ببراءة تستفز الحجر، تبارت وسائل إعلام عربية في نشر خبر من بضعة سطور فقط يقول: »إن إسرائيل تقدمت من الإدارة الأميركية بطلب معونة إضافية (وعاجلة؟!) قيمتها ملياران ومئتا مليون دولار لتنمية منطقتي النقب والجليل الأعلى، مما سيمكّنها من استيعاب ملايين المستعمرين الجدد«.
يوحي الخبر »البريء« وكأن المنطقتين المشار إليهما أراض جرداء، لا يملكها أحد، ولا يسكنها أحد، وبالتالي فإن إعمارها مهمة إنسانية نبيلة تتولاها إسرائيل باسم العالم المتحضّر… وهي إذ تطلب من الإدارة الأميركية تمويلها فإنما لإشراكها بهذا الفضل العظيم في تحويل الصحاري الجرداء إلى جنان خضراء، تستوعب مَن تبقى من اليهود فتحاول أن تعوّضهم باستقدامهم إلى أرض التوراة بعض ما تعرضوا إليه من اضطهاد وإذلال، إذا ما تناسينا حملات الإبادة ومعسكرات التعذيب حتى الموت!
بالطبع، لا وقت لدى أي مسؤول عربي للاهتمام بهذا »التفصيل« الذي لا يضيف جديداً إلى معلوماته حول طبيعة التكامل القائم بين العقل الإسرائيلي البناء والمال الأميركي المسخر لخدمة الحضارة الإنسانية… بل لعل الخبر يزيد من إعجاب هؤلاء المسؤولين بقدرات هذا الثنائي المتقدم على استنبات المدن الحديثة في الأرض الموات التي أهملتها تلك الأقوام البدائية التي احتلتها في غفلة من الزمن فعاشت فيها تحت الخيام، قبائل رحّلاً، ولم تبن فيها حجراً على حجر، ولا أقامت فيها مدرسة أو مستوصفاً فكيف بالبساتين الغناء والمجمعات السكنية والمصانع المنتجة لآخر مبتكرات التقدم العلمي…
بالمقابل فإن هؤلاء المسؤولين العرب ما زالوا مبهورين بالوجه الجديد لأرييل شارون، الذي اكتشفوه حين سمعوه يتحدث عن أنه بكى رقة وإشفاقاً، وهو يرى جنوده ينفذون قراره بإجلاء المستعمرين الذين طالما رأوا فيه »الزعيم«، من مستعمراتهم في غزة إلى مستعمراتهم في مختلف أنحاء الأرض الفلسطينية خارجها، ليعيدوا زرعهم فيها تحصيناً لأمن الدولة العبرية وتأميناً لسلامة هؤلاء المستقدمين من أربع رياح الأرض ليكونوا جنود الاحتلال الإسرائيلي مستقبلاً للدول العربية التي من كرتون، والتي لا يحسن أهلها استصلاحها واستثمارها، في حين يضيق الكيان الصهيوني بملايينه المرشحة للتزايد في وتيرة متناسقة مع عجز الكيانات العربية الهشة عن حماية ذاتها من مواطنيها الذين جرفتهم موجة »الإرهاب« وأنستهم دنياهم وهم مندفعون في التيه تحت الشعار الديني، والدين منهم براء!
ها هو النقيض ينتصب شامخاً أمام نقيضه: اليهودي المتمسك بدينه إلى حد التعصب، بكل شعاراته البدائية الموروثة، ينتج أحدث مبتكرات الحضارة الإنسانية، ويصنِّع القنابل النووية، ويبيع السلاح المتطور والتكنولوجيا المتقدمة إلى مختلف دول العالمين الجديد والقديم.
وعلى الضفة الأخرى، العربية، تتراجع وتيرة التقدم، وتهاجر الكفاءات، وتلتهم الصحراء والقصور وليالي الأنس والأسلحة التي لن تستخدم إلا ضد شعوبها، ما يسمى بالدخل القومي، ومن ضمنه الثروات الخرافية لأهل النفط.
… وعلى الضفة الأخرى يُعتقل المواطنون بلا تهمة، ويُسجنون بلا محاكمة، ويُقادون إلى الاستفتاءات بالسلاسل، وتُحرم عليهم الانتخابات، باعتبار الديموقراطية بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار…… وعلى الضفة الأخرى يكاد المواطن العربي تحت ضغط فضائياته!! وصور الصفحات الأولى من بعض الصحف أن يشفق على هؤلاء المستعمِرين الذين يسحبهم جيشهم بالسلاسل إلى الجنة، وهم يذرفون الدموع على فراق مستعمراتهم التي زُرعوا فيها بالقوة، ودفع أبناء فلسطين المهجرين إلى غزة من دمائهم وحقهم في الحياة تحت خط الفقر ثمن إقامتها… وسيدفعون غداً ثمن هدمها، بينما تتقدم الإدارة الأميركية بملياراتها لتساعد إسرائيل على بناء المزيد من المستعمرات على أنقاض المدن والقرى العربية في الجليل خاصة وفي النقب لمستعمرين جدد يجيئون فيطردون الأهالي الأصليين من مدنهم وقراهم إلى ليالي الفقر والبرد في شتات غزة المحررة.. أو في أي مكان من الدنيا يقبلهم من باب الصدقة والإحسان والحاجة إلى يد عاملة رخيصة.
إنها خطوة واسعة في اتجاه احتلال المزيد من الأراضي العربية داخل فلسطين وخارجها، وعلى امتداد ليل الهزيمة بين المحيط والخليج.
إنه مشروع استعماري جديد لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، وبالتحديد منهم من تبقى في أرضهم، ولكنه يهدد أيضاً لبنان وسوريا، ومصر التي كانت »محروسة« و»عزيزة«، فضلاً عن الأردن الذي يغطي مليكه الخطر الماثل أمامه بيديه ليستذكر »الهلال الشيعي« إذكاءً لنار الفتنة في خدمة الاحتلالين: الإسرائيلي والأميركي، وهما متكاملان.
إنه نموذج للفوضى الخلاقة التي تقدمها الإدارة الأميركية لبناء الديموقراطية في الأرض العربية، انطلاقاً من العراق ورجوعاً إليه عبر »هلال« الدم والموت والمستعمرات الإسرائيلية تحت راية الراعي الأميركي.. النزيه.
وبقدر ما تكتسب الإدارة الأميركية ملامح الصديق الصدوق بل ولي الأمر الشرعي للعرب القاصرين تتهاوى حتى الاندثار ملامح العدو عن الوجه الإسرائيلي الذي لم يعد قبيحاً ولم يعد مخيفاً، وتنفتح أبواب العواصم العربية وقد سبقتها الفضائيات وبعض الصحف أمام هذا »الجار الطيب« الذي يقتلع مواطنيه من مستعمراتها ليعيدها إلى أصحابها، بغض النظر عن كونهم »إرهابيين«!
هل ثمة من يريد دليلاً على وجهي العملة: الإدارة الإسرائيلية الأميركية، والإدارة الأميركية الإسرائيلية؟
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان