في تزامن لافت يتكثف الجهد العسكري للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجهد العسكري للاحتلال الأميركي في العراق لتدمير أي احتمال لقيام ما يمكن اعتباره »سلطة محلية« يمكن اعتبارها وعداً بالاستقلال ولو بعد حين.
فأما عملية أريحا فلا تحتاج إلى شروحات لدلالتها: لقد خرج الضامنان الأميركي والبريطاني تمهيداً لأن تجتاح قوات الاحتلال الإسرائيلي ما تبقى من رموز »السلطة الفلسطينية«، بدءاً بمبنى المقاطعة (السراي) وانتهاءً برجال الشرطة الذين اجبروا على خلع ملابسهم وتسليم أنفسهم عراة، مروراً بإعادة أسر المناضل أحمد سعدات ورفاقه الذين »سجنتهم« السلطة بضمانات أميركية وبريطانية حتى لا تطاردهم فتقتلهم سلطات الاحتلال أو »تحاكمهم« فتحكم عليهم بعشرات السنين حبساً، بحيث تضمن موتهم وهم أسرى، وتلحق بالفلسطينيين المزيد من الإذلال.
بالمقابل كان الاحتلال الإسرائيلي، معززاً بتأييد أميركي بريطاني (وبالتالي أوروبي مفتوح) يفرض على الفلسطينيين الذين انتخبوا »حماس« ديموقراطياً، خياراً بين أمرين احلاهما مهين: فإن هم مكنوا الفائزين بأصواتهم من تولي السلطة حوصرت من الداخل والخارج حتى سقوطها مثقلة بالاتهام بأنها ضيّعت على شعبها فرصة الإعانة الخارجية لجهده من أجل الاستقلال ولو بعد ألف عام، وإن هم استكانوا للضغط كانوا كمن يلغي نفسه ومن ثم جدارته بالاستقلال.
هل من الضروري الإشارة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي قد جرد السلطة الفلسطينية من مبررات وجودها، فقراراتها رهن إرادته، ثم إنه قد تجاوز كل الاتفاقات معها (التي عقدت برعاية دولية) فمد جدار الفصل العنصري وأقام المزيد من المستعمرات الاستيطانية فوق جثتها، واستلب ما كان تبقى في يدها من القدس، وكان يتقصد إظهار عجزها يومياً بالاجتياحات والاغتيالات المتواصلة وإقفال المعابر والحصار الذي بلغ واحدة من ذراه باغتيال الرئيس ياسر عرفات.
وكان الغياب العربي شبه المطلق يشجع الاحتلال الإسرائيلي ويعينه موضوعياً على إضعاف هذه السلطة التي ولدت أسيرة.
أما في العراق فها هي الثمار المرة للاحتلال الأميركي تمنع التوافق بين القوى السياسية المحلية، التي تم التعامل معها منذ اللحظة الأولى بطوائفها ومذاهبها وعناصرها القومية والاثنية، مما مهد لمناخ الفتنة كسلاح فعال في مواجهة المقاومة.
لقد حقق الاحتلال الأميركي نجاحاً مفجعاً في تمزيق وحدة شعب العراق… بالديموقراطية!
كم استفتاءً أجري، وكم عملية انتخابية تمت خلال السنوات الثلاث من عمر الاحتلال الأميركي؛ أليس العراقيون أبعد اليوم بعضهم عن بعض عما كانوا في أي يوم عبر تاريخهم الطويل؟ ألا يحرض الاحتلال طوائفهم وعناصرهم على »استقلال« كل منها عن الأخرى، سواء تحت شعار الفيدرالية التي تتحول تدريجاً إلى مسلسل من الفتن، أو تحت مطلب التقسيم وهو التعبير الملطلف للتفتيت بحيث »تستقل« كل عشيرة أو قبيلة بمنطقتها داخل المركب الطائفي المشغول باقتتاله الأهلي عن الاحتلال؟
.. وها هي الإدارة الأميركية تقفز من فوق »حربها« المعلنة تقريباً على إيران بذريعة سعيها إلى الطاقة النووية، لتذهب إلى التفاوض معها حول العراق وصيغة الحكم فيه، بعدما عجز احتلالها برغم كل التمويهات ذات الشكل الديموقراطي عن تشكيل حكومة جديدة وفقاً لنتائج الانتخابات الأخيرة؟
إنها تُسقط العراقيين من حسابها، تماماً.
كذلك فهي تُسقط العرب جميعاً، خصوصاً انها تعرف قصورهم وعجزهم عن المواجهة، وقد تجلى في تخليهم عن المبادرة التي باشرتها الجامعة العربية ثم اوقفها الخوف العربي الرسمي من نجاحها!
.. وتُسقط من حسابها أيضاً »دول الجوار« التي أعجزتها الضغوط الأميركية عن التحول إلى مؤسسة تساعد على ضرب الفتن ومشاريع التقسيم في العراق من باب الحرص على الذات وليس حباً بالعراقيين.
* * *
لمن نكتب هذا الكلام، بينما الاجتياح الإسرائيلي متواصل لتدمير »السلطة« في فلسطين وبينما الحملات العسكرية تتعاظم في العراق لتدمير احتمالات قيام »سلطة« تكون مركزية ثم تناقش أمر وطنيتها؟!
قبل التعاطف والتضامن والتكاتف وبعد هذه المشاعر جميعاً: نكتبه للبنانيين الذين كادت الخلافات حول البديهيات تأخذهم إلى الفتنة، لنقول ان التوافق الوطني هو الضمانة الأولى والاخطر للاستقلال والسيادة.
لا وطن ولا دولة ولا ديموقراطية في غياب الوحدة الوطنية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان