الكتاب: هوامش في الثقافة والأدب.. والحب
الكاتب: طلال سلمان
الناشر: دار الفارابي، بيروت 2001
»هنا محاولة للكتابة بالأخضر حتى لا يطمس السواد كل شيء« من عبارة وردت في كلمة الاهداء حين قدم لي طلال سلمان كتابه الأخير: »هوامش في الثقافة والأدب والحب«. وهي مجموعة مقالات وخواطر نشرها في »السفير« الثقافي على مدى خمس سنوات.
عبارة أوحت لي ان رئيس تحرير »السفير« أراد ان يفهمنا نحن قراءه، ان هذا اللون من الكتابة، هو اللون الذي يرتاح اليه ويفضّله، الا ان اهتماماته السياسية وما اكثرها وهو صحافي عتيق أصابته لوثة العروبة والحرية والديموقراطية فرضت عليه ان يكتب، وعلى عقود من الزمن، بلغة مختلفة، لغة يطغى عليها السواد حينا والقلق والتجهم حينا آخر. وما حيلته اذا كانت الايام التي عاشها ويعيشها سوداء، والاحداث سوداء، وكل ما أحاط ويحيط بلبنان والوطن العربي، لا يدعو كثيرا الى التفاؤل والابتهاج، بل على العكس، فهو ينذر بالخوف والحذر وعدم الاطمئنان للمستقبل.
منذ اكثر من ثلث قرن وطلال سلمان، يعيش في هذا المناخ الضاغط، يكتب، يناقش، يحاور، ويطرح الاسئلة، يحضر المؤتمرات والقمم يقابل الملوك والرؤساء، والسلاطين، عربا وغير عرب، يتحدث عن انجازاتهم »العظيمة الباهرة« ولم يتورع في الحديث عن اخطائهم وارتكاباتهم بحق شعوبهم. رفض ان يكون مرتهنا لأحد منهم، وبسبب هذا الرفض دفع الثمن باهظا بضع رصاصات غادرة كادت تودي بحياته.
وظل يكتب، ويغضب دفاعا عن ثوابت ما تخلّى عنها يوما وهي: الحرية والديموقراطية، وفلسطين والمقاومة والعروبة وما تبقّى منها في زمن السقوط والعولمة والتخلف والجهل والذل والقهر..
كتب عن الحرية التي سوف تنتصر لأن لبنان يفقد معناه ومبرّر وجوده من دون حرية.
كتب عن بيروت المحاصرة، بيروت الأميرة كما يحلو له ان يسميها بيروت التي تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء.
وكتب عن بغداد التي قصفت من الجو والبر والبحر، وارتفع صوته هادرا: الى جهنم السبب والمسبّب، الذريعة والمستفيد فلحمي هذا يؤكل، ودمي هذا الذي يُسفح، وعراقي هذا الذي يُضرب!..«.
بهذا الاسلوب المتوتر المشدود كتب عن القدس والجزائر وعمان وسائر العواصم العربية، وهو أسلوب بدا فيه طلال سلمان، وكأنه يكتب بحد السكين، وليس بالقلم. وحين شعر بعد طول معاناة »ان لغته المحاصرة والمحصورة في حدود الصراعات، والاشكالات، ومآثر الزعامات والقيادات تفتقد رونقها وتتقزّم وتتخشب، حتى ليكاد ان قاموسه اليومي لا يتجاوز بضع عشرات من الكلمات«. راح يلجأ الى السخرية حينا لينفّس حالة الاحتقان التي يعيشها، والسخرية على ما يقول عمر فاخوري ونعم الوسيلة هي في مقدورك ان تقول ما تشاء ولأي كان فتذمه أقذع ذم وتشتمه أقبح شتم ولكن شريطة ان تضحكه، فان أنت أضحكته جردته من سلاحه. وحينا آخر كان يلجأ الى »تهريب بعض الكلمات ذات العبق على حد تعبيره في المقالات السياسية« وتحوّلت عملية »التهريب« بعد فترة الى زاوية شرعية لها اسم وهوية، ومعجبون كثر يتتبعونها من اسبوع الى اسبوع، وتحول طلال سلمان معها الى مدمن على كتابتها لا يغيب عنها الا في الحالات الاضطرارية. يكتب فيها بفرح ومحبة لا تقيّده شروط كتابة الافتتاحية اليومية في »السفير« وطقوسها وآدابها ومضمونها. أحسّ بالحرية في اختيار الموضوع الذي يريد، يتنقل من فكرة الى فكرة كما العصفور يتنقل من شجرة الى شجرة، ومن غصن الى غصن.
أنت مشبوه حتى يثبت العكس
كتب عن الشعر والنثر، وعن اي عمل فني ناجح، رسما كان أم نحتا، موسيقى ام لحنا، غناء ام رقصا ام جمالا في الطبيعة والانسان.
كتب عن وجوه أحبها وأحبته: ابراهيم مرزوق، سعدالله ونوس، فارس فارس (غسان كنفاني) ابراهيم بيضون، ابراهيم عامر، إدوار سعيد، الحكواتي حسن داود، أحمد بهاء الدين، بلند الحيدري، الصادق النيهوم، محمود درويش، علي حليحل، أدونيس، فواز طرابلسي (فتى مشغرة) عادل اسماعيل، ليلى عسيران، زهير عسيران، منح الصلح، جوزف حرب والديناصور كلوفيس مقصود، وسواهم كثر.. كتب عن مشاهداته وذكرياته الحبيبة والأليمة في آن معا.
كتب عن السياسة والديموقراطية، وكيف تمارس كل منهما خارج الوطن من اجل خدمة الانسان، اما في بلادنا فالانسان يبقى »مجرد أداة او مطية او وقود لأغراض السياسيين الذين يفعلون تماما عكس ما يريده، ويدمّرون اي احتمال لتجاوز الواقع الذي يصطفون من بؤسه مجد زعامتهم«.
انت في وطنك يقول طلال لست بإنسان، وانسانيتك غير معترف بها. ويضيف: انت لا تعيش حالة طبيعية لا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في الثقافة ولا في الفن.
لقد آلمه وقد انوجد صدفة في احد مطارات أوروبا ان يرى الناس »يدخلون ويخرجون كما يشاءون، لا تأشيرة ولا جواز سفر ولا ختم دخول، لكأنهم ركاب اوتوبيس يتابع حركته العادية بين خطين في مدينة واحدة.
آلمه ان يرى الاوروبي، »يتحرك في قارته الواسعة وكأنه ينتقل بين غرفتين في بيته، تماما كالاميركي الذي تمتد بلاده الفتية باتساع قارة«.
وآلمه اكثر ان يرى هذا الاوروبي مشى الى وحدته في المصالح فارضا على انظمته هذا الامتحان، فمن وافق بقي واستمرّ، ومن اعترض اسقطته الانتخابات والاستفتاءات.
وهنا بيت القصيد: الانتخابات والاستفتاءات »بأوراق صغيرة يقول طلال سلمان وضعها أصحابها من الرجال والنساء في صناديق صغيرة، في كل مرة طُرح فيها تفصيل من تفصيلات الوحدة الاوروبية صنعت هذه الدنيا الجديدة التي لا حدود فيها ولا قيود على حركة اهلها في سعيها الى غد أفضل. الاستفتاء وبعده الانتخاب والانتخاب وبعده الاستفتاء. ويضيف: لم يُقرّ أمر من فوق رؤوس الناس او في غيابهم.
»بقيت الأعلام والأناشيد الوطنية، بقي الملوك بتيجانهم، وبقي الرؤساء المنتخبون، وبقيت المجالس النيابية المنتخبة والحكومات الآتية باسم الاكثرية وبنتيجة التصويت.
»يا للمعجزات القادرة على اصطناعها تلك الأوراق الصغيرة الموضوعة في صناديق صغيرة بها ثقب صغير في اعلاها«.
} كل هذا يجري في أوروبا والانسان العربي لم يستحق بعد رتبة »مواطن« وأكثر من ذلك فهو مضطهد يقول طلال سلمان .
} في الخارج يتمّ اضطهادك لسمرة بشرتك مرة، ولاسمك مرة، ولدينك مرة، وبسبب حماقة حاكمك مرارا…
} أما في الداخل فتضطهد بسبب من اسمك وطائفتك ومنطقتك قبل ان نصل الى أفكارك.
} كأنما لا مكان لك في وطنك ولا في الخارج.
} أنت مشبوه حتى يثبت العكس، ومهمّش وملغى تماما. والأمان في ان تكون بلا رأي. فان كان لك رأي ألغاك..
وكتب في الثقافة والمثقفين، واين يقف المثقف العربي الذي »نظر الى نفسه على أنه فئة ممتازة، وانه في أعلى علّيين، ولا يجوز ان ينزل الى مستوى المواطن العادي«. ان مثل هذا المثقف يقول طلال سلمان هو صورة طبق الاصل عن الحاكم الطاغية، انه يحتقر الجماهير ولا يعطيها حق المناقشة او الاعتراض، ويحاول ان يفرض عليها ما يراه، وربما ما يقتبسه عن »الآخرين« من المتقدمين.
وكتب في الوجدانيات، كتب »قصائد حب في العيون التي تحولت الى بحيرات من الحنين واللهفة والتشوق الى لحظة فرح مشتهاة..«.
نسمة
كتب رسائل من زمن الصمت. رسائل بلا عنوان: »لم تدخل حقيبة الساعي ولم نتلهف الى استلامها يد راعشة وبقيت في الريح تطير معها الى حيث تستقر الريح.«..
»انت وراء الظن، وأنا أمام اليقين، وبيننا بحر من علامات الاستفهام، تنام ونحن نتخطاها ولكنها تتوالد كلما غفلنا عنها، ولا تندثر في مغالق الاجوبة المبهمة«.
وكتب في الحب مخترعا شخصية »نسمة« الذي لا يُعرف له مهنة غير الحب. وشخصية »نسمة« خرجت عن كونها فكرة لمعت في ذهن صاحبها يوما، ثم انطفأت، بل صارت كائنا حيا مستقلا له حضوره الدائم، له عواطف وهواجس، وأحاسيس يتألم ويفرح كأي شخص هذا المخلوق الجديد يطل علينا كل اسبوع يروي لنا معاناته، يحدثنا عن تجربته وخبرته في هذا المجال، ولأنه صار خبيرا ومجربا صارت أقوال نحفظها عن ظهر قلب كقوله:
»ليس للحب عمر، كاذب من يحدد للحب مواعيد. وكاذب من يحدد للحب مواصفات. من قال ان حب الكهل مراهقة متأخرة وان حب الفتى شبق مبكر. ليس الحب أمرا طارئا. وليس علبة هدايا نشتريها جاهزة من الدكان. يجيء الحب لينقذ من جفاف. يجيء الحب ليبقيك انسانا. انظر حولك، فكل من وجدته ناقص الانسانية، بحاجة ملحة الى الحب قبل ان يستحيل وحشا او جمادا.
وكقوله: ليس لي منك الا صوتك. بعض صوتك. يصلني من البعيد متقطعا محموما لكأنك تهمس به من خلف عنقي المحترق بأنفاسك. ينسرب الصوت داخل شراييني، يتغلغل في مسامي كالنعاس. أحس انني امتلأت به، ينفخ صدري بالزهو، يربت على قلبي حانيا ويسقي ياسمينته يمتد خدرا في يدي فتعجز عن الارتفاع الى خدي، ويشعل حريقا في شعري، وأخاف ان اطفئه فيذهب به الدخان.
وكقوله: قرأت في رسائل »نسمة« شعرا جميلا ولكن »نسمة« يخاف على كلماته من العيون المتطفلة. تصرّف وكأنه يخاف على سرّه الحميم ان يصير مشاعا وموضوع تندر، وبدا لي أنه يخاف من كلماته حين تتكامل مقتربة من ان تقدم قصة حية او بعض فصولها.
ما قاله »نسمة« على مدى خمس سنوات من يوم ولدت »هوامش« هو شعر جميل حقا. وليس بالضرورة ان يكون الشعر موزونا ومقفى على طريقة الخليل بن احمد. أولم يقل شوقي أمير الشعراء:
والشعر ان لم يكن ذكرى وعاطفة
وحكمة فهو تقطيع وأوزان
يوسف صقر
السفير، 2862001