العروبة والإسلام يقتتلان خارج »دولتيهما« الموهومتين!
حين خرج »عرب المشرق« على السلطنة العثمانية المتهالكة ومنها، مع بداية القرن الماضي، تبدى وكأن خروجهم إنما هو على »الخليفة أمير المؤمنين« وعلى »دار الإسلام« في تلك الإمبراطورية التركية الطورانية في منشئها وفي هويتها الغالبة.
كانت ظروف »الخروج« شديدة الالتباس، بين أن تكون خطوة في طريق استعادة الهوية القومية، وبين أن تكون استعادة لعروبة »الخليفة« والخلافة، خصوصاً أن قائد ما سمي »الثورة العربية« كان »شريف مكة« الذي يرى نفسه »الوريث الشرعي« للرسالة المحمدية، والأهم »لأملاكها« بوصفه من أحفاد »أهل البيت«.
… وبين أن تكون خروجاً على الاضطهاد القومي وإنكار الهوية العربية باسم الدين، أو أن تكون خروجاً من »دار الإسلام« للالتحاق »بالغرب المسيحي« تحت شعارات مموّهة بطلب الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان.
ومع سقوط أقطار المشرق العربية تحت الاستعمار الغربي مباشرة مع انكسار »دولة بني عثمان« وجلاء جيوشها، ثم إسقاط السلطنة بالحركة الأتاتوركية، حصلت مفارقة لافتة: إذ أخذ أتاتورك تركيا الجمهورية إلى العلمانية المطلقة ملغياً كل علاقة بين دولتها الحديثة والدين، أي الإسلام، في حين تاه العرب طويلاً في المفاضلة بين الدين والقومية في »الكيانات« التي استقطعها الانتداب من جسم الإمبراطورية ثم من الحلم العربي بتوحيدها وشلعها »دولاً قزمية« بهويات مستحدثة أو مستعادة من زمن انهيار الخلافة العربية وغلبة الحملات الصليبية والمدن الإمارات أو المدن الدول.
في البداية قاوم العرب هذه التجزئة المفروضة عليهم بقوة التقاسم الاستعماري المسلح، ثم تدريجاً فرض الأمر الواقع نفسه، وصارت هذه الكيانات دولاً على النمط الغربي مشوهاً بدواعي مراعاة ظروفها الخاصة، ومن ضمنها »اكتشاف« أنها تتكوّن من أقليات طائفية أو مذهبية (تقسيم سوريا إلى أربع دول!) أو أنها من الأصل تحت الحماية الأجنبية (لبنان المتصرفية)، أو أنها ستكون غداً (!!) دولة ثنائية القومية (فلسطين ووعد بلفور بإقامة الكيان الإسرائيلي فوق أرضها).
ظلت العلاقة مع الدين، ومع الإسلام تحديداً، معلقة: فرغم تضمين النصوص الدستورية إجمالاً ما يفيد أنها مستمدة من الشريعة الإسلامية، فإن هذه الدول اعتمدت في علاقاتها مع »رعاياها« الذين صاروا الآن »مواطنين« مبادئ مستمدة من دساتير الدول العلمانية في الغرب، متجاوزة في الشكل التماهي التاريخي بين »الخليفة أمير المؤمنين ولي أمر المسلمين«، ولكن الرئيس أو الملك أو الأمير سرعان ما صار أو صيّر نفسه »سلطاناً«، بقوة ارتباطه بالمنتدب الأجنبي، أو بقوة تمثيله الأكثرية الدينية.
وفي الحالات جميعاً فقد تُرك »الإسلام« في الشارع، و تُرك الشارع للإسلام السياسي كقوة اعتراض على مبدأ إنشاء هذه »الدول« ثم على آلية قيام السلطة وانتقالها في كل دولة من دول المشرق (كان فيها مملكة في العراق وإمارة في شرقي الأردن، وجمهورية في كل من لبنان وسوريا، ودولة غير محددة النظام في فلسطين الانتداب).
كان في الشارع قوة اعتراض جدية أخرى تتمثل في الحركة القومية الساعية إلى إعادة توحيد الكيانات التي جزئت بقوة سلاح الأجنبي ومصالحه.
وبدلا من أن تتكامل هاتان الحركتان فقد تصادمتا بعنف اتسم بداية بالطابع الفكري، ثم اتخذ منحى التعارض إلى حد الاقتتال مع تنامي الحركة القومية وتعاظم مدها السياسي الذي جعل وصولها إلى السلطة، أو مشاركتها فيها، احتمالاً جدياً.
كان طبيعياً والحالة هذه أن يكون رافعو الشعار الإسلامي قوة احتياط ضمنية ل»الستاتيكو«، أي للحاكم، طالما أنهم لم يملكوا بعد القوة المؤهلة لإقامة »دولة الخلافة الإسلامية«… وبالتالي فقد تحولوا إلى قوة تصادم مع الحركة القومية وبالاستطراد مع الحركة الشيوعية، لا سيما حين جاء زمن النضوج مع جمال عبد الناصر، وتقارب التياران القومي والتقدمي إلى حد التكامل.
وعلى امتداد نصف القرن الأخير استمر هذا التصادم في معظم الأقطار العربية، مشرقاً بالأساس، ومعه السودان، ثم في المغرب العربي من ليبيا إلى موريتانيا مروراً بتونس والمغرب وإن كانت الجزائر محطته الأكثر شراسة ودموية.
الأخطر أن »الإسلام السياسي« قد تشقق حركات وتنظيمات و»إمارات« أصولية وأكثر أصولية… وفي حين انتفض بعضه على مؤسسيه وأساتذته وشيوخه الكبار (جهيمان مع الوهابية في السعودية)، فإن بعضاً آخر منه وجد في قتال الشيوعية مهرباً، خصوصاً أنه قد شجعه النظام ورعته المخابرات المركزية الأميركية (أسامة بن لادن ومن معه).
على أن أزمة الحركات الإسلامية، سواء بالفكر أم بالممارسة، لم تكن تزيد حدة بالمعنى الفكري على أزمة الحركة القومية التي تشققت وتصادمت فصائلها واقتتلت بالسلاح (في سوريا والعراق وداخل حركة المقاومة الفلسطينية)…
وهكذا يشتد الاقتتال الدموي والصراع الفكري بين قوى التغيير في المجتمعات العربية، مما يؤدي إلى تدميرها جميعاً ومعها مشروع الدولة الذي لمّا يتكامل عند أي منها، ولا يبقى في التداول إلا نموذج الدولة الغربية من دون مقوماتها الأساسية: أي من دون مواطنها الذي لا يمكن أن يولد إلا من الفصل الكامل بين الدين والدولة، وبين »الخليفة الملك الرئيس ولي الأمر« بواجب الطاعة معلنة أو ضمنية لإحكام الشرعية، وبين ذاك الذي يختاره الناس بالاقتراع الحر كي يحكمهم لمدة معلومة وبموجب دستور يحدد له واجباته ازاءهم ويحدد كيفية خلعه إذا ما خرج على إرادتهم.
ربما لهذا، وغيره ممّا لا يتسع المجال لتعداده من الأسباب والعوامل، يتبدى العرب أساساً والمسلمون وكأنهم »بلا دول«، بل إنهم غالباً ما يقفون ضد »دولهم« التي يرونها هجينة، في حين أنهم لا يملكون النموذج للدولة التي يريدون.
عروبة ولا برنامج سياسياً لدولة الغد وموقع مواطنها وحقوقه فيها.
وإسلام ولا برنامج سياسياً وعملياً يحوّل »الشريعة« إلى نظام حكم عصري يعترف بالمواطن ويجعله الأصل في قيام الدولة وليس تفصيلاً تفصيلياً في صلاحيات »الخليفة« الآتي من خارج العصر ليحكم دولة يستحيل قيامها في القرن الحادي والعشرين، مهما برع الدعاة في تجنيد »المؤمنين« لتدمير دول الكفار.
ومعركة العرب والمسلمين من أجل إقامة الدولة ما تزال طويلة بينما الزمن الأميركي الإسرائيلي لا يتوقف ولا يرحم، وآلة موته الجبارة تسحق المعترضين.
حكايات مبتورة
÷ قالت المغربية لمساهرها المشرقي: أنتم شعراء، أما نحن فإننا الشعر.
لم يفهم قصدها فأضافت: أنتم في الصحراء، بعد، أما نحن فقد عبرنا البحر. الشعر جمل يجتر الوقت المختزن منذ أجيال، وأنت فوق ظهره محمول، تتأمل على مهل لقتل الوقت، وتنسج من اللغة صوراً بعضها للتورية وبعضها للتشبيه وبعضها للتجميل والتزويق… أما نحن فقد عبرنا البحر، وكان الوقت قاربنا، إن توقفنا عن التجذيف غرقنا. هيا جذف، فالشعر ينتظرك في فندق يطل على الميناء، إن أنت وصلت…
واستغرق في التأمل: لقد أوحت له قصيدة جديدة!
÷ كانت الراقصة الأجنبية تتهاوى راقصة بالسيف على إيقاعات لحن لأغنية لا تفهم كلماتها حين اقتحم عليها »مسرحها« الصغير فتى أخذته الحماسة إلى الغناء راقصاً، فأخلت له المسرح، وجالت بين الطاولات تراقص الجمهور المتشوق إلى استذكار صور أجساد النساء وقد تخففت من الأثواب الحاجبة للجنس.
نثرت عليها أوراق نقد كثيرة، فمشت فوقها.
انبطح الشاب المتحمس أرضاً يريدها أن ترقص فوقه، وكان السيف من صفيح، والغناء نشازاً، والموسيقى هجينة تنطلق من مكبر الصوت كالزعيق.. لكن الجسد الممدد على أرض المسرح كان وحده حقيقياً. وضعت سيفها المن صفيح جانباً، وانحنت عليه ولامست شعره برقة، وهمست في أذنه كلمات لم يفهمها، فقام ومشى نائماً في قلب نشوته حتى ذاب في ظلام ما بعد الآهات.
تهويمات
÷ قالت: يتسع بحر الحب لسابحين بلا حصر… ولست أنانية لكي أشربه جميعاً، ولست جبارة لكي احتل صفحته جميعاً، فهل تسمح بأن أختار شركائي وشريكاتي في هذا المشاع البلا حدود؟! لك حياتي فلماذا تريدني أن أموت ظمأ؟
.. وضاق البحر حتى صار قطرات من العرق.
÷ قالت: حين تجيء تتصاغر الدنيا حتى لأقدر أن أضمها في كفي.. وحين تغيب تتعاظم مساحتها حتى لأشعر بأنني ذرات من الغبار يتطاير بها الهواء حتى الضياع في الفراغ المطلق.
… ها هي الآن تضم كفيها.
÷ قالت: أحب أن أكون فراشة ترف من حولك ليلاً نسمة من عطر ملون.
قال: لماذا تتعجلين الاحتراق..
قالت: أريد أن ألتصق بك..
قال: أيتها البلهاء… لا المصباح سينطفئ بدورانك من حوله، ولن ينفعك بنوره القاتل في الاهتداء إلى طريق الخلاص. ليس الضوء طريق الفراشات إلى الحب. وليس المصباح رمز الحب السامي. فلا نور المصباح قادر على الخروج إليك لتهتدي به، ولا أنت قادرة على الوصول إليه إلا بالموت. ابتعدي، أيتها البلهاء، تكن لك الحياة.
… وأصرت أن تعيش وقتاً قليلاً ولكنه ممتلئ كثيراً.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبك واحد، لكن قلبك يتسع للعالم كله. لا تصدق أن إنساناً يمكن أن يعيش لحبيب واحد. هو الأول، المميّز، الذي لا يدانيه أحد، لكنه لا يغني عن بقية الناس، ولا يحق له أن يحتكر قلبك كله.
في قلب المحب كل الناس. في قلبي كل الناس بملامح ذلك »الواحد«.