هل يمكن التوجه بخطاب مباشر إلى رئيس اللجنة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، القاضي الألماني السيد ديتليف ميليس، من دون أن يطالنا الاتهام بالتدخل أو بالتشويش أو بمحاولة التأثير على هذه المهمة؟!
… علماً بأن سبب التوجه بهذا الخطاب هو التنبيه إلى خطورة ما حفلت به الأيام القليلة الماضية من وقائع وتصريحات وتوضيحات وتكذيبات وحملات قاسية على كل مَن نقل حرفاً عن رغبة السيد ميليس، بل طلبه تمديد مهمته إلى مداها الأقصى كما حددها مجلس الأمن الدولي في قراره الرقم 1595، أي إلى الخامس عشر من شهر كانون الأول المقبل!
لقد سبق أن نُقل عن السيد ميليس ما مفاده »أن الاتهامات الموجهة إلى اللجنة بتسييس التحقيق هي حماقة«… وأن »ميليس ليس في وضعية تسمح له بأن يحول دون ذلك«.. و»مهمة السياسيين أن يتركونا نقوم بما يجب أن نقوم به، وإذا شعروا أن التحقيق مسيّس فمن واجبهم أن يحولوا دون ذلك«.
لكن معظم السياسيين في لبنان قد تفرغوا، وحتى من قبل أن يصل السيد ميليس، لتسييس مناخ التحقيق كاستثمار عظيم يدر مناصب خطيرة في الحال والاستقبال.. ثم أنهم ما انفكوا يملأون البلاد اتهامات وشائعات وروايات بعضها أغرب من الخيال، ينسبونها إلى »التحقيق« مباشرة أو مداورة، بل إن مدى »المعرفة الشخصية« بالسيد ميليس والأمانة في النقل عنه صار موضوع مزايدة ومناقصة علنية.
ولا يخطر في بال أي مواطن لبناني سليم أن يناقش السيد ميليس في صلب تحقيقه وما توصل إليه من وقائع، فضلاً عن حقه في طلب المهلة الإضافية حتى آخر يوم في القرار الدولي برغم أن السيد ميليس كان قد حدد موعداً يسبق ذلك التاريخ بحوالى الشهرين…
إن اللبنانيين بمجموعهم، وكذلك العرب في مختلف أقطارهم وفي سوريا، بالذات، يتعجلون إعلامهم بالحقيقة، متى اكتملت عناصرها، وهذا أمر مفهوم… فليس للبنانيين ما يتقدم في اهتماماتهم اليومية، بكل همومها الثقيلة، على الاطمئنان إلى أن التحقيق قد أوصلهم إلى اليقين في جريمة اغتيال شهيدهم الكبير، فأراحهم من الشكوك الثقيلة التي تكاد تخلخلهم نفسياً، وتؤثر على علاقات بعضهم بالبعض الآخر، فضلاً عن أنها سمّمت العلاقات بين لبنان وسوريا أي بين الدولتين اللتين كان يؤمل تكاملهما في »نموذج عربي متقدم«، بل وتجاوزت ذلك إلى تصديع العلاقات بين الشعبين وقد كادا يكونان تاريخياً شعباً واحداً.
وليست مبالغة أن يُقال إن مستقبل لبنان السياسي، بسلطته المركزية بمكوناتها جميعاً، قد عاد إلى حلبة النقاش مجدداً، في داخل الداخل، كما في الخارج الذي اخترق الداخل وبات »من أهل البيت«، يتعامل مع اللبنانيين من خارج دولتهم كطوائف ومذاهب وشيع وفرق من حق كل منها أن تمارس ديموقراطياً حقها في تحديد النظام الذي يلائم »طموحاتها«…
ولم يعد الحديث عن »كونفدرالية الطوائف« مؤامرة خارجية، بل وجد بعض دعاتها الجرأة لكي يطرحوها علناً، مستفيدين من مناخ ديموقراطية إعلان الأهداف المضمرة الذي تسببت في خلقه جريمة الاغتيال وتغييب كبير »الوحدويين«، ومن ثم المبادرات الأجنبية إلى استثماره في ما يفيد مصالحها.
بالطبع، ليست مسؤولية السيد ميليس كيفية استثمار السياسيين في لبنان لمهمته، خصوصاً أن هذا المناخ غير الصحي كان قائماً من قبل وإن كان قد تفاقم إلى حدود متفجرة بعد الجريمة المهولة التي هزت المنطقة بأكملها وعصفت بكثير من ثوابت اليقين في لبنان.
وليست مسؤولية السيد ميليس أين تقع هذه الجريمة من الصراع حول السلطة…
لكن من حق اللبنانيين، الذين ينظرون إلى السيد ميليس وكأنه معصوم عن الخطأ، أن يتساءلوا عن الفائدة من التصريحات التي أطلقها في صحف أجنبية فوجّه فيها اتهامات لأسماء معينة، ملقياً ظلالاً من الشكوك حول مواقع عليا في السلطة، بينما لم يكن بحاجة لمن يعرّفه إلى عمق الانقسام في السلطة التي تحولت منذ وقوع الجريمة إلى »انتقالية«، بعدما اهتزت ثقة اللبنانيين بها، وهي مهزوزة أصلاً… ولكن توجيه أصابع الاتهام باغتيال رئيس كبير كالحريري غير النظر بريبة إلى كفاءة السلطة وقدرتها على الإنجاز ومدى شعبيتها في بلادها.
ومن حق اللبنانيين أن يسائلوا السيد ميليس عن »الخطأ« الذي ارتكبه بإصدار البيان الشهير برفع السرية المصرفية عن حسابات »القادة الأمنيين الأربعة« المحتجزين على ذمة التحقيق، ومعهم مسؤولان أمنيان سوريان، وزميل صحافي، والأهم: اسم نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع (الحالي) الياس المر، ثم عن »تصحيح الخطأ« ببيان ثان صدر صبيحة اليوم التالي للوزير المر، الذي نتمنى له الشفاء من الجراح التي أصابته في محاولة اغتيال تعرض لها بتاريخ 12 تموز الماضي.
لا يمكن لأي لبناني أن يضع هذه الواقعة خارج السياسة، خصوصاً إذا تمّ النظر إليها من موقع الوزير المر في الحكومة، ومن واقع كونه صهراً لرئيس الجمهورية، ومن غموض مواقفه السياسية في الفترة السابقة على محاولة اغتياله، ثم من وضوح مبادرته إلى استثمار تبرئته اللاحقة لبيان اللجنة حول حساباته في توجيه اتهام مباشر إلى مسؤول أمني سوري بتهديده علناً وبحضور شهود.
لن نتوقف هنا أمام ما كتبه بعض الصحافيين الفرنسيين والألمان والأميركيين، كاستنتاج، على هامش مقابلات أجروها فعلاً، في بيروت أو باريس أو برلين أو نيويورك، مع السيد ميليس، مع أن أبسط بديهيات العمل الصحافي تفترض في مثل هذه المهمات أن »ينقل« المحرر عن صاحب المقابلة ما لا يستطيع أو لا يريد أن يسجل على لسانه.
ولقد كانت شجاعة من السيد ميليس أن »ينقل« عنه أو »عن مصادره« في الزميلة »الحياة« حول واقعة إيراد اسم الوزير المر في طلب رفع السرية عن حسابات بعض المشتبه بهم ما مفاده: »ببساطة، كان خطأ من المحقق ومن ميليس أيضاً لأنه وقع الطلب. لا نعرف كيف حصل ذلك، وهو قد اعتذر فوراً من الوزير المر، وكان مسروراً. الجيد أننا اكتشفنا الخطأ باكراً وصححناه. المؤسف حصول الخطأ، لكنه راض بعد الاعتذار«…
كذلك كان دليلاً عن حسن تفهم السيد ميليس للوضع الدقيق في لبنان إشارته المواربة إلى »أنه كان يجب أن نعرف الوضع السياسي الاجتماعي عندما وقعت جريمة الاغتيال« … تمهيداً لأن يختم بقوله: »هناك المزيد لتعلمه«.
أما ما استوقف اللبنانيين وأثار ريبتهم فهو »إنكار« السيد ميليس لأمر تلقيه أية معلومة من إسرائيل، خصوصاً أنهم عرفوا من بعض تصريحاته بل ومن بيان رسمي له، قبل أن يعرفوا من الصحف الإسرائيلية معلومات تفصيلية عن الأجهزة التي أمدته بما لديها من معلومات حول الجريمة، خصوصاً أنها تملك من وسائل الرصد بالصوت والصورة ما يمكنها من أن تتوصل إلى معلومات قد تكون جوهرية… خصوصاً أن لبنان أرض مفتوحة وسماء مفتوحة وحياة سياسية مفتوح أمامها!
وبالتالي فلم يطمئنهم أبداً أن ينقل عن مصادر ميليس ما مفاده: »كيف يمكن للولايات المتحدة أو إسرائيل أن تؤثر في التحقيق«؟!
نعود فنؤكد مجدداً أن طرح هذه التساؤلات لا يهدف إلى التشكيك بالسيد ميليس واللجنة الدولية وتحقيقها، بقدر ما يهدف إلى التنبيه مجدداً إلى خطورة الخطأ في التفسير أو في التحليل أو في الاستنتاج أو التسرع في إطلاق ما يمكن اعتباره اتهاماً لجهات سياسية أو لأشخاص سواء أكانوا سياسيين أم قادة أمنيين…
فجريمة اغتيال رفيق الحريري منعطف خطير في تاريخ لبنان: لقد مزق المناخ الذي استولدته أواصر الأخوة مع سوريا، وأدى إلى انقلاب سياسي خطير في الداخل لمّا يستكمل حلقاته وإن كانت وجهته باتت معلومة.
وبالتالي فإن »الحقيقة« قد تشكل خلاصاً أو قد تفتح أبواب الجحيم، عبر أزمة متفجرة مع سوريا، وأزمة في العلاقة بين الطوائف.
وليست مبالغة القول إن مصير بلدين عربيين يتوقف على هذا التقرير… بل لعل مصير المنطقة جميعاً، وهي أصلاً مثخنة بالجراح، فاقدة للمركز والقدرة على القرار، سوف يتأثر وأيما تأثير بما سوف ينتهي إليه هذا التقرير المفصل.
لا يهدف هذا الكلام إلى التشكيك، بل إلى التنبيه إلى خطورة عدم الدقة في التصريحات (لماذا التصريحات أصلاً؟)، أو الخضوع للضغوط التي تعكسها مواقف عملية وأقوال لكبار المسؤولين في الدولة العظمى أو في دول غربية أخرى.
إن خطورة المهمة المكلفة بها اللجنة الدولية للتحقيق تفرض عليها منتهى الدقة في التصرف والقول، وتوجب شرعية المتابعة والرقابة لأدائها فمصير بلاد وشعوبها يتعلق بمدى الأمانة في أدائها أو الإخلال بذلك الواجب.
إننا لا نقصد بأي حال محاسبة السيد ميليس، فليس لنا ولا نحن ندعي مثل هذا الحق، ولكننا نتوجه إليه أن يكون أكثر دقة وأكثر حذراً وأكثر أمانة في التعامل مع قضية متفجرة بطبيعتها، وأي خطأ في تناولها يؤدي إلى كارثة أعظم تدميراً من جريمة الاغتيال التي لا يقرها ضمير أو منطق أو مصلحة وطنية أو عربية.
إن رئيس الحكومة قد عبّر، مرة أخرى، عن اطمئنانه إلى سير التحقيقات، وإلى ثقته كل الثقة باستقلالية السيد ميليس ومهنيته وموضوعيته…
ومن البديهي أن اللبنانيين لا يرون في تمديد المهلة التي أعطاها مجلس الأمن للجنة التي شكلها وأوفدها إلى بيروت لتعود إليه ومن قبل إلى اللبنانيين بالحقيقة حول جريمة الاغتيال ما يمكن أن يؤاخذ عليه… ومن هنا فلم يروا في تصريحات وزير العدل ما يجافي الواقع ويستحق هذه الحملة القاسية، مع أن ما قاله لا يختلف كثيراً عما قاله رئيس حكومته، علناً.
لقد أتاحت الأقدار للسيد ميليس أن يقوم بمهمة سوف تدخل وتدخله التاريخ، أياً كانت نتائجها، التي لا تقاس بخطورتها مهمته في التحقيق بتفجير ذلك الملهى في برلين.
إن ما يصدر عن السيد ميليس يمكن أن يتسبّب في حرب، بل حروب، خصوصاً في هذه اللحظة التي تفتقد فيها منطقتنا جميعاً القيادة الجامعة صاحبة القرار القاطع المانع الذي يلتزم به الجميع.
ومع التمني للسيد ميليس بأن ينجز مهمته الصعبة والدقيقة بنجاح، فإن من الضروري لفته إلى ضرورة أن يكون أكثر كتماناً وأكثر دقة في انتظار إعلان »الحقيقة« أو ما يستطيع الوصول إليه منها… حرصاً على لبنان واللبنانيين وسمعة مجلس الأمن الدولي وعدالة القضاء الدولي بعدما تعذر الاعتماد على القضاء اللبناني، بل وعلى كل السلطة في لبنان من أجل الوصول إلى »الحقيقة« التي يمكن أن تكون نقطة ختام لعصر أو قد تكون نقطة بداية لعصر جديد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان