طلال سلمان

هوامش

عزت صافي روائياً: لن نرحل خلف نعش «السينيور»!
هي مفاجأة ممتعة ان تكتشف، بعد دهر، أن صديقك «الذي علمك السحر»، والسحر هنا الصحافة، والذي عرفته داعية حزبياً وكاتباً سياسياً ومتابعاً دقيقاً للأحداث والتحولات التي تفرضها على المجتمع وفيه… أن هذا الزميل ـ الصديق هو بالإضافة إلى ذلك كله روائي ممتاز.
لقد عرفت عزت صافي منذ دهر، وكنت بعد على مقاعد الدراسة، وفي المدرسة الرسمية في المختارة. وأثار إعجابي ككاتب سياسي لم ينسَ الصحافي فيه حتى وهو يشرف على مطبوعة سياسية، بل حزبية تدعو إلى التغيير وتحرّض عليه، كان أصدرها الزعيم الكبير الراحل كمال جنبلاط (الأنباء) لتكون لسان حال الحزب التقدمي الاشتراكي.
ولأن عزت صافي كاتب وصاحب تجربة عريضة، فقد رفض أن يتقاعد، وظل يمسك بقلمه بوصفه صلته بالحياة وناسها، وظل يكتب في السياسة وقد غدا بعيداً عنها مما يمكنه أن يرى الصورة الكاملة أوضح وأوسع.
المفاجأة أن عزت صافي كتب رواية، ورواية ممتعة، مؤكداً تمتعه بقدرات كانت قد التهمتها الصحافة، والعمل السياسي، أو متابعة التحولات والتطورات السياسية مبتلعة الآمال، مولدة الخيبات والمرارات كالتي عبّر عنها عزت في إهدائه الرقيق: «كأننا في ليل لا فجر بعده، أو كأننا لا نريد لليلنا أن ينتهي خوفاً من أن يطلع الفجر».
أما الرواية فتحمل عنوان «السينيور».. وقد أوضح عزت صافي في الهامش الأول ان «الأسماء فيها مركبة لأشخاص وعائلات ومدن وفنادق وقرى، وأمكنة عامة وكلها أسماء افتراضية..».. ثم أضاف تقديمات تنبيهاً للقارئ، كما لكل الناس، أطلقه ذات يوم الجنرال شارل ديغول ونصه «على المرء أن يقوم بتمرين يومي على احترام الذات».
تبدأ أحداث الرواية في بيروت، وفي جهة محددة تمتد ما بين الجامعة الأميركية وعين المريسة حتى الزيتونة، ولكنها تسافر مع بطلها إلى أميركا اللاتينية، ثم تعود إلى مسقط رأسه في الجبل لتنتهي مع اليأس من الوطن وأهله.
«نزيل الغرفة 17» هو البطل، والرقم يلازمه ملازمة ظله. وحكايته تبدأ مع «مدام أولغا» صاحبة الفندق التي ترى نفسها «قوس قزح»، لا يستطيع أحد الوصول إليها، وابنتها «ليديا»، وساعي البريد «ديبو»، ورسالة جاء بها إلى «السينيور جاناد ألافاندي»، المقيم في الفندق منذ ثمانية أشهر. وسنعرف لاحقاً انها من عمه الذي غادر قبل دهر إلى الأرجنتين.. ثم تظاهرة في قلب بيروت قمعتها الشرطة واعتقلت بعض المشاركين فيها، ومنهم هذا النزيل المثقف الذي اشتبهت اولغا بأنه شيوعي فخافت منه، فصعدت إلى غرفته تفتشها بدقة لتجد فيها كل ما يؤكد الاشتباه، وإن لم يؤكد الخطورة.
تتداخل الحكايات في الرواية الممتعة، منتقلة بقارئها من خيبة أمل إلى أخرى عبر نهر من قصص الحب والعشق التي لا يتبدل بطلها وان تعددت حبيباته ومواقع التلاقي واللحظات الحميمة المبتورة دائماً بمفاجأة من خارج السياق.
الأبطال تشكيلة كوزموبوليتية طريفة. صاحبة الفندق يونانية الأصل قتل زوجها فحقدت على الشيوعيين واليساريين عموما، وهي جاءت إلى بيروت مضطرة، تعيش حالة خوف من المطاردة… لذلك يصيبها شيء من الرعب حين تكتشف أن نزيلها شاغل الغرفة 17 شارك في تظاهرة في ساحة البرج واعتقلته الشرطة. خافت أن تتكرر مأساتها فترحل مجدداً إلى المجهول… وقد زاد الأمر صعوبة أن ابنتها الصبية كانت «متعاطفة» مع النزيل الغامض، بل انها تحبه من طرف واحد… ثم هناك ساعي البريد «ديبو» الذي يعرف أكثر مما يجب.
في جانب آخر هناك تلك العائلة المغربية ـ الفلسطينية المختلطة، التي نشأت عبر رحلة بحرية أرادها كبيرها لأداء فريضة الحج برفقة نجله الذي علق في غرام ابنة مضيفهم الفلسطيني في حيفا والذي أخذهم فطاف بهم في القدس الشريف، وانتهى الأمر بأن فضل الفتى الزواج منها على إكمال الرحلة إلى البيت الحرام.
ثم تجيء الرسالة الغامضة من العم المنسي في الأرجنتين، فتقلب حياة جاناد رأساً على عقب وتأخذه إلى الأرجنتين. وفي الباخرة يهجم عليه الحب بشخص امرأة رائعة الجمال، مرهفة الحس الفني مثله، فيتفقان على الزواج فور الوصول إلى مقصدهما. لكنها تتركه في الميناء حين تكتشف أن لعمه ابنة أعدّت نفسها، أو أعدّها أبوها لتكون زوجة ابن عمها الآتي خصيصاً من أجلها كما أوهمها أبوه الذي سنكتشف أنه ليس أباها.
وفي المقهى الذي اتخذه جاناد مقراً وعنوانا للحبيبة التي غادرته من دون وداع ينتظر وينتظر تلك التي تأتي ولا تأتي: تمر فتطمئن عليه ثم تغادر قبل أن يتمكن من معرفتها، فإذا جاءت اللحظة التي اختارتها تقدمت منه، وأكملت معه الرحلة إلى سهرة زفاف بغير زفاف، ولكنها كانت كافية لتعيد اليه السلسلة الفضية المقدسية الأصل التي كان قدمها لها كخاتم خطوبة.
لقد رحل بحثاً عن الأمل والحب… وعندما فشل الحب انطفأ الأمل، فعاد خائباً إلى قريته في الجبل فإذا هي أثر بعد عين.
المقدمات المبهجة لا توحي بالنهايات المحزنة. ووقائع الحب الملتهب التي تعددت ساحاتها، براً وبحراً وبين بين لا تفسح في المجال لتوقع هذا الكم من الخيبة والمرارة الذي تحفل به الصفحات الأخيرة من الرواية.
لكنها السياسة: من الجبل إلى بيروت التي كانت تتظاهر ضد المستعمر، فإلى المغرب والزواج في فلسطين كبديل من الحج، ورحلة الهجرة الممتعة الى أميركا اللاتينية، والعشق في كل الأمكنة والأزمنة، لا يأخذ إلى كل هذه الحسرة التي تخيم على الختام.
لقد اختلفت الدنيا على جاناد. فإذا أمه لم تكن زوجة، لم تكن امرأة، بل عاشت من أجله، حتى إذا قرر السفر غادرت بدورها إلى بلادها وأهلها… وإذا «ربوا» قريته في أعالي الجبل قد باتت خربة: «لم يكن على الباب ما يشير إلى ماذا كان لونه. إلا ان بعض العلامات الباقية تدل على انه كان باللون الأزرق، كان المفتاح مغروزاً، حتى العمق، في ثقب الباب الذي كان يستر غرفة خولة…».
تجيء بداية الرحلة مفعمة بحزن الغياب عن الوطن:
«خلف باب الصالون المفتوح على «مقعد الليمون» كانت هناك ثلاث حقائب. كان جاناد جالساً على كنبة قبالة الساعة الكبيرة. وكانت والدته تجلس إلى جانبه وذراعها حول عنقه. قال لها:
ـ يجب أن نتحرك، ماما، فموعدنا الساعة الثانية على الميناء.
ـ هل تتصور كم سأكون وحيدة؟
ـ لو لم تكن «أم سامح» هنا لعدلت عن السفر. ولو أن والدي رحل قبل وصول رسالة العم خوليو لما فكرت في السفر.
وأردف: لكنني عائد. لن أتحول إلى مهاجر.
… على محطة الميناء كانت أولغا وليديا بالانتظار، وكان أيضا وكيل السفريات «سيمون» اليوناني:
ـ سينيور آلافاندي، هذه تذكرتك إلى «بوانس آيرس». موعد إقلاع باخرتك الساعة الرابعة بعد الظهر. قال سيمون ثم تحول نحو هيلا:
ـ مدام آلافاندي، هذه تذكرتك إلى الاسكندرية. موعد إقلاع باخرتك غدا الخامسة بعد الظهر.
ـ سينيور آلافاندي، سوف نفتقدك كل يوم في الغرفة (17).
أما خاتمة الرحلة فتأتي مثقلة بحزن افتقاد الوطن:
حضر السينيور فسأله مفتش الجمارك: هل أنت جاناد آلافاندي؟
فلما أجاب بـ«نعم»، عاد يسأله: وماذا في داخل هذا الصندوق؟! قال: تراب!
سأل المفتش: تراب؟ رد: نعم، تراب من أرض قريتي «ربوا»..
كان صندوق التراب آخر الحمولة المشحونة على الباخرة. وكان السينيور آخر من بقي على رصيف الميناء، وقد وقف يراقب صندوقه وهو يرتفع معلقاً في الهواء.
وظل يتابعه حتى استقر في جوف الباخرة،
… فلحق بنعشه!».
ويا أيها الرفيق عزت صافي: لن نلحق بنعوشنا. بل سنبقى بأرضنا ولها.
يعقوب شدراوي يقاتل اليأس بطانيوس شاهين!
ما زال يعقوب شدراوي يقاوم.
إنه يقاوم المرض ويقاوم ذبول الحركة المسرحية وانفضاض الأصحاب والخلان، وإخلاء العمل السياسي مكانه للطوائف والمذاهب وتجارها.
ربما لهذا أراد يعقوب شدراوي أن يعيد الاعتبار إلى «زعيم من قلب الشعب» هو طانيوس شاهين، وإلى المسرح الذي أعطاه عمره فكتب مسرحية من فصلين أعطاها عنوانا «الفلاح العظيم».
المسرحية غنية بالشخصيات أفراداً ومجاميع، ويختلط فيها الصراع المحلي بالمؤامرات والمناورات الأجنبية، أما مكانها فهو جبل لبنان، الذي حار في أمر معالجته العثمانيون فقسموه ـ تحت ضغوط الفرنسيين والانكليز ـ إلى قائمقاميتين، إحداهما مسيحية والأخرى درزية، مطمئنين إلى ان الصراعات الداخلية، لا سيما بين المشايخ والفلاحين، ستحفظ لهم الدور ولو بالشراكة مع «الغرب» الذي كانت دوله تستعد لوراثة «السلطنة» برغم انها لم تكن قد اتفقت بعد على توزع الشرق، ومن ضمنه لبنان، كغنيمة حرب.
ولأن المسرحية مكتوبة بالعامية فمن الصعب اقتباس نصوصها، خصوصاً أن الحركات والاشارات وتبديل الديكور تزيد الصعوبة في التلخيص.
المهم ان الشدراوي حاول ان يوصّف المناخ الذي كان سائداً، والذي كان الأجنبي يسعى عبره لزيادة الشقاق والخلافات بين الإخوة تمهيداً لتقسيم المقسم، في انتظار أن تحين لحظة التفاهم على نصيب كل واحدة من «الدول» المعنية.
الشخصيات عديدة، فيها بطريرك ومطارنة وخوارنة وفلاحون رجالاً ونساء، ومقاطعجية، وفي الأسماء نفحة من ذلك الزمان، بينها رسانيوس و«الزمك» ومخايل والشيخ والتاجر وألماظ هانم والسلطانة وحرملك قصر السلطان وبكري وود الريس وحقي باشا وبطرس وسجعان وسليمة وبربارة وحميدة.
… كذلك فإن أسماء البلدات والقرى في المتن وكسروان، فاريا والقليعات وعجلتون، وفيترون وعشقوت وعرمون وغوسطا وبطحا تتوالى، وان ظلت بيروت (مركز الوالي) وظل الأمر في توحيد أهل الجبل خلف طانيوس شاهين.
أما الحداء فعنوانه: «فرنسا ام الدنيي عموم/ اعتزو يا لبنانيي بطركنا هوي السلطان وما بدنا عسملية ـ طانيوس انت الزعيم والبقية حرامية».
يمكن إسقاط الكثير من الأسماء والمسميات والوقائع على حاضرنا التعيس الذي يعجز أخطر كتاب «اللا معقول» عن توصيفه أو عن تصنيفه، وان أثبت «اللبناني» انه أقدر منهم جميعاً، بدليل انه يعيش فيه أو يتعايش معه.
كذلك يمكن الاستشهاد بيعقوب الشدراوي ذاته الذي حاول ان يكون «طانيوس شاهين المسرح» فخذله «الجمهور» الذي بات يفضل الأغاني الراقصة والبرامج السياسية الكوميدية التي تأخذ إلى البكاء، وهجر المسرح لأنه يعيش في مهرجان مفتوح لكل أنواع التهريج باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
مع ذلك، لن نيأس أيها المبدع الذي تكاد تذهب بك الحسرة على الثقافة وفنونها، وأبرزها المسرح… وسنظل نكتب ونكتب حتى نقهر العتمة بأنواعها كافة.

تهويمات / عشق الحياة
قالت: أراك في حقيقتك الجارحة، اليوم. أنت حزين. تصير شفافاً مع الحزن، سخياً في عواطفك أكثر منك في لحظات البهجة. أقرأ دموعك التي تمنعها من أن تغطي صفحة وجهك. أقرأ ارتعاش كلماتك.
قال: الغياب يصدم كالحقيقة. عابرون نحن.
قالت: أما أنا فقد اخترت طريقي، أعبر مــنك إليك. هي الحياة. لا تقف خارجها. هي لن تتــوقف، وأنت لن تمنع مسيرتها. خذها إذاً.
ظلّ صامتاً.. فعادت تقول: سآخذك إليها. هيا أيها الجبان، عوّض غياب الذين غادروا. لقد صرتهم، فأثبت أنك جدير بهم. عشهم. طالما أعطوك، فعوضهم حباً. انهم يسكنونك الآن. أراك قلبا عظيماً… أليس فيه مساحة بسيطة لي؟
قامت فاحتضنته، واستمع إلى ذلك اللحن الحزين الذي يشكله امتزاج النبضين بآهات عشق الحياة.

من أقوال نسمة
قال لــي «نســمة» الــذي لم تعــرف له مهنــة إلا الحب:
ـ الأرض صغيرة. أراك معي وأنت في أقصاها، والقلب فسيح الأرجاء، يتجاوز الحدود واللغات والعسس، ويرف متسعاً للناس جميعاً وقد اتخذوا صورتك.
الحب هو السحر والساحر. اللهم أدم عليّ نعمة المسحور.

Exit mobile version