طلال سلمان

هوامش عن العربي البشع الذي يحتقر نفسه

عن العربي البشع الذي يحتقر نفسه..
طلال سلمان
أنت عربي: إذاً أنت تكره نفسك.
أنت عربي: إذاً أنت تحتقر مكوّناتك الأصلية، لغتك، أهلك، جغرافيتك، تاريخك، اسمك، لون بشرتك وقبلات أمك وهي تتفقّد أحلامك وتعيدها إليك إن ضاعت منك!
… وآخر الإبداعات التي راجت وتروَّج مؤخراً، مجموعة من الكتب التي لها فعل القنابل الجرثومية والرؤوس النووية وسائر أسلحة الدمار الشامل: فهي تحطم المصابيح وتقضي على النور وتجتث آخر التماعة ضوء في هذا الليل العربي البهيم.
فجأة، برز بضعة مؤلفين وأعلنوا الحرب على آخر مَن تبقى من القيم والأسماء المحترمة في الوجدان العربي: استخرجوا جثث الرسول العربي وصحابته وأهل بيته، وأصدروا أحكاماً بإعدامهم شنقاً حتى الموت ورمي عظامهم للكلاب.
الحيلة بسيطة: ترجع إلى كتب السيرة والتراث فتستخرج رواية من هنا وتجتزئ مقطعاً من هناك، تقتبس حديثاً منحولاً أو تحرِّف جملة أو تعيد صياغة واقعة بإخراجها من سياقها، فإذا المقدس ملعون وإذا البطل مجرم وإذا المبشّر شيطان رجيم.
كأنما الفتن المذهبية والدسائس اليهودية وتراث الحروب الصليبية (وهي مستمرة، وهو كذلك متواصل) لم تكن كافية لتحطيم شخصيات فذة من أمثال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد والمغير بن شعبة وأسامة بن زيد ووجوه الأوس والخزرج من الأنصار.
وهكذا جاء المكتشفون الجدد بالتنوير: فإذا كل رجالات فجر الإسلام غارقون في الخطأ والخطيئة حتى آذانهم.
كلهم شبق إلى حد الزنى، مفرِّط في شرفه ودينه إلى حد الابتذال، حتى لتتساءل، مثلاً: إذاً لماذا هاجر هؤلاء مع الرسول من مكة إلى يثرب، ثم لماذا خرجوا بعد ذلك لنشر الدين في أربع رياح الأرض؟!
لا يتصل الأمر بالتديّن، ولكن بالحق والحقيقة، وبالهدف من هذه الحملة الشعواء على كل رمز أو سطر مضيء في التاريخ العربي الإسلامي.
الهزيمة مستنقع يتمدّد باستمرار، فتتزايد جحافل البعوض والحشرات السامة حاملة العدوى فإذا الأصحاء جميعاً مرضى.
الهزيمة ولاَّدة آفات.
فجأة، ينتبه المهزوم إلى أنه أقصر مما يجب، أطول مما يجب، أضأل مما يجب، أثقل مما يجب، أخف مما يجب. أي أنه غير سويّ وقد لا يليق بالنظام العالمي الجديد والعصر الإسرائيلي.
فجأة ينتبه المهزوم إلى أن أباه مقوّس الظهر وخشن الملامح، وإلى أن أمه فلاحة تملأ وجهها التجاعيد والغضون وليست بجمال معشوقة الملايين الأميرة دايانا، وأن خاله ليس »بفروسية« جون واين، وأن أخاه ليس برشاقة ترافولتا وعمه لا يتمتع بثروة مثل روكفلر وأن جده لم يورثه قصراً في اسكتلندا أو يختاً في مونتي كارلو..
ثم ينتبه إلى أنه متخلّف لا يعرف شيئاً ولا يتقن حرفة: لا علمه العلم، ولا فنه الفن، لا جيشه الجيش ولا جامعاته الجامعات، لا أكله الأكل ولا شرابه الشراب، لغته مهجورة ومنبوذة في العالم وليست متطورة مثل »الياديش«، وليس في حياته إلا التفاهة والتخلّف والرداءة.
لا علاقة له بالزمن، يهدي الساعات ولا يربط دورة إنتاجه بها. لا يقرأ، وإذا قرأ لم يفهم، وإذا فهم لم يستطع أن يؤثر على مركز القرار.
فجأة ينتبه إلى أن لباسه ينتمي إلى قرون مضت وأن تقاليده وقيمه ومفاهيمه وعاداته لا تصلح للعصر: ثم يصل إلى مكتبته وكتبه وكتَّابه فإذا المضمون مجافٍ لروح التقدم.
يصل إلى الدين فيجبن، بداية. يتردد، ينافق، يخاتل، يتظاهر بما لا يؤمن به. يحمل على كتفيه العمائم والقلانس ويتبرّع للمساجد والكنائس ويهرب من مواجهة أصحاب البدع، قبل أن يقرر في لحظة شجاعة نادرة أن يواجه الدين من خارجه، بل ومن خارج مجتمعه كله، مرة بالإيديولوجيات المستحدثة، كالماركسية، ومرة بالقيم السائدة كاقتصاديات السوق.
يرتاح، للحظة، متوهماً أنه بمجرد الخروج من الدين وعليه فقد انتمى إلى العصر مغادراً الجاهلية.
وحين يجد نفسه بين ركام ما حطّمه من قيمه ومكوّناته، من الدين إلى الوطنية إلى القومية إلى العقيدة عموماً، يهرب إلى اللامكان، وينسِّب نفسه إلى العولمة!
الدين المستورد أفضل من المحلي: مسيح بعينين زرقاوين وشعر أشقر وملامح سويدية أفضل من الفتى الأسمر ابن الناصرة وبيت لحم والقدس، وأشجار السرو ترمز إلى الميلاد بأكثر من النخيل وكروم فلسطين وتفاحها (وعربة بابا نويل فوق جبال الثلج مثيرة أكثر من حكايات الجدة)..
يكره العربي نفسه. يحتقر العربي أمه وأباه وجده، أرضه وتاريخه، ويفضّل أن يقرأ عن نفسه ما يكتبه الذين انتصروا عليه وهزموه.
أما الإعجاب فللعدو وليس إلا للعدو.
ليفسح النبي والصحابة الطريق أمام جنرالات إسرائيل.
لِتُمسح الأحذية بدواوين الشعر العربي، وليُضرب أبو الطيب المتنبي، بل فليُجلد بعدد أبيات الشعر في مجموع القصائد التي قالها، وليُصلب أبو العلاء المعري على سديم عماه، وليحرق بالنار كل الأنبياء الكذبة الذين صنّفهم العرب كمفكرين وعلماء.
ملعون أبو النحو والصرف.
وهكذا متى غدا العربي بلا لغة ولا ثقافة أو موروث ثقافي، بلا تاريخ، بلا دين، بلا أرض، بلا علم أو علماء، بلا فن أو موسيقى، بلا أبطال ولا انتصارات، وأيامه مسلسلاً مفتوحاً من الهزائم، احتقر نفسه حتى الموت وسار بقدميه إلى مزيد من الهزائم ولو في آخر الأرض.
أيها العربي البشع: متى تقرِّر أن تواجه نفسك وأن تمسك مصيرك بيديك بدل أن تستمر في الهرب من نفسك إلى الانتحار؟!
للمناسبة ..
يروي لنا الكتاب المدرسي ثم لأبنائنا من بعدنا مجموعة من الحكايات النموذجية التي تزرع فينا بذرة الاحتقار للذات.
من تلك الحكايات نستذكر هنا اثنتين:
»وفاء السموأل«، وهو في الأصل اليهودي صموئيل،
و»جزاء سنمار«، الذي كافأه صاحب القصر العربي برميه من فوق سوره حتى لا يبني مثله لغيره.
مثلان عن خسّة »العرب الأقحاح« مع صاحب خلق ومبدع وكلاهما غير عربي.. فتأمل!
لم يتسع لها الليل
انشقّ الليل وبزغت تمد قامتها بامتداد مساحة الحلم.
انتشت يدي وهي تمسك بالطيف، لا هو راغب في مغادرتها ولا هي متعجلة لتركه،
لكأنها تدلّت هابطة من مهجع النشوة،
انفتحت العيون على مداها تتملّى من هذا الجمال الوحشي المستفز بهدوئه الواثق من اكتماله ومن هذه الثقة الراسخة بفرادتها: كل الأخريات نساء وأنا المرأة.
غنى الشاعر فقصَّرت الأغنية عن مدى الحلم،
انتثرت القصيدة صبايا بدوية وخيولاً مسرّجة وقمراً مطعَّماً بحب »الهيل«،
وعندما قالت تهاوى الشعر ليخدم أميرته،
نزل القمر إلى الكأس يعبّ منه فإذا نظرها عطش، وطافت أخيلة الساهرين في أرجاء الجنان ثم ارتدت إليها.
جرت الفضة ساقية من لجين.
لا الخيل شربت ولا الفارس ارتوى، وتعلّقت بالشفتين العيون، إن غادرتها عشيت، وإن استقرت فوقها ثملت.
حمحمت الخيل وجمحت تطلب في القمر الحلم،
وانسحق »الهيل« شِعراً يهفّ فتشف الأرواح،
امتلأ بها المكان، وفاضت عنه.
كيف يتسع مقعد أو سرير لهذه التي لم يتسع لها الليل؟
وأين تسري مع الفجر وقد أضعت اسمك والعنوان؟
كيف تعود إلى نفسك، ونفسك تطوق مصعِّدة بين ذراها لا تجرؤ على الدخول وتدير بصرها حتى لا ترى للخروج باباً.
يذهب الشعر إليها ثم لا يرجع أبداً،
ويأتي منها الجمال فيغطي صلعة الكهل ويرمي الجمرة في وجنة العجوز.
لا تقومي، سيدتي، حتى لا يفرغ المجلس،
لا تجلسي، سيدتي، حتى لا ينعس الحلم فينام.
تسحبين بساط الليل إليك ثم تقولين لنا: اسهروا!
وتستودعين صدرك الصبح ثم تزعمين أن الفجر بعيد.
ومنزلي خلف عتمتك الغجرية وقبل صبحك بسكرتين،
أضيّعه ليلاً ويضيّعني نهاراً،
وقصيدتي قبل مفرقك بخصلتين
تلك التي إذا همت أسكرنا »الهيل«
وتلك التي إذا تهدّلت أعلن الملائكة العصيان وقفزوا من فوق أسوار الجنة ليكونوا بشراً.. فيروكِ.
تقولين ولا يطاوعني سمعي فأضيع خارج المعنى.
تتعارض الطرقات ولا نلتقي. أذهب إلى غيرك وتذهبين إلى غيري ثم يلتقي »الغيران« ونفترق.
كيف اتسعت لك امرأة واحدة أيها التي تجمَّعنا فيها وما اجتمعنا.
لقاؤك العذاب موعدي.

الشعر والدهماء ..
نشأنا في قلب الخطأ. كان اعتقادنا أن المبدع يعطي غيره، وأن الناس هم »القضية«، مَن دخل وجدانهم بقي فيه يحاورهم ويلاغيهم يرشدهم وقد يضلّهم ولكنه يجيء منهم إليهم وينطق ما أعيت الملكة ألسنتهم عن ترنيمه.
صار الشعر، بالمواصفات الحديثة، رسالة منك إليك. تقول لذاتك فتسمعك وحدك وتسمعها وحدك.
وصار الشعراء الحديثون يمارسون العادة الشعرية منفردين، لا ينكشف أحدهم للآخرين، ويهربون من الناس إلى غياهب الفردية التي تكره الزحمة.
في مهرجان الجنادرية برزت، مجدداً، تلك المفارقة المألوفة:
يتوارى الشعراء المحدثون داخل احتقارهم للعامة، فإذا ما اعتلى أحدهم المنبر أسعده خلو القاعة من الجمهور.
أما جماعة »الشعر الشعبي« بعدما اغتال الشعراء المحدثون الشعر، فقد كانوا هم النجوم،
من عبد الرحمن الأبنودي إلى طلال حيدر مروراً بالمبرزين من المستمرين في نظم »الشعر النبطي«.
كان الجمهور يسمع صوته منهم، وتتردد صدى آهاته والتمنيات، عواطفه والعذاب والتضحيات والانكسارات والطموحات، عبر كلماتهم التي تقوله.
وتحولت كل أمسية إلى تظاهرة، والجمهور خارج القاعة أضعاف أضعاف الذين بكّروا فحجزوا لأنفسهم أمكنة ولو للوقوف داخل القاعة.
الشعر للناس. الشعر بالناس.
مَن يقتص من الناس فيحرمهم من أحلامهم مغناة، ومن آمالهم وقد اكتست لغتهم اليومية فارتفعوا بها وارتفعت بهم إلى حيث يسكن الشعر… إلى وجدان »الدهماء«؟!

الأنثى أضاعت السيدة ..
هي الرقص لا الراقصة.
هي »الآه« لا العازف.
هي الجسد المغتسل بعرق النشوة فإن سكن أغفى!
مع أول نقرة على الطبلة دخلت دنياها الحميمة.
أشرق وجهها وانبثقت في عينيها ينابيع للفرحة الساذجة، مال عنقها وارتجّ صدرها وتلوّى خصرها وتثنّى جذعها وانتفض الكتف مستجيباً للإيقاع فوقع العازف والرق والنغم ومرمى العيون.
أطلّت الأنثى فاحتلت الهواء،
مالت فمال الجالسون إلى الطاولة، ومالت الجدران، ومالت الأنجم في سمائها المائلة، ثم انعطفت فانعطفوا، وحين انفلش شعرها الأسود شلالاً من الليل المعطّر أخذتهم النشوة إلى خدر السكوت.
لا يحبس عشق الحياة في جسد.
الأنثى أضاعت السيدة، وغرق الرجال في بحر اللذة السوداء، وانطلق الجسد في عزفه المنفرد، قطعة نغمة ونغمة قطعة حتى جاء الصباح فجمع ما تفرّق وفرّق ما اجتمع.

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يجعلني الحب شاعراً، يهذِّب ملكاتي فأتذوّق الفنون جميعاً، الرسم والنحت والغناء والرقص. يفتح الحب عيني على الجمال. أمس، كتبت لحبيبتي كلمات أعجبتها فسعدت بأنني اكتشفت سحر اللغة وبتّ قادراً على التجوّل بين كنوزها المخبوءة.
قلت لها: »يأتي بك الليل فتصطنعين لنا الفجر، يذهب بك الفجر فيغطينا الليل، والحب يملأ الشوارع حاملاً صورة وجهك«.
حبيبتي هي الشعر وبها أكتب ذاتي.

Exit mobile version