قال محمود درويش: لم اشأ ان اغادر من دون ان أودعك… لقد حسمت أمري وقررت ان أواجه الموت، مرة اخرى…
نضح القلق في صوتي وأنا احاول فتح باب النقاش مجدداً: ولكن الأطباء في بيروت قد نصحوك
ـ أعرف، وكذلك الأطباء في فرنسا… لكنها معركتي!
قلت: هذه معركة غير متكافئة.
ـ أعرف، وأعرف أيضا أنه لا بد منها. لم أعد أطيق مواصلة هذا التحدي. لقد سئمت ان أعيش في قلب موتي. أتعرف، من الممتع أن تنازل الموت، ولكنك في لحظة ما ستكتشف ان لعبتك مفضوحة. ان تعرف انه يعرف انك تعرف النتيجة، وأنك تعابثه.
ـ ولكنك يا محمود لست فرداً لتقرر وحيداً ما يشترك معك الناس فيه…
قاطعني: اعرف ما سوف تقوله، لست ملك نفسك، وليس لك ان تقرر. تصور: أنا ملكية عامة! في كل تصرفاتي عليّ الا اكون أنا.
انتبه! يجب الا تقبل وردة من تلك الحسناء. انتبه! أنت تمثل القضية فلا يجوز ان تضحك بصوت عال! ويجب ان يكون كلامك مدروساً. لقد بلغ الامر ببعض الناس ان استنكروا ذهابي الى مدينتي، بحجة انها صارت تحت الحكم الاسرائيلي! ونسوا انني حتى حينما اكون في رام الله فأنا تحت الحكم الاسرائيلي! لن اتحدث عن الدول الاخرى… ثم انني عشت نصف عمري تحت هذا الاحتلال، وأنا اكثر من يعرفه بينكم جميعا، حتى لا اقول انني احد القلائل الذين يعرفونه حقا.
ـ بل أردت أن أحدثك عنك بوصفك ملكية خاصة لمحمود درويش… لقد حذرك الأطباء من ان اي جراحة قد تحرك الوحش الكامن في شرايينك!
قاطعني ضاحكا: حتى الكولسترول عند محمود درويش مختلف
ـ انه مثلك، جبار! ألست جباراً علينا جميعا
ـ ولكنه جبار عليّ فقط! انه يفرض عليّ التحدي بين ان اعيش أسيره ما تبقى من عمري وبين ان أهزمه ولو بالموت.
ـ كأنك تتحدث عن الانتصارات العربية التي يقدم فيها هدايا مجانية الى اسرائيل.
وختم محمود درويش مكالمته الوداعية بأن قال انه لن يبتعد عن مكانه لانه منذ زمن طويل بات يعيش خارج المكان والزمان لان شعره صاره…
***
ذكريات شخصية عن الزمن الأول
التقيت محمود درويش، لأول مرة، على هامش اجتماع استثنائي للمجلس الوطني الفلسطيني عقد في مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة، في صيف 1972.
كان قد وصل لتوه من الأرض المحتلة، كما كنا نسمي إسرائيل حينذاك، وقد حسم أمره: لن يعود ليعيش محاصراً ومراقباً، نصف أوقاته في السجن ونصفها الآخر في الطريق بين مكاتب جريدة «الاتحاد» وبين مركز الشرطة الإسرائيلية للابلاغ عن «وجوده» حاضراً…
كان «النجم» بلا منازع. لقد تدافع الكل إليه يحيونه بالقبلات والدموع، يرمونه بألف سؤال في الدقيقة، يقفون إلى جانبه لصورة تذكارية، يشكون إليه هموم واقعهم «العربي» بمرارة تكاد تفوق مرارته من واقع أهله تحت الاحتلال من الإسرائيلي، وهي كانت السبب في اتخاذه قراره الصعب بالخروج من السجن… يحاولون ان يعرفوا موقفه من ياسر عرفات ومن التنظيمات الفلسطينية «المعارضة»، من أنور السادات ونظامه وهل هو «ناصري» فعلاً أم «خرج» لأنه تغير…
لكنه، في تلك اللحظات تحديداً، لم يكن مستعداً لمثل هذه المقارنات التي كانت ستنتهي، حكماً، بإدانة قراره بالخروج… إلى الحرية، التي اكتشف ان كل عربي تقريباً يبحث عنها في الاقطار الأخرى، وخارج وطنه في أي حال…
وقفت ارقب، عن بعد، مع صديقين، مصري وفلسطيني، تلك التظاهرة المختلفة بموضوعها وأسئلتها والتداعيات عن كل ما شهدناه قبلها…
في لحظة ما، انتبه لوقوفنا بعيداً، فمشى إلينا يتقدمه سؤاله الضاحك: صرت فرجة! أليس ذلك!تعارفنا. وضع أسماءنا التي يعرفها على الوجوه التي لم يكن يعرفها، وتواعدنا على لقاء خارج دائرة المتفرجين أو الآتين لاستعراض المواقف.
بعد أيام التقينا. كان قد أنهى الجولة الأولى من التعرف على «الكبار»، فلسطينياً ومصرياً وبعض الضيوف العرب المدعوين كشهود. وسمعنا منه انطباعاته الأولية عن كبار المثقفين والصحافيين الذين التقاهم، خصوصاً في «الأهرام» وفي دار الهلال. وشكا من ان معظمهم قد رحب به، وان شفع الترحيب بشيء من اللوم لخروجه: كنت أملاً في الداخل، ليس لأهل الداخل فحسب، بل لنا أيضاً…
وكان يرد مستغرباً: ولكنني خرجت لأكسر الدائرة المقفلة التي يسجنني فيها الإسرائيلي. جئت طلباً للأمل لي، وللذين في الداخل…
لويس عوض كان الأكثر تحديداً، قال: لقد جئنا في أيام الشقاء، يا محمود…
كانت مصر تموج بالغضب بسبب الإرجاء المتكرر وغير المبرر لقرار الخروج إلى الحرب. كانت حرب الاستنزاف قد أعادت إلى المصريين الثقة بقدرتهم على مواجهة إسرائيل، بل وعلى إلحاق الهزيمة بها. وكانوا يرون ان السادات قدم معركته الشخصية لترسيخ سلطته ضد «الناصريين» أو قل ضد «وطنيي النظام» على المعركة ضد العدو الإسرائيلي… تاركاً زهرة شباب مصر، من المهندسين والأطباء والمرشحين ليكونوا علماء، فضلاً عن الكتاب والشعراء والصحافيين، يغرقون مع علمهم في رمال «الدشم» والمتاريس المحصنة… ولا قتال!
وقرر محمود درويش ان يسمع فلا يعلق، وان يتكلم إذا ما تكلم عن إسرائيل، مجتمعاً وأحزاباً وقادة سياسيين وتنظيمات، وعن جيشها بحدود ما يعرف عنه… وبطبيعة الحال عن «الفلسطينيين» فيها التي انكرت عليهم «فلسطينيتهم» وجعلتهم «عرب إسرائيل»!
عرف محمود درويش الكثير عن مصر: من محمد حسنين هيكل ومجموعة «الخالدين» في الطابق السادس من «الأهرام»، توفيق الحكيم والحسين فوزي، وصلاح عبد الصبور ولويس عوض… واستمع إلى تحليل دقيق من أحمد بهاء الدين ومن مراد غالب ومن فتحي غانم ويوسف ادريس ومن أحمد عبد المعطي حجازي وكثير غيرهم…
كان مبهوراً بالقاهرة التي أحب، والتي يحفظ الكثير من أغاني مطربيها ومطرباتها الكبار، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، محمد عبد المطلب، عبد الحليم حافظ… لكن النيل، ليلاً، كان معبده!
جال مع الأصدقاء الجدد على المقاهي التي كان يحفظ أسماءها وأسماء زبائنها من الشعراء والكتاب غيباً: مقهى ريش، بار الانجلو، سيسيل بار… لكنه كان شديد الحساسية تجاه الغبار و«الشعبوية»، لذا فقد قرر ان تكون لقاءاته في بعض مقاهي الفنادق الكبرى «حيث تضمن، على الأقل، نظافة المكان»!
***
بعد القاهرة مباشرة كان لا بد من بيروت… وقد جاءها بغير اعلان، «لأنها مدينة مخيفة»، ولأنه يحتاج الوقت لكي يختار أين يقيم كإنسان، فلا يعامله الناس كنجم، يبادرونه في ربع الساعة الأولى طالبين منه ان يسمعهم قصيدته التي انتفى موضوعها: «سجّل أنا عربي»!
كان يحاول إقناعهم: أهمية هذه القصيدة ان تقال في وجه العدو الذي ينكر عليك عروبتك! أما ان تقولها للعرب المتباهين بعروبتهم فانها تبدو مبتذلة وفي غير موقعها! بوسع كل منكم ان يقول: سجل أنا عربي… فلا يكون لكلامه أي معنى. أما المعنى هناك، وفي وجه جندي الاحتلال.
بعد سنوات قليلة، يزورني محمود درويش في «السفير» ليبلغني انه ذاهب إلى الجزائر بدعوة رسمية. قلت بغير قصد الاحراج: ستجد نفسك تنشد أول ما تنشد القصيدة التي بت الآن تكرهها… سجّل أنا عربي! ورد مستنكراً: فشرت! لن أقولها خارج فلسطين أبداً!. لكنه جاءني مسرعاً بعد عودته من الجزائر ليقول: معك حق!. وجدت نفسي أبدأ بقصيدتي التي لم تعد تعجبني، سجّل أنا عربي، وأختم بها!. هناك اكتشفت لها المعنى! لقد قُهر الجزائريون في لغتهم باعتبارها بعض قوميتهم! ان لها هناك معنى التحدي للاستعمار الذي حرم أهل البلاد من لغتهم ليلغي هويتهم، وكانت تلك خطوة تمهيدية لمسح عروبتهم وجعلهم… فرنسيين»!
***
لبيروت حديثها الاستثنائي مع محمود درويش، فهو قد وجد فيها ما كان يبحث عنه: العرب جميعاً والعالم كله، بشرقه وغربه وجنوبه وشماله… والأهم، انه وجد فيها فلسطين بوجوهها الكثيرة، المأساة والثورة، اللجوء وخطر الذوبان، الايمان والتشوه، المال والسلاح وبينهما الدول، ثم المنظمات والرجال والدول… كل الدول بمساوماتها ومناوراتها التي تطل من خلالها ملامح إسرائيل والمشروع الذي يوحدها مع «الغرب» من دون ان يفقدها الشرق السوفياتي، آنذاك…
لم يجد محمود درويش لنفسه موقعاً في صفوف «الثورة»، ففضل ان يبقى على مسافة: يعطي المنظمة ما يقدر عليه، من دون ان يدخل اطارها السياسي والتنظيمي. ومع انه أحب شخص ياسر عرفات وقدر فيه مزايا كثيرة، أهمها الصمود وسط أمواج الأنظمة المتلاطمة على جدران سفينية المنظمة. كان يرى فيه «الرمز الفلسطيني»، من دون ان يتجاهل اخطاءه بل وخطاياه أحياناً…
وعندما نجحت منظمة التحرير في انتزاع الاعتراف الدولي بها وتقرر ان يذهب ياسر عرفات ليخطب أمام الهيئة العامة للأمم المتحدة كان من الطبيعي ان يكتب محمود درويش بالذات هذا الخطاب التاريخي، مع وعيه بأن عرفات سيدخل بعض التعديلات لأسباب يقدرها، وانه سيتعثر باللغة خلال إلقائه… وانه سيرفق الكلمات بحركات واشارات قد تذهب بمعناها: جئتكم أحمل البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، فقرروا، أما قراري ففلسطين مع السلام.
***
أما دمشق فعلاقة محمود درويش بها استثنائية، كما علاقتها به… انها قصة عشق حقيقي، بعيداً عن السياسة، قريباً من فلسطين، والتاريخ ومجد الصعود، شعراً وأدباً، ونجاحاً سياسياً…
أذكر انه طلب مني ذات ليل من أواخر أيلول أن آخذه إلى دمشق، وألح كعادته ان ننطلق فوراً، والوقت منتصف الليل… وصدعت لأمره، طبعاً، فقصدنا دمشق التي لم تكن قد قامت فيها الفنادق الحديثة، وكان مدخلها هو النهر الذي عشقه محمود من قبل ان يراه! بردى.
عند الحدود مررنا بما كان يسمى «الضابطة الفدائية» ـ وكانت خاصة بالفلسطينيين بعد اعتراف لبنان بحق الفدائيين في استخدام أرضه للعبور إلى فلسطين المحتلة، وهي، الجار والمدخل وحاملة هموم التهجير.
استقبلنا شاب في أوائل العشرين، أسمر بعينين كحيلتين، وملامح تقربه من الصورة المتخيلة للمقاوم، مقتحم الحدود، مواجه العدو بشجاعته الفائقة وسلاحه الخفيف. ولقد أخضع هذا الشاب النحيل محمود درويش لاستجواب قاس يمكن تلخيصه بسؤال كرره عليه مراراً: كيف تكون في الداخل وتخرج في حين اننا نموت من أجل ان ندخل إلى فلسطين؟!
لأول مرة، رأيت محمود درويش يخضع لاستجواب حاد، فيدافع عن نفسه بمعاذير متعددة، ويروي عبثية استمراره في مواجهة يومية مفتوحة وعبثية مع الشرطة الإسرائيلية: تعتقله ثم تطلقه لتعود فتعتقله، ثم تجبره على المرور بها مرتين في اليوم لإثبات «وجوده»… وكان ان اتخذ قراره بالخروج!
بلغنا دمشق حوالى الثالثة فجراً (عن طريقها القديم إلى بيروت). كان معرض دمشق الدولي على وشك ان يقفل أبوابه، ومجرى نهر بردى الذي أقيم عند ضفته الجنوبية شحيح المياه، وقد رميت فيه الصناديق وفضلات البضائع والمعروضات.
كان محمود متلهفاً لرؤية «بردى» الذي جرى في قصائد كبار الشعراء… مفترضاً ان نهر دمشق قريب من نيل القاهرة. ولقد فجع مع الصباح فقرر ان نعود فوراً إلى بيروت، بينما كان بعض الأصدقاء قد جاؤا للسلام عليه فأخذوه في جولة «سياحية» زادته اصراراً على العودة إلى بيروت فوراً: أعدني إلى الأمكنة النظيفة! هنا الغبار يغطي العيون فلا نرى!
على ان مفاجأة عظيمة كانت تنتظرنا حين عدنا إلى الفندق: وجدنا حشداً يتجاوز عديده الألفين، قد تجمع للسلام على محمود درويش، بعدما شاع خبر وجوده في عاصمة الأمويين وكان بين الجمع وزير الثقافة آنذاك، فوزي الكيالي، وكبار أدباء سوريا، الشعراء منهم وأهل المسرح والأدباء. وأبناء مخيم اليرموك… والكثير من الوزراء والأعيان، وكثير كثير من الشبان والشابات عشاق درويش.
ظل محمود على عناده… برغم ان كثيرين ممن تجمعوا قد صافحوه والدموع تغطي وجوههم!. بالكاد قبل دعوة الوزير إلى الغداء بصحبة نخبة من أدباء سوريا ثم عدنا إلى بيروت فعلاً…
لكنه بعد ذلك صار يغتنم كل مناسبة ليجيء إلى دمشق حيث اكتشف ان جمهوره يكاد يكون الأعظم اهتماماً بالشعر ولعله متميز في ذائقته الفنية، فكانت كل أمسية لمحمود درويش تقتضي ترتيبات أمنية استثنائية لحفظ النظام، بينما عشرات الآلاف يحتشدون في المكان أو من حوله لسماع فلسطين تتحدث عن ذاتها بلسانه… وقد اضطر المنظمون في غير حالة ان ينقلوا الأمسية إلى المدينة الرياضية، لإرضاء الجمهور العاشق شاعره… النرجسي!
نشرت في “السفير” 11 آب 2008