ذهبنا الى قانا خارج الوقت الرسمي.
لم يكن فيها الا اهلها الطيبون وطيف السيد المسيح وذكريات »عرس قانا الجليل«، والشهداء، وشجر الزيتون وإطلالات الربيع السندسية والمبكر من الزهر الذي صمد لعواصف الشتاء الذي جاء متأخر ا عن موعده.
توقفنا عند مقصدنا.
كان الشهداء يرتاحون في مثاويهم الجماعية التي أعدّت على عجل، والتي »يعاد« ترتيبها الآن على عجل وقبل »المناسبة« والاحتفال ووصول المحتفلين من اصحاب المقامات.. على عجل!
ولقد همّ حارسهم بأن يستنهضهم ليقفوا احتراما للألقاب، فلما اطمأن الى ارقام سياراتنا العادية وخلوّها من الاعلام والمرسلات الهوائية والجند الذين يقتعدون مقدمها ويشقون الجماهير، عاد يرتاح في الجدار، وأعلن فك الاستنفار.
الشهداء لا يجرؤون على إعلان هويتهم كشهداء الا في غياب المواكب.
ليس من حقهم ان يستمروا في موتهم اذا جاء »الكبار«.
عليهم كلما جاء موكب ان يجمعوا أوصالهم المقطعة، وأن يجبروا انفسهم على الانتظام في طابور شرف لاستقبال الذين يجيئون ليتصوروا معهم، وان يبتسموا لعدسات المصورين تلك الابتسامة البلهاء التي تؤكد فرحتهم بتشريفهم بالزيارة الميمونة، وان يمدوا ايديهم لمصافحة المباركين الذين يحملون اليهم الشهادة بأنهم شهداء.
كانت باقات بسيطة من زهر الارض تتناثر فوق حجارة الباطون الباردة والقاسية التي تحجز تحتها اولئك الذين ماتوا من اجل الارض وفيها وباسمها المبارك.
وكانت على بعض الأضرحة بقايا دموع وبقايا أدعية وكثير من كلمات التعب خلّفها أحبّة مخذولون أخذت منهم الشهادة الصبا والجمال والهوى والشباب والأمل المنشود.
وعلى واحد من القبور كانت ترفرف ابتسامة آتية من خلف الوجع والحزن المقيم.
* * *
مشينا فوق الارض المباركة التي مشى فوقها عيسى بن مريم وملايين البسطاء. صعدنا مع الدروب الضيقة، ثم هبطنا معها، وسط بيوت الفقراء الذين لعلهم شربوا من خمرة الماء تلك.
كانت البيوت تستظل سطوحها، ساعة الظهيرة، والاولاد في المدارس وقد انسحب ضجيجهم فتلطى في المنعطفات ينتظر عودتهم ليعود فيملأ الطرقات المتعرجة المسفلتة حديثا ببهجة الساعين الى غدهم عبر الموت اليومي.
حتى الكنيسة كانت ترتاح في ظل الصمت، وتحضر نفسها لقداس الأحد، وجرسها ينتظر السواعد الفتية التي ستمتحن عزمها عبره بعد ساعات.
كان ذلك الفنان الجارح بصدقه، والساذج الى حدود العبقرية، موسى طيبا ينتظرنا ومعه بضعة رجال من الذين صدقوه فساعدوه على تخصيص قطعة من الارض المشاع لإقامة محترفه الفني فيها.
وكنا ممتنين لموسى طيبا، ولمن جاء من أهل قانا معه، ان يقبل منا الاشتراك معه في اقامة مركز ثقافي/ في قانا، تخليدا لشهدائها شهداء الجنوب الذين افتدونا بدمائهم.
كنا نحمل حصيلة »عرس قانا« الذي شاركت في احيائه كوكبة من الفنانين التشكيليين العرب فأعطت بعض أروع ما أنتجه الرسام العربي لذكرى الشهداء الذين أعطوا الأقصى…
لم يكن المال مهماً بمقداره.
فالشهادة رمز الفداء.
وهؤلاء الذين أعطوا من ابداعهم، او من وقتهم، او من جهدهم، انما كانوا يضيئون شعلة على الطريق التي اختارها الشهداء نحو الغد.
وهكذا فلقد قدمنا حصيلة ما جمعته لجنتنا الصغيرة والتي ارادت فقط ان تؤكد ايمان المثقف العربي، كاتباً كان ام مسرحياً ام مطرباً ام موسيقياً ام فنانا تشكيلياً، بالارض وبانتمائه اليها.
في ضوء الشمس وقفنا على الارض الممتلئة بنور الشمس، والمتفتحة جنباتها بزهر الربيع وسندسه، من حولنا الزيتونات المباركة والقرى التي كلما هدمت أعاد اهلها بناؤها بجنى العمر وعرق الجبين.
لا الشمس اختبأت خوفا من الغارات،
ولا ابناء الارض تركوا بيوتهم العتيقة للريح،
ولا الزهر أخلف موعده الربيعي،
ولا الزيتون توقف عن ضخ الزيت المقدس،
ولا الشهداء توقفوا عن الانجاب: فها مواكبهم تترى جيلا بعد جيل، لا تكاد دماء بعضهم تجف حتى يتقدم صف جديد ليروي الارض بالاسماء الحسنى لأجياله الآتية.
وفي طريق العودة كان حارس المقبرة يستفسر عنا: مَن، ولمَن، ولماذا، وبكم؟!
أما الشهداء فكانوا من تحت الباطون المسلح يهزجون بأغنية جديدة للشمس، للزيتون، للربيع، ولقانا حاضنة عرس الارض التي لا تموت.
الإرهاب والحب
صه! انتباه! خبّئ حبك جيداً، واحرق رسائل العطر، فقد جاء الزمن الياباني! انسَ اسمك، لو استطعت. ارم على ذاكرتك ماء النار، بدّل ملامح وجهك. انتزع قلبك من تجويفة الصدر واطرحه بعيدا عن دارك حتى لا تؤخذ بما فيه من اسرار وملامح وأطياف، تخلّص من كل ما هو جميل ومشرق ومضيء. ستُحاسب على كل تنهيدة ارتياح، على كل صيحة فرح أطلقتها، على اي تعبير عن الحماسة او البهجة.
سينقبون في احلامك، فيستخرجون الاسماء الحبيبة، كالوطن والغد، كالله والانبياء، كالصبايا اللواتي كنت تغازلهن او يكتبن اليك فوق اجنحة النحل، وترد عليهن بصمت الليل او عبر هديل الحمام ورنات جرس الكبش المتقدم صفوف الغنم، في الفجر، في الرحلة اليومية نحو الربيع.
لقد كنت هناك.
لقد سمعت ففرحت، ورأيت فهللت، وقرأت فانتبهت، وعرفت نفسك فعشقت ارضك ووهبتها عمرك فأعطتك معنى العمر.
انسَ فلسطين. انسَ الثورة. انسَ الحب. انسَ نفسك. انت مجرد مستنسخ عن مستنسخ، لا اسم لك ولا هوية ولا تاريخ.
كل ايامك تشهد عليك فانحرها واحدا واحدا، ساعة ساعة.
قف في صحراء العدم مجرد سراب، تكتب لك الحياة.
سلاما يا أوكاموتو.
سلاما يا زمان الحب والجمال والاحلام.
هل خرقت المحظور؟!
حيِّ على الارهاب: فأنا المحب الأعظم، برغم انف الامبراطور العتيق! يرهبوننا بالكراهية والموت، ألا نستطيع ارهابهم بمزيد من الحب؟!
قبل اللثغة بقليل
رأيتك تعودين طفلة فكدت أهتف فرحاً: يا أمي!
من أين لك هذا الفيض من الحب تنثرينه على الناس من حولك وأنتِ المحاصرة بصقيع الوحدة، الملوية يدك الى عنقك بعيداً عن آمالك المعلقة على بعد ذراع منك، على شفا المستحيل؟
المستحيل.. ولكنك تصارعين في قلبه فتلغين حدوده المحرمة وتخترقين المضمر فيه، وتناديننا من على ضفته الاخرى أن تعالوا الي لو كنتم أقوياء.
والقوة إرادة، وإرادتنا مغلولة بالخوف. يخاف واحدنا الآخر، ونخاف مجتمعين من الآخرين، ونخاف مع الآخرين من المجهول.. والمجهول شبح يهوم فوق رؤوسنا فيمسك علينا الهواء حتى لنكاد نختنق في كهف الفراغ، خلف الصدى والعتم وسأم التكرار.
يتكأكأ بعضنا على بعض برؤوس طأطأها القلق، حتى إذا ما ابتسمت اقتحمت الشمس الغرفة فامتلأنا بالنور وسرى في الأفق عطر الياسمين فاختنق الخوف بخوفه واستولدت عيناك الفرح، وكبرنا فصرنا قريبين منك الى حد الالتصاق.
اقرأ صمتك فنتعلم كيف نرتفع حتى نمسك أقدارنا بأسناننا.
يا لضعفك الجبار، يا لقوتي الهزيلة!
يقول الصوت ما لا تقوله الكلمات، وتنفي العينان ما يقوله الصوت، وتأخذنا الحيرة في شباكها الى الخوف.
وتهل أمي الطفلة نحيفة كسنبلة، قوية كرمح، جميلة كفراشة، فيصهل في صدري ألف مهر عربي، وأنطلق في مروج السندس خفيفاً كعصفور، مشعاً كفكرة، دافئاً كأنفاسك.
وأنتِ معي تتسامق هامتي ارتفاعاً، فأمد يدي أغزل من الغمام اثواب فرحك الآتي، وأعتصر منه ندى مقطراً لأروي به الشامة التي على العنق، قبل اللثغة بقليل.
انت هنا. انت الطفلة. استطيع إذاً ان أنام في حضن أمي.
ثرثرة خارج زمن الهمس
تسألين: هل وصلت متأخرة عن زمن الحب؟
… ولكن هل للحب زمن، ام ان الحب هو الزمان… هو القَبلُ والبعدُ والآن وغدا وما بين الهنيهتين.
أخلفتِ موعدكِ مع السفينة؟
.. ولكنني البحر، تنهداتي تملأ الشراع بالريح، وزندي السارية، ومن صدري ينطلق زخم الامواج، وعيناك هما المرسى وبر الامان!
تقيسين الحب بالسنين، وأقيسه بلحظاتي معك، فأخطئ الحساب لأربح الحياة.
تفح رغبتك: اريدك، اريدك، اريدك… وستكون لي، مهما علت امواج طوفانك، مباعدة بين يدي ومدى الاشتياق.
تحبني، أعرف، ولن تقول. وأقول احبك فلا تسمع إلا رجع الصدى، وتمشي. آخذك كل لحظة. يحملك اليّ صمتك، ويحملني اليك صوتي. اسمعك حتى حين لا تجيب. وأعرف انك تسمعني حتى وانت تعطي لغيري الاذن والعين.
وصلت بعد زمن الهمس… فلم اعرف غير ان اصيح باسمك.
لا اطلب منك الا ما فاض عن غيري.
لا اطلب منك الا مسرى عيني، فيك.
لا اطلب منك اكثر من رغبتك فيّ.
تأخذ العين ولا تمنحني نظرة؟! تأخذ العمر ولا تمنّ عليّ بليلة قمر؟
من داخل الرغبة آخذك. ومن خارج أجيئك: أتقدمك، وألحق بك… تكشني عن يسارك فأستكين في يمينك، وأرقى الى سمائك ثم أشدك الى ارضي لأتحرر منك.
قررتُك حبيباً واختصرت بك الرجال، وأرتضي منك ان تتخذني بين نسائك!
فقط تعال، لينتهي زمن الكلام الذي قد ينهيني قبل محطة الوصول.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة الا الحب:
حبيبتك هي التي تمنح رجولتك المعنى. العشيقة تأخذ منك »الفحل« وتمسخ الرجل، اما الحبيبة فتأخذك كلك وتعطيك كلها. بعض النساء اللواتي لم يعرفن الحب يسلبن الرجال كل ما يجعلهم رجالاً بحجة انهم يصيرون عشاقاً. لا رجل خارج دائرة الحب. لا امرأة خارج دائرة الحب. لا يكتمل الانسان الا بالحب، وكل الذين لا يحبون أقل من بشر مهما غلظت الاصوات أو رقت اللمسات.