… إذù، فهي »مفاوضات ثلاثية« وليست ثنائية طرفها الأول عربي (سوري، ومعه اللبناني)، والطرف الثاني إسرائيلي.
لقد بات الأميركي طرفù ثالثù في التفاوض على المسار السوري، وتورط لأسبابه الذاتية حيث بات يستحيل خروجه من هذه الحلبة التي قد يكلّف الخروج منها أكثر بكثير مما كلّفه الدخول أو الانزلاق إليها.
كل من الأطراف الثلاثة يقرّر هذه الواقعة بأسلوبه الخاص:
} فالأميركي وارن كريستوفر يبرّر جولاته الثلاث عشرة في المنطقة، وفي سياق الجهد المبذول لإنقاذ »العملية السلمية« بلزوم هذا الانجاز الحيوي للمصالح الأميركية، من دون أن ينفي بأي حال أن إسرائيل ذاتها هي »مصلحة أميركية«.
وهو لا ينكر حاجة إدارة كلينتون الانتخابية الملحة إلى هذا الانجاز، إذ من دونه لا مجال لأن يحلم بولاية رئاسية ثانية.
وبرغم تهافت الموقف العربي، فإن احتمالات فشل هذه العملية تشكّل مصدر قلق جدي للإدارة الأميركية، إذ لا أحد يمكن أن يضمن طبيعة رد الفعل الذي قد يكون الغلاة من أصدقاء واشنطن والمسلِّمين بالشروط الإسرائيلية بين ضحاياه… وهؤلاء الضحايا المفترضون هم أيضù بين المصالح الأميركية.
وتجربة مشروع القمة العربية المصغرة في المغرب، ردù على القرار الإسرائيلي بمصادرة ال53 هكتارù من أراضي القدس العربية تكشف الهشاشة والركاكة على الصعد الثلاثة: الأميركية والعربية والإسرائيلية.
} أما الإسرائيلي إسحق رابين، فيبدو أنه سلَّم أخيرù بأن الضمانة الفعلية لبقائه في موقعه، وبقاء حزبه حاكمù، إنما تجيء من »السلام« مع سوريا وليس من الحفاظ على صورة »محطّم العظام«.
وتدل تصريحاته الأخيرة على أنه يحاول جرّ الحزب المنافس، الليكود، إلى المبارزة على أرض الانسحاب من الجولان (ومن الجنوب)، بدل أن يظل أسير الطروحات الليكودية التي تنشر رائحة البارود في عصر لم تعد فيه الحروب متاحة، كما أنها لا تفيد في فتح المنطقة أمام إسرائيل بل هي قد تغلق حتى ما انفتح من أبواب مواربة أو شبابيك أو كوى في جدار الرفض الذي كان في مستوى التحريم.
وإذا كان رابين القوي في إسرائيل ورقة انتخابية قوية في يد كلينتون، فإن الدعم الأميركي هو المصدر الأساس لقوة رابين، وهو الصوت المرجح باعتبار أنه الإسفين اللازم لشق الليكود أو إرباكه.
فإسرائيل مصلحة أميركية، لكن الدعم الأميركي شرط حياة لإسرائيل وليس فقط مصدر تفوقها العسكري على العرب مجتمعين.
} من هنا هذه الصراحة في حديث الرئيس السوري حافظ الأسد، أمس الأول، عن »المفاوضات الثلاثية«: »هناك وسيط أميركي يأتي إلينا فيجتمع معنا، ويذهب إلى الطرف الآخر فيجتمع أيضù مع قمة الطرف الآخر. ليس لدينا أعلى من هذا المستوى، وليس لديهم هم أيضù أعلى من هذا المستوى… وهذا هو المناسب للمعطيات الحالية«.
والرئيس الأسد يعرف ويعلن: »لا يوجد عربي إلا ويعرف أن أميركا هي أقرب إلى إسرائيل وبالتالي أبعد عن العرب، وطبعù لا يمكن لأي عربي أن يرى في استخدام الفيتو الأميركي إشارة ودية إلى العرب…«.
لكن روح الصمود والجهد الدؤوب في محاولة تجميع نقاط القوة وحمايتها وحسن القراءة لخريطة المصالح وتناقضاتها (في ما بين الحلفاء)، والتفهم العميق لظروف العدو والوسيط (الأقرب إليه وغير الودي تجاه العرب)؛ كل ذلك قد مكّن سوريا من تحسين شروط التفاوض سعيù إلى مشروع اتفاق قد يكون الأقل سوءù في هذه اللحظة السياسية المحددة.
* * *
ليس الأمر متعلقù بالورقة الانتخابية وحدها. الأمر يتصل أساسù بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية كما تفهمها إدارة كلينتون، أي الرئاسة الأميركية، وبالمصالح الحيوية لإسرائيل كما يفهمها إسحق رابين، أي بطل الحرب في إسرائيل، وكما يفهمها أيضù حلفاؤه الأميركيون في البيت الأبيض كما في الكونغرس والبنتاغون وسائر المؤسسات.
والانتخابات، الأميركية والإسرائيلية، مناسبة لبلورة الصراع بين الأطراف المتنافسة على خدمة تلك المصالح الحيوية هنا وهناك… ليس إلا،
والقائد السياسي البارع هو من يستفيد من لحظة احتدام الصراع لكي يحمي ما تيسّر من مصالحه الوطنية.
للطرافة وليس للمقارنة، يمكن استذكار بعض الذي كان..
ففي العام 1983، ورّط رئيس الجمهورية آنذاك، أمين الجميل، لبنان في مفاوضات مهينة مع المحتل الإسرائيلي، ثم حاول متأخرù استقدام الأميركيين للوساطة، متوهمù أن الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي »يحبه ويعامله كابنه« سيقف إلى جانبه في مواجهة »بطل اجتياح لبنان« آرييل شارون، فماذا كانت النتيجة؟!
طبعù لم تتحوّل المفاوضات إلى »ثلاثية«، بل تبنى الوسيط الأميركي جورج شولتس (وزير الخارجية الأميركية آنذاك) الموقف الإسرائيلي وفرضه على حكومة أمين الجميل، ثم حاول فرضه على دمشق ضمانù للتعهد اللبناني بحماية الأمن الإسرائيلي!
أي أن الإسرائيلي هو الذي أصرّ على جعل المفاوضات »ثلاثية« بجرّ سوريا إليها بالقوة الأميركية… وتحوّل التفاوض إلى حرب فعلية أسقطت اتفاق 17 أيار!
* * *
مرة أخرى يتبدى حافظ الأسد في صورة »المفاوض العربي الوحيد«.
ولكم كانت سقطت صفحات سوداء من تاريخ هذه المرحلة لو أنه لم يكن المفاوض الوحيد، وكان بقي إلى جانبه أولئك الذين تهاووا قبل التفاوض؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان