبي في غيابه باهر. إنه يستدعي الشعر… لكنني أفضل الصمت معه على إنجاز ديوان أقرأه لوحدي. الغياب يجعل الشعر أرق من أن يحتمله قائله. الشعر يحتاج جمهوراً يختصره حبيبي بحضوره، أما في غيابه فالجمهور تظاهرة في صحن فضائي!