»إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع
»تركنا فوقها منسف أحلام..
»نحن أكملنا مدار العمر فرساناً، وقد متنا شباباً«!
… ولقد نهض ممدوح عدوان عن مائدة العمر فارساً، وترك فوقها إضافة إلى منسف الأحلام إنتاجاً غزيراً ومميزاً، من الشعر إلى المسرح والرواية، إلى الترجمات المختارة من روائع الأدب العالمي.
مع أول الليل اتصل محمد ملص ليقول لي إن ممدوح عدوان الذي يصارع منذ ثلاث سنوات أو يزيد مرض السرطان، متعب جداً، وإن اتصال بعض الأصدقاء به قد ينعشه. واتصلت بالكاتب الذي احترف القتال ضد الخطأ، والذي ظل يطلق ضحكته المجلجلة حتى وهو »يذوب«.. ولعلي كنت آخر من اتصل بهذا الذي لم يعرف كلمة الضجر، والذي ظلت عنده دائماً ضائقة في الوقت لأنه قادر ويريد أن ينتج أكثر، قلت ما رغبت في أن يسمعه، وقال ما استطاع أن يتلفظ به من كلمات مهشّمة بالإعياء. وبعد ساعتين لا أكثر أبلغت أنه قد نهض عن مائدة العمر.. فارساً!
لم يترك هذا المبدع الذي هبط على دمشق من مصياف يواكبه »موّال ديرماما« فناً من فنون الكتابة إلا وأعطى فيه فأضاف، ولم يترك مقهى من مقاهي المدينة التي سحرته إلا وعارك فيه بعض أصدقاء العمر منعاً للتمادي في خطأ شائع، أو تعبيراً عن الضيق بالحال السياسية السائدة.. ولقد »تركوني أتكلم حين وجدوا صوتي من رأسي«.
لقد »أقبل الزمن المستحيل«، وها قد رحل ممدوح عدوان تاركاً لنا »الظل الأخضر«، ولسوف نودعه ب»تلويحة الأيادي المتعبة«، ولن نسأله كيف ترك السيف ونحن نستجوبه في »محاكمة الرجل الذي لم يحارب«، لأنه قد أمضى عمره يحارب ضد الخطأ والخوف والتخويف والشعار الجميل الذي يرفعه حامله للتضليل…
لقد قاتلت كثيراً حتى أعياك القتال: »من التصدي لشرطي السير إلى التصدي لأميركا، مما جعلك متعباً لزوجتك وأولادك وللدولة ولإسرائيل وأميركا«، كما قلت يا ممدوح في آخر مقابلة لك نشرتها »السفير« يوم الجمعة الماضي.
ولقد عشت كما تحب ان تعيش: تعارك وتضحك وتكتب، تسافر وتسكر وتكتب، تمثل وتعلّم التمثيل وتكتب، تقرأ للخالدين شعراء وكتاباً في المسرح والرواية فتترجم وتكتب، تمرض فتواجه المرض بسن قلمك وتعطي بعض أجمل ما تكتب، وترفض »حيونة الإنسان« فتكتب حتى الصراخ، قبل أن تلعلع ضحكتك وكأنك تضحك من افتراضك انك بهذه المقاومة ستنجح في منع هذا التحقير للإنسان.
كثير علينا ان نخسر بعد سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وممدوح عدوان..
* * *
كان أكثر ما هزّك، يا ممدوح، حدثين: هزيمة 5 حزيران وموت أمك…
… والهزيمة مفتوحة بعد، وإن كنا ما زلنا نحاول المقاومة بما تبقى في قلوبنا من إيمان، وفي أيدينا من سلاح.
ولعلك لم تسمع بآخر الأخبار التي توحي بأن الحرب المفتوحة على هذه الأمة تدخل الآن المرحلة الأقسى والأشمل.
فلقد أعلنت الإدارة الأميركية تلفزيون »المنار«، الناطق باسم المقاومة الوطنية الإسلامية، مؤسسة إرهابية، ومنعتها، وأعلنت الحظر على كل عامل فيها أو متعامل معها أو مستمع إليها. صارت مشاهدة محطة فضائية دعماً للإرهاب، يا ممدوح!
وحتى لا ننسى الميدان الآخر للحرب، فلا بد من أن نبلغك أن الرئيس الأميركي جورج بوش قال لصحيفة »يديعوت احرونوت« الإسرائيلية إن »سوريا بلد ضعيف جداً، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليها، ويتحتم على الأسد الآن الانتظار. السلام بين إسرائيل وفلسطين أولاً، ومن ثم سنرى ما سنفعله مع سوريا«.
ولك أن تتصور يا ممدوح، كيف سيتحول هذا الكلام في لبنان إلى تسعير للحرب المفتوحة أصلاً، والتي جعلها قرار مجلس الأمن 1559 حرباً دولية ضد لبنان وسوريا معاً، في ظل أوضاع مهترئة في لبنان تكاد تجعل خسارتها حتمية.
كل هذا بينما فلسطين »تذوب« حتى لا تكاد تُرى!
لقد »أقبل الزمن المستحيل« يا ممدوح.. فكيف تهرب أيها المقاتل المحترف من المواجهة الأخيرة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان