برغم المرارة التي نضح بها الخطاب اللبناني للرئيس السوري بشار الأسد في بعض مقاطعه التي أطلقها تنفيساً عن كربته من خارج النص، أمس، فإن الخطاب بمجمله يمكن أن يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية السورية التي تعرضت خلال الشهور الأخيرة لأعنف عملية تشويه كادت تصيبها في الصميم، فتحول الأخوة إلى حالة شبه عنصرية، وتحولت الروابط البديهية التي يستحيل فصمها إلى عدائية مطلقة تجاوزت السياسة (والمخابرات والعسكر) لتسمم العلاقات الإنسانية بين الشعبين الشقيقين.
ولقد اختار الرئيس السوري مدخلاً صحياً وصحيحاً في مراجعة هذه المرحلة الشوهاء في تاريخ العلاقات، تمثل في اعتماد النقد الذاتي للتجربة الطويلة والحافلة التي شهدت إنقاص العلاقات الطبيعية إلى »مميزة« كي تنتهي مهددة في استمرارها، مجرد استمرارها، خصوصاً حين نجح العديد من الخصوم التاريخيين والمستجدين إلى تصويرها وكأنها نوع من »الاستعمار« اللاغي للسيادة والاستقلال والمانع للديموقراطية.
إن الشجاعة في ممارسة النقد الذاتي تفتح الباب لتصحيح هذه العلاقات التي تضبط إيقاع الحياة في البلدين المتكاملين، والتي تعرضت في الفترة الأخيرة لكثير من التشوهات مما جعلها تسيء إلى سوريا والسوريين بقدر ما تسيء إلى لبنان واللبنانيين.
يكفي استذكار المشهد »الشعبي« في كل من بيروت ودمشق، لحظة إذاعة الخطاب، للتدليل على حجم الغلط: فلكأنما كانت التظاهرة هناك رداً على التظاهرة هنا، ولكأنما كان العلم السوري المرفوع في قلب دمشق يواجه العلم اللبناني المرفوع في قلب بيروت.
وبالتأكيد فإن هذا التشوّه في العلاقات اللبنانية السورية مسؤول عن جرائم خطيرة حصلت فأصابت نتائجها المدمرة البلدين، وأتاحت للقوى الأجنبية عموماً، أميركية وفرنسية فضلاً عن إسرائيل، أن تحتل مساحة واسعة في السياسة وصولاً إلى الشارع في لبنان.
على أن الرصاص الذي أصاب هذه العلاقات في الصميم إنما انطلق من مسرح جريمة الاغتيال التي أودت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري.
فالتشوّه في العلاقات الذي أصابها في مختلف مفاصلها، هو المسؤول، تحديداً، عن محاصرة سوريا كمتهم أوحد في هذه الجريمة التي نفترض أنها تستهدف مع لبنان سوريا والعرب جميعاً، خصوصاً مع تعذر الكشف عن »الحقيقة التي هي ضرورة سورية بمقدار ما هي ضرورة لبنانية«.
إن »الصدمة التي أحدثتها الفجيعة« قد أتاحت للقوى الدولية جميعاً، وفيها المعادي والطامع والعائد لاسترداد نفوذ ضاع وصاحب مشروع الهيمنة المطلقة على المنطقة، أن تستغل الغموض الذي أحاط بهذه الجريمة الفظيعة التي أصابت لبنان في قلبه، كي توجه الاتهام في اتجاه الاحتمال الأوحد: سوريا… وكان في ذلك استثمار ناجح للأخطاء المتراكمة في سجل العلاقات اللبنانية السورية.
إن المراجعة النقدية التي أجراها الرئيس بشار الأسد تفتح الباب لتصحيح جدي لهذه العلاقات بين قواعده العودة إلى ما هو طبيعي: بمعنى أن قوة سوريا في لبنان ليست رهناً بوجود جيشها فيه.. فالوطنية في لبنان ما زالت بخير، برغم كل ما لحقها من أذى، وما زال اللبنانيون بأكثريتهم الساحقة الماحقة وطنيين ومؤهلين للدفاع عن بلادهم وعن سوريا أيضاً، إذا دعت الحاجة.
وبديهي أن اللبنانيين عموماً يريدون، مثلما يريد الرئيس بشار الأسد: أن لا تكون هذه العلاقات رهينة مصالح البعض أو ضحية أغراض البعض، وأن لا يؤخذ السوريون ببعض ردود الأفعال التي صدرت إما عن عواطف جامحة (كما مع حالة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري) وإما عن استثمار دولي لحالة الاعتراض على الغلط التي تعاظمت في الفترة الأخيرة.
إن إنهاء عسكرة العلاقات اللبنانية السورية ضرورة حيوية للشعبين والدولتين، وكذلك إنهاء الحالة الشاذة التي كانت تصوّر بعض اللبنانيين وكأنهم وحدهم الحلفاء والأصدقاء في حين أن الآخرين خصوم.
إن الخطأ يبدأ حين يبدأ »التصنيف«. ولطالما أساء بعض »حلفاء« سوريا إليها، وأكثر بكثير مما يمكن أن يسيء من صنفوا خصوماً!
إن خطاب الرئيس بشار الأسد يفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات اللبنانية السورية، هذا مؤكد.
والتنفيذ الكامل لاتفاق الطائف يكشف مخاطر القرار الدولي 1559 بما هو »أمر عمليات« إسرائيلي أساساً، وأميركي غربي، بالتالي، ومعه مخاطر البند الآخر الملوّح بتوطين الفلسطينيين.
إن هذا الخطاب كان أكثر من ضرورة للتمهيد لإعادة إرساء العلاقات اللبنانية السورية على قواعد صلبة، قوامها إرادة الشعبين الشقيقين ومصالحهما المشتركة… ومتى استعادت هذه العلاقات سياقها الصحيح فلسوف يكون بديهياً أن تتبادل الدولتان الشقيقتان الدعم والمساندة في مواجهة المخططات الدولية التي تتهدد المنطقة برمتها، وسوريا ومعها لبنان، أو انطلاقاً من لبنان على وجه التحديد.
على أن الخلل في السلطة اللبنانية قد يؤخر إعادة بناء هذه العلاقات على قواعد سليمة… ولعل البداية تكون في إصلاح هذا الخلل للانطلاق في مسيرة التصحيح التي يعدنا بها الخطاب، وإن كنا نخاف عليها من المتضررين… من هذا الخطاب!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان