كان عرب الجاهلية يأكلون آلهتهم، أما عرب أواخر القرن العشرين فيلتهمون أحلامهم أو يمسخونها إلى كوابيس تدمّر الحاضر والمستقبل معù.
وهكذا فإن مشروع »الوطن العربي الكبير« يتحوّل تدريجيù على أيدي أنظمة عصر السقوط إلى أرخبيل من »المناطق الأمنية« التي تنبت كالفطر، في المشرق والمغرب، ومهمتها »حماية« العرب من أحلامهم، وحماية أعداء ذلك المشروع القومي الطموح وتأمين مشروعهم المضاد: »الشرق الأوسط الجديد«.
من شمال العراق إلى غرب الجزائر، ومن جنوب السودان إلى شمال فلسطين، ومن جنوب سوريا إلى شرق شبه الجزيرة العربية وخليجها، يتوالى »بزوغ« المناطق الأمنية بعضها لحماية الاحتلال الإسرائيلي، وبعضها الآخر لحماية المطامع التركية، ومجموعها لتأكيد الهيمنة الأميركية المطلقة والدائمة على هذه المنطقة الغنية بالحقائق والأساطير، بمصادر الثروة وبملايين الفقراء، بالمواقع الاستراتيجية الحاكمة وبالانهيارات النفسية المريعة.
إن »الدول« العربية، الكرتونية أصلاً، تتهاوى مخلية المسرح للقادر على ملء الفراغ، مخلفة وراءها تركة ثقيلة من المشكلات الاقتصادية والعرقية والدينية وكلها شهود إثبات على تخلّف العقل السياسي العربي، حاكمù ومحكومù، عن مواجهة التحديات ومستلزمات إقامة »الدولة« ثم حمايتها.
لم تكن دولاً حقيقية في أي يوم هذه الكيانات السياسية التي اصطنعتها مصالح الأجنبي، في الغالب الأعم، أو أنها »قنّنت« أو »أدلجت« مرتكزات الموروث من تقاليد صراعها العشائري والقبلي، الطائفي والمذهبي، العرقي والاجتماعي، فبات »الشيخ« رئيسù مفدى، و»سلطان« القرية أو »الجهة« ملكù ذا جلالة، والجندي المفروضة عليه الهزيمة في مواجهات لم يُعدّ لها ثائرù طامحù إلى تغيير كل شيء، بينما إمكاناته الشخصية لا تسمح له بفهم ما يجري من حوله فكيف بما يهزّ الكون من تحوّلات فكرية واكتشافات علمية وتطوّر في التكنولوجيا وتبدّل في قوانين الاقتصاد والقيم الاجتماعية؟!
ولأنها لم تكن دولاً بل مجرّد عروش من قش لعائلات حاكمة أو لفئات اجتماعية جديدة لما يكتمل تكوينها، يسهل جدù تجاهل »الشعب« وشطبه كعامل أساسي في إحداث التغيير أو في تقبّله وحمايته وتبنيه.
المهم النظام، لأن له وظيفته في حماية مصالح الآخرين.
يبقى صدام حسين، مثلاً، ويتم طحن الشعب العراقي في الداخل كما في حروب غير مبرّرة مع الخارج يتلازم فيها جنون العظمة مع السعي إلى الحصول على وكالة خاصة للمصالح الغربية، والأميركية تحديدù، في المنطقة.
وكثمن لبقاء صدام، وبعد شطب العراق، يمكن التصرف في الجزيرة والخليج بهدوء، استعدادù للقفز إلى إيران،
يفرض الغرب، بداية، »منطقة أمنية« في شمال العراق، مستغلاً سوء سمعة النظام والتمايز العرقي بين أكراد العراق وعربه، والذي لم يكن في أي يوم سببù للانفصال.
في الوقت نفسه ينفرد الغرب (الأميركي دائمù) بالجزيرة والخليج فيغرس فيها قواعده العسكرية، محوّلاً بحيرة النفط هناك إلى »منطقة آمنة« تمامù لا تسقط فيها شعرة إلا بإذنه،
على جبهة أخرى يتم الفصل الكامل بين الشعب الفلسطيني وأرضه، باستغلال شبق قيادة الماضي إلى السلطة، فيتم استخدام ياسر عرفات كغطاء لتمرير المشروع الجديد: تحويل غزة، وربما بعض الضفة الغربية مستقبلاً، إلى »منطقة أمنية«، إضافية تحمي القلعة الإسرائيلية وتمكّنها من استكمال هيمنتها على المنطقة، مفيدة من تفوقها العسكري ومن يدها الحرة تطال بها الجميع بينما لا أحد يطالها.
لكأن إسرائيل تحاول إحاطة نفسها بمجموعة من المناطق الآمنة: مصر المنزوعة السلاح في سيناء، وسلطة عرفات في بعض غزة والضفة، والشريط الحدودي في جنوب لبنان، ومستقبلاً منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا (إذا تمكّنت من إقامتها)، يسند »المنطقة الأمنية« التي تبرّع بها الملك في الأردن الذي تبلورت الآن المهمة التاريخية لكيانه المصطنع منذ إقامته قبل سبعين عامù تقريبù.
وفي الجزائر بدأ الحديث عن احتمالات تدخل عسكري أميركي فرنسي مشترك لاقامة »منطقة أمنية« حيث منابع النفط والغاز، مع ترك الجزائريين (حكومة عسكرية ومعارضة مسلحة) يقتتلون ويغرقون في بحار من دمائهم، فلا يفيقون إلا وقد ذهبت الثروة والدولة والشعب والإسلام والمسلمون جميعù فيعودون إلى أوضاع أسوأ من تلك التي كانوا فيها خلال دهر الاستعمار الاستيطاني الفرنسي!
.. وربما تقدمت القوات التركية الغازية من شمال العراق في اتجاه كركوك لوضع يدها على منابع النفط هناك، كاشفة بذلك الغرض الأصلي لمهمتها الإنسانية النبيلة التي تنفذها الآن في »تحضير الأكراد« مقابل أن تتقدم القوات الأميركية لتقيم منطقتها الأمنية من حول منابع النفط في جنوب العراق ووسطه، وباختصار حيثما وُجد!
أما ليبيا فقد جعلها الحصار الأميركي »منطقة أمنية«، إذ عُزلت وسط حملة تشهير منهجية بشعبها تصوره بكليته وكأنها مجاميع من قتلة ركاب الطائرات المسالمين، وبالتالي فهو مطلوب للعدالة جميعù، بشيوخه ونسائه وأطفاله.
* * *
مناطق أمنية في كل مكان، ولا دول، ولا عروبة في أي مكان.
مناطق أمنية للولايات المتحدة حيث الثروات،
ومناطق أمنية لإسرائيل، لكي توطّد بهدوء أركان مشروعها الجديد »الشرق الأوسط الجديد«، مفترضة أن لها حق التقاسم مع حلفائها الأميركيين،
ومناطق أمنية لتركيا، التي أعلنت بقوة مدافعها وصواريخها أنها شريك ثالث أساسي، وأن لها »الحق« في تقاسم أراض كانت بمجملها بين »أملاكها« السلطانية في الماضي القريب!
* * *
لا فرق بين النظام العالمي الجديد وبين الاستعمار القديم إلا بالتقدم التكنولوجي، لا سيما في مجال الدعايات والاعلام، أي فن الكذب على الشعوب المتخلّفة والمقهورة في ظل أنظمة حكم دكتاتورية.
القواعد العسكرية هي القواعد العسكرية،
وجيوش الاحتلال هي جيوش الاحتلال،
والهيمنة الاقتصادية وتسخير موارد البلاد المخضعة للانتداب الجديد هي الهيمنة الاقتصادية ذاتها، وإن تطورّت أساليبها وتقنياتها مجاراة للعصر.
على أن اللافت الآن هي الحملة الأميركية الموجهة إلى عرب الجزيرة والخليج والتي تركز على الخطر الداهم عليها من جاريهما الطامعين لا تتأثر مطلقا بهدير الدبابات والطائرات الحربية التركية ولا بدوي المدافع وتفجّر الصواريخ التركية وكله يهز أرجاء المنطقة جميعù ويزلزلها زلزلة!
كأنما تندرج »النزهة الحربية« التركية في العراق ضمن الخطة الأميركية إياها،
فمن حق تركيا أن تحلّ مشكلاتها الداخلية، وعجز نظامها عن مواجهة احتياجات شعبه بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعرقية، بتدمير المدن والقرى الجبلية الفقيرة في شمالي العراق،
إن تركيا تمشي على خطى »السيد«،
القتل تركي والخطر إيراني،
التدمير تركي والبعبع عراقي،
وبطل الاجتياح التركي شريك لمن يلعَّب دور البعبع في بغداد، وكلاهما يعملان بالتكافل والتضامن لحساب السيد الأميركي،
العراق يُقتل مرتين، بيد حاكمه مرة، وبيد »جاره« المستقوي بقبوله أخيرù في النادي الغربي، ولو بدرجة »ملتحق«، مرة ثانية،
وأنحاء الجزيرة والخليج »تعود« إلى »أفياء« الاستعمار المباشر من جديد، وتغرس فيها القواعد العسكرية الأميركية لتضمن الفصل المطلق بين ثروات الأرض الغنية وأبناء هذه الأرض التعساء.
ثم يكون الحديث المدوي عن خطر الجارين الكبيرين، إيران والعراق، على الدول الصغيرة في الخليج،
… والإيرانيون كما العراقيون يتعبون للحصول على ما يسد الرمق!
وفي هذا الجو تقوم »المناطق الأمنية« بديلاً عن دول الماضي التي لم تثبت جدارتها بالمستقبل!
المهم الآن هو التنافس على »رئاسات« هذه المناطق الأمنية المنيعة!
للمناسبة: ألم يكن الاسم القديم للمناطق الأمنية المستعمرات أو المحميات؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان