طلال سلمان

هوامش

I ـ آلان غريش يسأل: علامَ يطلق اسم فلسطين؟
لو أن مؤلف هذا الكتاب “علامَ نُطلق اسم فلسطين” هو غير الكاتب الفرنسي المعروف آلان غريش، لكانت الريبة والشكوك قد فرضت نفسها على القارئ عبر التساؤل: وهل ثمة فلسطين غير التي عرفنا أرضها وعرفنا شعبها وعرفنا تاريخها على امتداد ألفين من السنين وأكثر؟! وغير فلسطين التي عرفناها منذ قرن أو أقل قليلاً، قضية مقدسة تستحق النضال وبذل التضحيات شهداء ودماء وصراعاً مع “الدول” التي رعت الحركة الصهيونية، ثم رعت “إسرائيل” التي أقيمت على أرض الشعب الفلسطيني، فزوّرت الاسم وهوية أهلها لإقامة بديل استعماري استيطاني، أعطته اسماً من أساطير الماضي لتزوّر به الحاضر والمستقبل؟
لكنه آلان غريش الذي عرفنا فيه نموذج المثقف ـ المناضل من أجل حقوق الشعوب، والدارس عميق الثقافة والواعي حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه والمساهم في مختلف الأنشطة التي تؤكد أن هذا الشعب يستحق الحياة… وقبل أسابيع قليلة كان في بيروت يساهم معنا في إحياء الذكرى الثلاثين لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بأيدي ميليشيا لبنانية يمينية، أعماها التعصب والشبق إلى السلطة، فدخلت المخيمين المفرغين من الرجال، ليلاً، بحراسة جيش الاحتلال وتحت أضواء كشافاته، لتنفيذ المذبحة الرهيبة التي أودت بحياة أكثر من ألف وخمسمئة امرأة وطفل وقلة من الشيوخ والعجزة.
يقدم آلان غريش لكتابه على أنه “مقالة حرة” فالملاحظات والحواشي تم تقليصها عمداً.. وقد “نهلت من عدد لا حصر له من المقالات والكتب وسائر القراءات التي كونتني والهمتني وحفزت تمردي”.
يبدأ آلان غريش بالتساؤل عن سر غياب فلسطين، نسبياً، عن الانتفاضات أو الاضطرابات العربية، وهل أن تلك الثورات غير مهتمة بالنزاع مع إسرائيل وبرامجها تتركز على السياسة الداخلية وليست مناهضة لأميركا والغرب؟!
هل من الضروري التعريف بآلان غريش من خارج سيرته كمناضل أممي؟ إنه الرئيس المشارك في مجلس إدارة صحيفة “لوموند دبلوماتيك” ورئيس تحريرها في سنوات مضت، ورئيس رابطة الصحافيين الفرنسيين المختصين في شؤون المغرب العربي والشرق الأوسط…
يصف آلان غريش نفسه وهو الذي وُلد في “عام النكبة”، 1948، ونشأ وشبّ في بيت يساري في القاهرة الناصرية التي كانت مفعمة بآمال التحرير من الاستعمار، بأنه يعيش على الجسر المعلق فوق الهوة الفاصلة بين الشرق والغرب. ويستذكر أنه في طفولته كان يقف كما جميع التلاميذ على اختلاف دياناتهم، لينشدوا في المدرسة الفرنسية المؤممة “الله أكبر فوق كيد المعتدي”… وقد رأى أعمال المعتدي (العدوان الثلاثي 1956) بعينيه وبقيت في ذاكرته ثم في كتاباته… وفي بدايات الستينيات انتقل مع أمه فرنسية الأصل ليعيش في فرنسا، وإن ظل الشرق الأوسط يسكن قلبه.
يقوم آلان غريش برحلة عبر التاريخ حول الوجود اليهودي في فلسطين، متوقفاً أمام العديد من الأساطير حول أورشليم وملكها سليمان وابنه داود، وحول هدم الرومان لها قبل أن يعيد بعض قياصرتهم بناءها، ثم يكمل المرحلة مع الفتح العربي وصولاً إلى الحروب الصليبية، مختاراً محطات ذات دلالة تشير إلى العلاقة التي ظلت حميمة بين العرب المسلمين واليهود… حتى إذا ما وصل إلى القرن الماضي أورد سلسلة من المواقف المتناقضة لعدد من كبار السياسيين البريطانيين على وجه الخصوص، وكذلك بعض قادة الحركة الصهيونية وأبرزهم هيرتسيل من مشروع “دولة اليهود”، وكيف تم تحريف التاريخ، أحيانا، وأسطرته أحياناً أخرى، لتبرير «استبدال» شعبها الذي كان دائماً شعبها، بوافدين من الخارج ليأخذوه ـ كما الغزاة ـ بقوة السلاح، وتفريط بعض القيادات المحلية والعربية.
نكتفي هنا باقتباس بعض الوقائع أو الروايات كما أوردها آلان غريش في كتابه القيم:
÷ كتب مكسيم رودنسون في نص له في مجلة “الأزمنة الحديثة” التي كان يرأس تحريرها جان بول سارتر، وفي عدد خاص خصصته المجلة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتحت عنوان: إسرائيل ـ واقع استعماري:
“يغرس التفوق الأوروبي حتى في أغوار الوعي الخاص بأكثر الفئات حرماناً فكرة أن أي إقليم خارج أوروبا يعد قابلاً ليحتله أي عنصر أوروبي.. ووفقاً لوجهة النظر تلك لم تكن حالة الطوباوية الصهيونية استثناء. ففي خارج حدود الحضارة من الممكن أن ندرج بحرية وسط السكان المتخلفين، لا ضدهم، مجموعة من المستعمرات “الأوروبية” التي ليست إلا أقطاباً للتنمية كي نستخدم بذلك مصطلحاً حديثاً في غير زمانه”.
أما عن الوقائع الغريبة المتصلة بالحركة الصهيونية ذاتها فيورد آلان غريش: “ثمة رواية أدبية غير مشهورة، ألفها مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتسل ونشرت في العام 1902 تحت عنوان “الأرض الجديدة القديمة” يصف فيها الدولة اليهودية في فلسطين وكأنها المدينة الفاضلة المحققة: في البداية لم يؤمن بعض المشككين بإمكان نجاح استعمار تقوم به الطبقة العمالية. أما هو، الدكتور والت وجميع أولئك الذين يتابعون المشهد من مكان أعلى فقد أدركوا حماقة ذلك الموقف الشكاك. ألا يزخر التاريخ بقصص بلدان بنتها سواعد الجياع”؟!
كان هيرتسل قد كتب في مؤلفه الأهم “دولة اليهود” أن من شأن تلك الدولة أن تكون “طليعة الحضارة في مواجهة الهمجية”.
وبعد أن يسرد غريش مواقف متناقضة للورد بلفور، صاحب الوعد إياه، قبل “الوعد” وبعده يشير إلى أن بريطانيا تعهدت بدءاً من العام 1922 بتسهيل الهجرة اليهودية ملتزمة بذلك التزاماً ثابتاً، فارتفع عدد اليهود في فلسطين من 60 ألفاً في العام 1920 إلى 450 ألفاً سنة 1940.. ولقد كتب مذكرة ديبلوماسية مؤرخة في 11/8/1919:
“تتعهد القوى الكبرى الأربع الالتزام تجاه الحركة الصهيونية، فالصهيونية سواء أكانت على حق أم على باطل، أكانت صالحة أم طالحة، متجذرة في تقليد طويل وفي الحاجات الراهنة وفي الآمال المستقبلية، الأمر الذي يجعلها تحظى بأهمية تفوق أهمية الـ900 ألف عربي يعيشون الآن على تلك الأرض العتيقة..”.
لا يتسع المجال لمناقشة “مطالعة” آلان غريش التي تقرأ التاريخ بالسياسة أكثر مما تقرأ السياسة بالتاريخ… من هنا سنكتفي بإيراد بعض الأسئلة التي طرحها عبر كتابه، والتي حكمت، على الأرجح، سلوكه تجاه هذه القضية كاتباً وباحثاً ومناقشاً ومحاوراً الأطراف جميعاً، ومنها:
“بماذا تخبرنا فلسطين عن عالم اليوم وعن عالم الغد؟!
بماذا تحدثنا عن حصيلة النظام الاستعماري، وعن استمرار المظالم، وعن العلاقات بين الشمال والجنوب وعن النظام الدولي؟! هل ستكون فلسطين ميداناً لصدام الحضارات أم تراها، على العكس، ستصبح موئلاً لتخطي تلك الرؤية، ولاجتراح حلول تتبنى مبدأ المواطنة، ولا تقوم على القوميات العدائية، وإنما تنشأ على الحق والعدالة؟ هل ستساعد في ميلاد نظام عالمي جديد لا ينحصر في كونه عربياً… ولماذا يكون بقاء بعض الشعوب في قاعة انتظار التاريخ حتمياً”.
يستحق الكتاب نقاشاً مطولاً يمكن أن يترك للدارسين والمؤرخين لكنه يفتح الباب لرؤية مختلفة للصراع تأخذ طرفيه بعين الاعتبار، بمعزل عن الحق التاريخي والأسطورة التي اتخذت أرضاً لدولة جاءت من خارج الجغرافيا والتاريخ!

II ـ الشيخ صادق يرتكب جرم الحب شعراً.. حتى ينقطع النفس
خافت الصوت، حييّ الحضور، وإن شعت عيناه بالذكاء وأكدت مداخلاته “الاضطرارية” علاقة متينة بالثقافة تتجاوز اهتمامات رجل الدين المألوفة إلى الدراسة والبحث والاستنتاج بشهادة “رحلته” العلمية إلى الفاتيكان لقراءة مواقفها وتحولاتها إزاء القضية الفلسطينية عبر تراجعها عن “المبدئيات” والحرم الكنسي إلى الاعتراف بدولة إسرائيل وقيام أكثر من بابا بزيارة الأرض المحتلة.
فاجأني عندما قرأته باحثاً مدققاً، ثم فاجأني أكثر عندما سمعته خطيباً بتلك اللغة التي تجاور الشعر.. ثم كانت المفاجأة الثالثة حين أطلعني على ما يمكن اعتباره ديوانه الحميم الذي أعطاه عنواناً “قالت له.. قال لها ـ جدل الحب والحياة”، معتذراً بأنه ربما أخذه الإعجاب بهوامشي و”أقوال نسمة” إلى استخدام صيغة مماثلة، وإن تكن أغنى صوراً، وأكثف إحساساً، لا سيما أن شميما من التراث الديني يصاحبها ويعطيها نكهة مميزة كما في الشعر الصوفي.
ليس صادق النابلسي الذي يكاد ينجز رسالة الدكتوراه أول شاعر معمم.. بل إن بعض أرقّ شعر الحب قد كتبه رجال دين، بينهم من شغل موقعاً مرجعياً.
وبرغم أن هذا الشيخ الشاب، خافت الصوت، والذي تشع عيناه ذكاء، شديد الحرص على إنكار تهمة “ارتكابه” فعل الشعر، إلا أن الكتاب الذي أصدره حديثاً ويضم حوار “ثنائي العشق” لا يمكن اعتباره إلا “ديوان شعر”… فهو أقرب إلى الشعر من دواوين النقاط المنثورة عبر جمل مقطعة على صفحات بيضاء، والتي يعتبر مبدعوها أنهم أعظم حداثة من المتنبي وأغزر قريحة من الأخطلين كبيرهما والصغير.
هي المرأة، إذن.. أما لماذا المرأة “فلأنها العابثة بأسرار الرجل تحيط سيره الأزلي باللهب”.. ولأنها “تشبه أرض ميعاد. مسودة كتاب ممنوع، سفراً مقدساً، رسوماً وثنية وملائكية. كلما فتح الرجل باباً من أبواب دهشتها انفتح له منها ألف باب آخر. الحب يأتي وهي لا تأتي، رغم أن كل رجل يضع أمام عينيه نصب امرأة”.
الحوار المعلق، والذي ستكون له تتمة بل تتمات بالتأكيد، لأنه مفتوح بمدى الحياة، ينزل من المطلق إلى المحسوس وبالعكس:
“قالت له: ها أنا أردت الطريق دائماً إليك لأبدأ من شيء وأتفجر في شيء، وأفنى في شيء واسع مثلك كالخيال. أردتك بجدية قدري لأدرك معك هول الحضور والغياب..”.
وقالت له: ما الفرق بين الحب والعشق؟! قال لها: أحدهما من مجرى القلب والآخر من مجرى الروح..
يتصل الحوار الذي يتخلله بعض التسامي الروحاني، لكن الحب يظل يفرض لغته بالمحسوس.
قال لها: كيف أبقى نقياً؟! قالت له: واصل الحب حتى ينقطع النفس.
تستدرك قائلة له: الأفق سراب.. ولكن لا شيء أمامي سواك، فيقول لها: إذاً اجعليني حقيقتك ويقينك الأبدي.
أما حين تقول له إنها تورطت في حب افتراضي فإنه يرد مكابراً: لقد تورطت في موت حقيقي ـ فتسأله: ما أول الحب، فيرد: أن لا يقتلني الانتظار.. قالت له: وما آخره؟، قال لها: أن لا يغمرني الفرح.
يندفع العاشق مع مشاعره فيقول لها: قد فتحت باب السوسن على مصراعيه. استأذنتك الدخول حافي الخيال لأني لا أملك ثمن دهشة واحدة، فقد تركني الزمن على رصيف الفراغ بلا سماء تشاركني نسج الفرح والألوان.
ويقول لها: تستطيعين أن ترحلي أنى شئت، أن تسقطيني من اعتبارك النرجسي. أن أبقى عندك على صفحة الافتراض. أن أكون مجرداً من حروفك الصامتة. لا ألزمك بشيء. لا ألزمك أن تخترقي حصاري لتنقذيني من نار الحب. ها أنا احترقت ولا أمل لي بالشفاء.
فتقول له: فليلتهمني هذا المشهد الجميل، ولا أريد منك إلا جحيم هذه الحقيقة!
وبعد أن يأخذها العتو بعيداً تعود إليه قائلة: لا تمشِ إلى حيث أنت وتتركني حيث أنا. ابق يوماً أو بعض يوم في سراب أحلامي. يكفيني أن أمتلئ من صمتك قبل أن يحركني الوجد إلى مخابئ اليأس من جديد.
ثم تندفع أبعد فتقول له: بيني وبينك ألف لون من الحب. أراك في الحب الليلي والحب النهاري، الحب الربيعي والحب الجبلي، الحب المائي والحب الترابي والحب الناري. آه، كم أحتاج من الزمن لأشرح للعالم كل ألوان الحب وهيئاته التي علمتني.
قال لها: وجدتك عند المنعطف الأول للشعر. أحاول أن أستغل كل بسمة من ابتساماتك لأبني دولتي التي تعلمت فيها كل أسرار الحب. لا أريد أن أعود إلى قواعدي سالماً من دون أن أحمل معي سلة من فرح أو شمساً تهجم عليّ كالشعر المجنون الذي يريد أن يمكث طويلاً في أعماقي لأهدأ.
في لحظة غضب أو خيبة أو إخلاف موعد يكتسي الحوار نبرة مختلفة:
قالت له: الرجل الذي لا يستطيع أن يحب امرأة أشبه بتمثال حجري.
قال لها: المرأة التي تعجز عن أن تكون ملهمة للرجل أشبه بحرف لا محل له من الإعراب.
أما بعد المصالحة فيقول لها: الحب فواح بالألوان.. وأجمل الحب هو الأحمر.
وتقول له: بيني وبينك ألف لون من الحب. أراك في الحب الليلي والحب النهاري، الحب الربيعي والحب الترابي والحب الناري. آه، كم أحتاج من الزمن لأشرح للعالم كل ألوان الحب وهيئاته..
وما دامت قد هبطت من سماء الثلج لتحمل له حباً بنفسجياً، فمن حقها عليه أن يقول لها: أراك ملء الأرض ورداً، وترد: أراك ملء القلب حباً.
لقد وجدها الشيخ صادق عند المنعطف الأول للشعر، وحاول أن يستغل “كل بسمة من ابتساماتها لأبني دولتي التي تعلمت فيها كل أسرار الحب. لا أريد أن أعود إلى قواعدي سالماً من دون أن أحمل معي سلة من فرح وشمساً تهجم عليّ كالشعر المجنون الذي يريد أن يمكث طويلاً في أعماقي لأهدأ”.
هنيئاً للشيخ صادق حبه الذي لا يستطيع أن يبترد منه إلا إذا اشتعل به.
وليس بعد الحب إلا الحب.. يا مولانا.

III ـ من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يعترف الحب بالمسافات. ألم يعشق المحبون القمر وهم يرون فيه صورة الحبيب أو يوظفونه لنقل رسائلهم ثم قراءة الأجوبة على صفحة بدره؟!
حبيبي يدعي أنه لا يعرف القراءة والكتابة… وهو لا يعترف إلا بالشفهي!

Exit mobile version