طلال سلمان
عن »أبو العينين«: الشاعر الذي يرى بقلبه
نحن جيل أحبّ مصر من قبل أن يعرفها،
كانت تملأ علينا دنيانا، سواء في دراستنا، أو في متع حياتنا اليومية أو في تطلعاتنا القومية نحو التقدم والدولة القوية واقتحام العصر بالجدارة، فكريا وثقافيا وعلميا الى جانب الشعار السياسي.
لكل بلاد أبوابها، وفي كل بلاد عناوين تكاد تلخصها أو هي تشكل بعض ملامحها الأصلية… ومعظم العناوين التي كنا نحفظها كانت مصرية، من خلال ما قرأنا أو ما سمعنا أو ما شاهدنا من ملامحها عبر السينما بداية، ثم التلفزيون، مضافا إليه ما يتصل بالموسيقى والغناء والفنون إجمالا، وصولاً إلى الفن التشكيلي وقد كانت مصر سباقة إلى التعريف به وإلى إدخاله عنصرا أساسيا في صياغة مطبوعاتها الصحافية، والمجلات أساسا.
وبالنسبة إلى جيلي فلقد كانت مؤسسة »روز اليوسف« مدرسة صحافية ثقافية سياسية، وهي قد ازدادت تألقا، جددت شبابها واقتحمت دنيا جديدة حين أصدرت مجلة »صباح الخير« التي كانت فتحا ونمطا جديدا في بابه في الصحافة العربية.
ومن خلال »صباح الخير« أضفنا الى ذاكرتنا وإلى أسباب تعلقنا بمصر صفحات وعناوين جديدة، فلقد تعرفنا أكثر إلى روحها الفتية، الى أجيالها الجديدة وقصص الحب الشجية المكبلة بأسوار الفقر أو التعصب أو المتفجرة بالتحدي، كما إلى التجارب الممتازة لأجيالها الجديدة سواء في قهر الصحراء أو في بناء القلاع الصناعية أو في رحلة اكتشاف الذات والتعرف إلى »عروبتها« في الداخل والخارج.
أضفنا إلى أسماء طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن الشرقاوي وجورجي زيدان وسلامة موسى ولطفي السيد وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وبيرم التونسي وأحمد رامي وزكريا أحمد والسنباطي ونجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ومحمد حسنين هيكل ولويس ولويس عوض وصلاح عبد الصبور، أسماء أحمد بهاء الدين وصلاح جاهين ويوسف إدريس وفتحي غانم وبهجت عثمان وإيهاب شاكر والليثي ورجائي وهبه عنايت وجورج البهجوري وأحمد حجازي و… »أبي العينين« ومعه جمال كامل.
لم نكن نعرف الكثير عن الإخراج الصحافي، ولكننا فوجئنا بمجلة رائدة، ذات روح اقتحامية، تنبض بالعافية والصدق ويشع جمالها عبر الرسم والكاريكاتور ومن دون استخدام للصور الفوتوغرافية.
كان المزيج التشكيلي الجديد باهرا ومحققا لرسالة المجلة الجديدة،
ومرت سنوات حتى تمّ اللقاء »بالمهندس« الذي أرسى أسس هذه الصيغة المتميزة: عبد الغني أبو العينين.
كنت قد تعرفت، قبله بسنين، إلى معظم المشاركين في صنع هذه التجربة الجديدة، وأهمهم بالقطع أحمد بهاء الدين، لكن الجميع كانوا يؤكدون أن دور أبي العينين كان حاسما في الصيغة المبتكرة ل»صباح الخير«.
وما كانت المعرفة الحقيقية لتتم لولا التعرف إلى شريكة أبي العينين أو »طليعة« ذلك الهجوم المجدِّد: رعاية النمر.
كانت رعاية النمر تقاتل من أجل إنجاح تجربة »قصور الثقافة« في القاهرة وخارجها، وتصارع حيتان البيروقراطية والمنافقين والرجعيين، بينما كان أبو العينين يواصل إنجازه في ظروف أفضل، إذ كان يحظى برعاية كبار قادرين على المواجهة والتصدي: إحسان عبد القدوس، أحمد بهاء الدين، ثم مجموعة المواهب التي صنعت بجهدها نموذجا ناجحا لعمل صحافي (وسياسي) جديد.
قبل »صباح الخير« وبعدها، كان أبو العينين يرسم مصر: »صان كل ركن فيها، وغاص حتى القاع في ثنايا عقلها وقلبها ووجدانها، بكل فئاتها وطبقاتها، لم ينس أحدا«، وبعد جولة لتثقيف العين والمخيلة شملت بعض أوروبا عاد إلى ملاذه الروحي ومهبط وحيه وإلهامه (كما يقول محمد عودة) في الحرانية، بين الحقول والفلاحين. ومرسم أبو العينين في الحرانية (وهي قرية فلاحية تستظل الأهرامات) ليس برجاً من العاج يحتمي فيه ويرى الناس، ولكنه قاعدة انطلاقه وجولاته ومغامراته وبحثه الذي لا يتوقف«.
بعد سنوات، جاء أبو العينين إلى بيروت، فجعلني أعرفها أكثر وأحبها أكثر.
كانت لديه تلك الرؤية الخاصة التي تكشف له ما لا ينكشف لنا، وكانت له القدرة على محاورة الروح، وكان همّه الأساسي: الإنسان، وحقه في الحرية وفي التعبير عن نفسه.
جلسنا طويلاً لحوارات مفتوحة، يظللها الصمت،
وفي بعض هذه الجلسات كان شريكنا محمود درويش،
وكنت كمن ينهل الصور والرؤى من نبعين متدفقين بالروعة والبهاء وغير المسبوق،
وذات فجر استفزنا أبو العينين برغبته في السفر إلى دمشق للقاء رعاية التي كانت قادمة إليها، من القاهرة، فسرينا إلى الشام لتستقبلنا شمس جديدة،
قبل أيام، رأينا النيل متشحاً بالسواد.
لقد رحل شاعره الأنيق الذي يرى بقلبه ويرسم بعينيه ويتحدث بصمته العميق.
لكن مصر ولادة »بطنها خضره، ونهدها مرضع« كما يقول أحمد فؤاد نجم.
عن غالي شكري و»عريضة الحكيم«..
حين عاد غالي شكري إلى أمه، مصر، منهياً رحلة التشرّد الفكري والسياسي والشخصي، كان مهدود الحيل، قد فقد شهوة الحياة، وانطفأت فيه جذوة المشاغب، ويئس من قلقه الذي جعله يهوم في كل أرض بحثاً عن يقين لم يجده حتى في الدين.
لكنه كان ما يزال يحتفظ ببقية من أحلامه وبشيء من الرمق لقلمه الذي استمر على امتداد جيلين واحداً من أغزر الأقلام إنتاجاً.
لغيري أن ينقد نتاج غالي شكري، وهو نتاج متنوّع وتتنوّع أو تتعدَّد فيه الآراء.
ولغيري أن يصدر الحكم الأخير على هذا الناقد الكاتب الأديب الباحث الذي كان يطيب له أن يتصدى للشائك من المشكلات، وأن يضع أنفه بقصد مقصود في ما لا يعنيه، وأن يثير غبار المعارك متلذذاً بها لذاتها وبغض النظر عن النتائج وطبيعة المنتصر أو المهزوم فيها،
ولست أستطيع أن أحيط بغالي شكري كله، خصوصاً وقد قطعت المنافي والهموم وتباعد المواقع والاهتمامات أواصر الصلة المباشرة بيننا،
لكن من حق غالي شكري عليّ، وقد غادرنا بصمت مفجع، أن أستذكر واقعة محدّدة كنا شريكين متواطئين فيها، وكان »بطلها« الذي كاد يتحوّل إلى ضحية، كاتبنا العظيم توفيق الحكيم وبعض أقرانه من أصحاب الأسماء المضيئة في تاريخ مصر الثقافي.
كنا تحت وطأة صيف القاهرة القاسي، في أواخر آب من العام 1971،
وكان المناخ السياسي لعاصمة المعز، في تلك الفترة، أثقل وطأة من قيظها وغبارها والتلوث المنهك،
وكان أنور السادات، وقد ضاق ذرعا بشتى أنواع الاعتراضات المتصاعدة، قد باشر حملة اعتقالات واسعة تركّزت في البدايات على »الناصريين« وأركان »النظام السابق«، ثم امتدت لتشمل كل مَن له رأي في سياسة مصر وتوجهات حاكمها الجديد الذي »جاء على طريق عبد الناصر« ثم نسفها ونسف ذكره،
واستفزته »ديموقراطية« بعض كبار المثقفين، من الكتّاب والشعراء والرسامين والصحافيين، الذين راهنوا لفترة على احتمال أن يكون السادات صادقاً في طرحه لشعار »دولة القانون« وإسقاط دولة المخابرات ومراكز القوى، والسماح لكل الأزهار بأن تتفتّح!
وتحرّك المشاغب غالي شكري يطرح فكرة عريضة يوقعها كتّاب مصر ويرفعونها إلى »الرئيس المؤمن« دفاعا عن الحريات والقانون وحقوق الإنسان، حماية لشرف مصر وكرامة مواطنيها،
ومع تزايد حملة الاعتقالات تحولت الفكرة إلى »مسودّة« للعريضة العتيدة، وعقدت جلسات نقاش عديدة، للقراءة الأولى والثانية والثالثة، والتعديل بالحذف أو بالإضافة، مع مراعاة جانب السلامة، خصوصاً وأن »طليعة« أولئك الكبار لم تعرف أبداً بالشجاعة أو بتقديس الاستشهاد.
صارت العريضة، بعد أيام، في صيغتها الأخيرة، خصوصاً وأن غالي شكري كان قد نجح في إقناع توفيق الحكيم بأن يكتب نصها النهائي (مبدئياً) بقلمه الرصاص، وهو الذي لم يعرف عنه أنه وقّع على أية ورقة خارج دفاتره الخاصة.
في جلسة إقرار العريضة بنصها النهائي، تغلّب في ما يبدو عنصر الخوف، فأحجم الكبار عن طباعتها، وأرجأوا البتّ بتقديمها إلى الرئيس ريثما »يتبيّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض«، خصوصا وقد أشاع بعض كتبة السلطان أن العريضة قد تستفز السادات فتجعله يوسّع الحملة لتشمل.. الجميع!
وقرّر غالي شكري أمراً، فجاءني لأكون شريكه، وكم كنت سعيدا بهذه الشراكة الطارئة:
تحايلنا حتى حصلنا على النص بخط توفيق الحكيم، فصوّرناه، وكتبنا قصة العريضة كاملة، وأرسلت »الموضوع« مع »الوثيقة« إلى جريدة »الأنوار« حيث كنت أعمل (من ضمن عملي في مجلة »الصياد«)،
في اليوم التالي استفاقت القاهرة على دوي عريضة توفيق الحكيم وكبار المثقفين في مصر وهم يرفعون صوتهم احتجاجا على حملة الاعتقالات التي شملت عشرات الكتّاب والصحافيين والمبدعين،
وجنّ جنون أنور السادات، و»الأجهزة«، فانطلق »المخبرون« يحاولون تقصي المصدر… وكان عليَّ أن أبرّر وأن أقول أو أسافر فوراً، محتمياً بكوني »أجنبياً«، وبأن النظام لا يريد أن يوسع دائرة العداء ضده إلى لبنان، وإلى دار الصياد وعميدها الراحل سعيد فريحة الذي كان المصريون عموماً يعتبرونه واحداً من كتّابهم،
وهكذا كان،
وظل السر مكتوماً، إلا عن أوساط ضيقة، حتى اغتيل السادات وطُويت معه صفحة سوداء من تاريخ مصر والعرب.
وظلت كلمة السر بيني وبين غالي شكري كلما التقينا: ازاي عمنا الحكيم؟!
رحم الله غالي شكري: لقد مات وهو مستمر في بحثه عن يقين، وهرّب عرائض كثيرة، وكتب عرائض لا حصر لها، لكن أحداً لم يسمع منه كلمته النهائية وقراره الأخير!
تهويمات
} لا تغفر المرأة أن تفاضل بينها وبين أخرى.
إنها تريدك أن تشعرها وأن تتصرف فعلا وكأنها كل النساء، في حين تخضعك لامتحان مفتوح ازاء كل رجل تلتقيه أو تقرأ أو تسمع عنه.
} قالت وهي تغمز بعينها: أما زلت تفكر فيها؟
دارى حرجه باستفسار لم تقبله فمضت تستفزه أكثر: وهل نسيت اسمها أيضا؟! اما أنا فأذكر تفاصيل التفاصيل عن رحلة العمر تلك.
حاول الخروج من دائرة الحصار فامتدح تسريحتها وثوبها فلوت عنقها ومطت شفتيها وكأنها تقول: إلعب غيرها! أما حين تغزل بعينيها فقد التفتت إليه، ثم أشهدت عليه الحضور وهي تردد: أعرف انك تريد تغيير الموضوع، لكن حيلتك ناجحة، فلم تخلق أنثى لا يغرها الثناء… سأنساها الآن، لتبق في غيابها طالما انه يؤكد حضوري.
} قالت بنت السبعين: إهدأ أيها الشاب، حياتك أمامك فلا تهدرها بالتعجل، اشربها بعينيك، لا نعرف قيمتها إلا قرب النهاية..
قال: لماذا تتحدثين كعجوز؟!
قالت وهي تسوي شعرها: ليس كعجوز يا أحمق بل كصاحبة تجربة عريضة.
} قالت لصديقتها: نسيت نظاراتي، هلا أعرتني نظارتيك لا تأمل صورته الجميلة؟
قالت صديقتها: تتفرج الصورة على الصورة من أين يجيء وضوح الرؤية؟! من أين سيعبر الفعل؟!
} كتبت إليه تقول: أخيرا توصلت الى قرار.. لقد استقلت منك. كان عليَّ أن اختار بينك وبيني. سقط الوهم واكتشفت انني خارجك فباشرت التعرف الى ذاتي. تعبت منك. كنت أنظرك فإذا عيناك من زجاج، ولم أرَ نفسي مرة فيهما. اليوم أعرف انك لست الحب.. وها أنا ذاهبة إلى شبابي.
وجاءها الرد بسيطا: قبلت الاستقالة!
أما التوقيع فكلمة واحدة »الحب«.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
قد يتحكّم الزمن في كثير من وجوه حياتنا، لكن الحب يصنع زمنه الخاص، لا يومه اليوم ولا ساعته الساعة، ولا شمسه الشمس أما قمره فمن شفاف القلب وضياء العين. للحب وحدة قياس مختلفة تماماً. يغيب حبيبك فلا يغيب. وحين يحضر تصير محاصراً بينه في داخلك وبينه أمامك، وينفتح زمانك بغير حدود. مع الحب لا غياب. يسكن المحب بؤبؤ العين فترى الدنيا عبره، ويعطيها المعنى. ما أحلى أن تصير أنتَ المعنى.
ش