حبس المدرج المكتظ بجمهوره انفاسه، ثم رفرفت الأكف مطلقة عاصفة من التصفيق، قبل ان ترتفع معظم الأيدي الى العيون تمسح الدمعات التي ترقرقت فيها او تدحرجت على الخدود: كان المشهد فريدا من نوعه، الإبن يقدم اباه بكثير من الفخر والتواضع والحب المكين والحياء والشعور بمجد التميز والخوف من ان تؤخذ عليه المبالغة في هذا الامر بحيث لا يكون إلاّ »ابن ادوار سعيد«.
لكنه هو. لم يكن يوماً، على حد ما قال، الا ابن ادوار سعيد، كان دائما وديع ادوار سعيد، لذلك لا يعرف كيف يصف شعوره تجاه أبيه، المفكر والكاتب والاستاذ والاكاديمي الكبير، خصوصاً وانه ابنه الوحيد.
المشكلة اكثر تعقيدا، اذا وجد من يرغب بفلسفتها: تكبر كثيراً بمن تعيش في ظله معرضاً دائما لخطر الإلغاء. فإذا لم تكن إلاّ »ابنه« فهذا امر يسيء إليك ومن ثم إليه، بعيداً عن خيلاء الزهو والافتخار بالانتساب الى انسان كبير!.
متعب هو الاسم الكبير لمن يرثه!
لا هو يستطيع الانسحاب منه، ولا هو يستطيع التسليم بأن يختنق في شرنقته، لان العيش في ظلّ الاسم الكبير مغر ومفرح ومريح بقدر ما هو محرج ومتعب ومحزن الى حد كبير، لانه يخضعك لمقارنة غالباً ما تكون ظالمة، فانت منه ولكنك لست هو ولست مطالباً بأن تكونه، وليس عدلاً بأن تظل مطالباً طيلة عمرك بأن تضيف إليه، او ترد إليه ما اعطاك.
ادوار سعيد، مثل كثيرين غيره، صنعوا لانفسهم مجد اسمائهم، لم يعان من مثل هذه المشكلة، بل لقد عانى (كما اخبرنا)، من نقيضها: فليس ان اهله لم يكونوا معروفين فحسب، بل انه هو نفسه عانى الامرين لكي يعرف شجرة عائلته، ونسبه الكامل، والتسلسل بين الجد الاكبر والجدود المباشرين ثم الاب والام.
ومع ادوار سعيد تتبدى القوة الهائلة لإرادة الانسان وقدرتها المذهلة على مقاومة اخبث الامراض ومعها التردي السياسي والتحطيم المتعمد للآمال، وانسحاق الاحلام تحت ضغط الانحراف والخطايا، ومن ثم الارتداد واغتيال الامكانات والطاقات الفعلية للناس سعياً وراء أوهام سلطة ليس لها من السلطة إلاّ الشكل وإلاّ الرذائل جميعا.
لكم قاوم هذا الرجل النحيل المفتوح العينين على الغد، المرهف الاحساس، الصارم في احكامه، والمتناسق نتاجه الفكري (كما عزفه على البيانو) بحيث يشكل فتحا جديدا في الثقافة الانسانية، ليس من المبالغة معه ان يقال ان ادوارد سعيد قد أرسى الأسس لكتابة جديدة للتاريخ عبر إعادة تفسير التاريخ.
والحقيقة ان ادوارد سعيد قد اطال قاماتنا جميعا، وانه قد منح اسماءنا بعضا من الوهم، بوصفنا من اهله.
ولعلنا هنا نلتقي مع ابن ادوار سعيد، وديع، في اننا نستشعر ثقل الحمل، وجسامة المهمة في آن، نحمي الاسم الكبير فلا نسقط تحته ولا نحاول تحطيمه حتى نتخفف من اعباء المقارنة القاسية،
الاهم: إلاّ نتخلى عن هذا الاسم بالدور الفكري المشرِّف الذي لعبه، ونتركه »لاعدائه«… فإذا كان ادوار سعيد قد عاش »هناك« فإنه قد ظلّ »هنا«، ولعلّ كتبه هي اعظم مرافعة عن »الذين هنا« في وجه التحريف والتزييف والفهم السائد او المفروضة سيادته »هناك«، والذي من خلاله ينظرون الينا ويتعاملون معنا.
علينا ان نعمل بكد، ان نحرر عقولنا، ان نحرر ارادتنا، ان نستعيد قدرتنا على الحلم، وان نسعى لانجاز الثورة الفكرية على القيم والمفاهيم السائدة، والتي تحد من اكتمال انسانيتنا.
علينا ان نستعيد ادوار سعيد بأن نتصدى لواقعنا فنغيره تغييراً ليليق بنا ادوار سعيد ونليق به.
تحية لاحد صانعي اسمنا الكبير في العالم، بينما يسعى السلاطين عندنا لاطفاء اسمائنا جميعا والتنكر بالاسماء والقيامة والتقاليد والثقافات المزورة والهيجنة.
كتابة على ورق الغياب
توقف سعد الله ونوس عن الكتابة.
لم يعد يكتبنا. لعله الآن يقرأنا.
هذه رسالة جديدة إليه على ورق الغياب، كتبت وألقيت في ذكرى الاربعين، ونفترض انه سمعها، ونفترض أنه قد لوّح بيده وهو يهزّ برأسه مستنكراً: إذهبوا فاكتبوا ما ينفع الناس. اذهبوا فاضيفوا ما يكمل البدايات. انجزوا الخاتمة.
***
»راحل انت والزمان نزول
ومُضِرٌّ بك البقاء الطويل«
(الشريف الرضي عن الإمام الحسين)
***
نتهيب الكلام في حضرتك،
لكأننا نخرج من سطورك اليك،
هل تأذن لنا أن نغادر ادوارنا لكي تسمعنا ونراك؟
يرف علينا طيفك ونحن أسراك. نحاول التملص من شخوصك التي استخرجتها منا فما نستطيع الا قليلا. لقد احطتنا بنا، وتوغلت فينا فعرفتنا اكثر مما نعرف انفسنا. فكيف يمكننا الآن ان نأتي بما لا نعرف، وكيف يمكننا الوصول إليك وأنت خلف باب المعرفة وما تزال في يدك المفاتيح وكلمة السر؟!
نلمح طيف ابتسامتك الساخرة المغلّفة بحزن عتيق وانت تسمع من واحدنا كلاما لغيره،
ولعلنا في لحظات نسمع صدى ضحكتك القصيرة مجلجلة بالمرارة، وانت ترى شخوصك قد خرجت من مسرحياتك مستغلة غيابك لكي تقول ما لا تملك حق قوله، فإذا ما يثير الشجن قد صار هزليا، واذا المواجع ومنابع القلق تضخ المعابثات والمكايدة وتمسخ الانسان الذي عليه ان يبقى عظيما؟!
نسبح في بحرك. يقولنا نصك ولا نجد ما نضيف إليه، فنكتفي بالثرثرة وبعض التأسّي.
فهنا في هذه الصالة كثير منك:
بعض من رسمت فأبدعت، وبعض من اكملت الرسم من قبل أن يصلوا، وقلة ممن يجتهدون لان يضيفوا كلمة أو بعض كلمة، أو لمسة أو فاصلة، لكي يكتمل القول الذي لا يكتمل لان شمس الحقيقة تضيف إليه كل يوم، ولان الأمل الذي نحن محكومون به معين لا ينضب، لانه من الانسان ينبع وإلى الانسان يعود،
وأنت منا اقربنا الآن الى الاكتمال.
»لا تفاصيل بعد الآن. فقد تجاوزت الحد، واخذت بعضا من زمني وزمن الآخرين…«.
ولكنك انت الآن حيث لا يوجد زمن،
ونحن في الزمن حيث يتناقص الصح ويتعاظم الغلط وتتكاثف العتمة.
»لم يحدث شيء. لقد غنيت لنا حتى غابت الشمس وانتهى يومنا«.
لكن يومنا مفتوح، نتوغل فيه ونحاول ان نخترقه الى غدنا فتطول الطريق وينال منا التعب ويتباعد الغد ونضعف، نخادع أنفسنا. نقول: سنرتاح قليلا ثم نكمل ما بدأناه. لكن البدايات تضيع منا، وتتوارى النهايات، ونظل نخب بأقدامنا المثقلة باغلاطنا وقصور الرؤية ونقص في النفس والعزم بينما الشمس الجديدة تغمر الدنى البعيدة وتدفعنا إلى جحيم الاهمال والسقوط.
»دع الاسئلة واقفز الى الماء…«.
ذات يوم، قبل خمس وعشرين سنة، قفزنا معا الى الماء، وتوليت دفة في »السفير« وانت تهتف بصوت الاجداد: يائس من لا يملك ما يقوله! هل لديك من الورق ما يكفي لاحلامنا؟!.
»نعم… كنت اعلم انني احمل موتي في داخلي، ولكن لو يعلمون كم عاقبت نفسي، وكم حاولت عبر المكابدة والتجربة ان اتعلم الحب وأعرف سره«
ولقد عرفت السر يا سعد الله وعلمتنا الحب،
ولقد حاولنا ان نبدل خاتمة الحكاية. لم نكن نسلم بأننا من الظلام جئنا والى الظلام نعود… وتلك هي كل الحكاية.
آمنت واخذتنا معك الى إيمانك بأن ما نعيشه ليس نهاية التاريخ. وان للتاريخ صناعة فإن تراخى اهله اصطنع لهم الآخرون تاريخا ليس لهم.
ولكن، لماذا يا سعد الله قتلت زرقاء اليمامة؟!
هل كان الموت اقل قسوة مما رأيت بعيونها؟
ولكن… أليس »كل ما حولنا يمجد الحياة، بينما ينأى الموت ليختفي في مقبرة بعيدة على حافة قرية صغيرة«؟!.
انت الآن حيث لا يوجد زمن.
ولكنك عنوان زمننا يا سعد الله.
كتبتنا وما كتبناك.
وها نحن، مرة اخرى، نلتقي فيك وعبرك.
لم يغب احد: من اردت حضر، ومن تمنيت غيابه لم يتخلف.
بعد الرحيل يحضر عدد اكبر.
بعد الرحيل تستحضر صورة اخرى.
لكن صورتك لا تحتمل التحوير او التزوير او التغيير: أنت أنت في الحضور والغياب.
عاصيا عشت، تنقش رأيك في رؤوسنا جميعا حتى لاتكون كمثل رأس المملوك جابر تحمل السيف الذي يقطعها لحساب الغير،
ولقد قهرت فينا كل انواع الرهبة: رهبة الظلم ورهبة الظلام ورهبة الموت.
ان قهر الخوف من الموت شرط لاعادة صناعة الحياة، ولقد علمتنا ان ذلك كله ممكن بالارادة.
اننا نخاف الآن اقل، ونعمل اكثر، ونحلم اكثر، ونحب اكثر
»ما الحب ان لم نتقاسم مصيرا واحدا«.
ان اسمك يلفنا »كمطر دافئ، او غطاء من حرير وحنان«.
واسمك احد مصادر الامل الجديد بغد جديد.
»غنيت لنا حتى غابت الشمس وانتهى يومنا«.
فانت لم تهمل احدا، لم تنس شيئا، لم تستبقِ كلمة، واستنفدت الافكار والعواطف، الاشخاص والهيئات والمؤسسات والطبقات جميعا، ثم انزويت في قلب الصمت المدوي تتفرج علينا وتبني منا عملك الجديد.
قلتنا جميعا وسنظل طويلا نقولك.
انت الآن حيث لا يوجد زمن.
لكنك اعطيت زمننا بعض ملامح..
فشكرا اننا عشنا في زمنك، واننا حاولنا وسنظل نحاول اصطناع الزمن الجديد.
»لم يحدث شيء، غنيت لنا حتى غابت الشمس وانتهى يومنا«،
لكن يوما جديدا يطل بفجره، واجيالا جديدة ستغني وستفتح بكلماتك طريقها الى الغد الذي انشغلت به حتى كاد يضيع منك يومك.
والغد موعد اللقاء. وفيه ديماك، ديمانا التي تقدم مع فايزة صورة اكتمالك انساناً ومبدعاً عربيا انزرع في افق الثقافة الانسانية علماً.
الى اللقاء غداً.
سرى الشعر فظمئ الشاعر!
حين وصل الشاعر تركت النسوة مقاعد الثرثرة المريحة واندفعن نحوه من فوق رؤوس الرجال، ومن داخل عيونهم.
مشى الشاعر على رؤوس الرجال الذين مطوا ابتساماتهم الفارغة من المعنى وقد اخفوا حسدهم في طيات المبالغة بالترحيب والاشادة بالعبقرية المفردة.
اطلت امرأة من جيب القميص، واشارت إلى سائر النساء ان »هيا إليّ«…
جلس الشاعر، فوقف الرجال حرساً، يرمق كل منهم زوجته او رفيقته او المرأة التي يرغب فيها، ويتابع حركاتها مسجلاً كل نأمة لحساب لا بد سيجيء بعد انفضاض الاحتفال والمحتفلين.
تصاعد الالحاح على الشاعر ان يقول.
كانت كل امرأة تريد ان تروي جمالها بمائة العذب،
وكان كل رجل يريد ان يستعيد منه لنفسه صورة »فتى كل النساء« والذي يقتحمهن جميعا، ويقتحم كلا منهن في خدرها، ولو كانت في احضان رجلها.
فاض الماء العذب عن حاجة الظمأى فغمر المرج الاخضر بالرواء،
وسرى الشعر في الجمع فإذا كل انثى تتزود من الشاعر بما تحتاجه لكي تباغت رجلها، واذا كل رجل قد انعطف على امرأته يضخها حبه المتجدد،
وقبل ان ينتصف الليل كان الشاعر قد تصاغر بعدما سلبه جمهور عشاقه اسباب قوته وتميزه،
لقد تفتت فأخذ كلٌّ منه ما يناسبه وتركوه عطشانا بينما الأرض تحته تفيض بمائه السلسبيل!
ماؤك، في صدرك
سمعت حواراً بين محبين فسجلته، ولكني حين عدت استمع إليه لم اعرف من كان البداية ومن كان الختام فتركته مطلقا، اذ لا حدود بين محب ومحب ولا فروق:
ما هذه الكلمة السحرية المتفجرة والتي لا تذوب ابداً؟!
أرأيت اعجب من الحب: كلما غرف الناس منه زاد.
على امتداد التاريخ، شرب ملايين الملايين من البشر من نبع الحب فما نقص ماؤه بل هو يتجدد ويفيض عن احتياجاتهم، خصوصاً وان بينهم من يضيع الطريق إلى النبع، وبينهم من لا يعرف كيف يغرف منه بعينيه!
يزيد الحب كلما زاد عددد المحبين،
ينده الحب على الناس ان تعالوا الي لاعيد خلقكم ابهى واجمل وأرق واعظم سعادة واكثر استمتاعاً بالحياة.
مساكين اولئك الذين لا يسمعون النداء النبيل!
ومساكين اولئك الذين يحاولون ان يخفوا موقع النبع حتى يتوه عنه الآخرون!
النبع فيك لا في خارجك،
من مائك تشرب.
في صدرك النبع،
أليس حبيبك في صدرك؟
أليس حبيبك في كل شعاع نور وكل قطرة ماء وكل نسمة هواء؟
من مائك تشرق… وكلما سقيت مزيدا من العطاش زاد ماؤك ولم ينقص.
من اقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لاتستهلك وحدك الهواء كله، دع حبيبك يتنفس!
صمت وحدق فيّ فرأى الدهشة في عيني فأضاف يقول:
امنح حبيبك شيئاً من الراحة. لا تطارده بلهفتك، ولا تنيخ عليه اثقال حبك دفعة واحدة. لا تقل كل الكلمات، اترك له بعضها. لا تغرقه بجور الثرثرة، اترك له فرصة للتأمل كي يستطيع ان يراك ويسمعك.
الهواء، الهواء، الحب بحاجة الى تجديد الهواء.
في الصمت من الحب اكثر ما في اجمل ما قال شعراء الغزل جميعاً.