يتصرف الغرب، بالقيادة الاميركية، وكأن ثورات الشعوب العربية على أنظمتها القمعية التي كانت تحظى برعايته ودعمه، هي مجرد انتفاضات جياع يمكن شراء ولائها بحفنة من الدولارات، طالما اختلف الزمان ولم يعد بسكويت الملكة ماري أنطوانيت كافياً لأداء هذه المهمة النبيلة. في البدء تحدث الرئيس الاميركي ذو الجذور الإسلامية بارك أوباما وكأنه مفجر هذه الانتفاضات وأبوها الروحي، وكاد بعض المؤرخين الانتقائيين في الغرب الاميركي يربطونها بالثورة الاميركية ويعتبرونها امتداداً لها، نفيا لأية صلة محتملة بينها وبين الثورة الفرنسية، آخذين بالاعتبار ان فرنسا باتت من الماضي وان التاريخ الإنساني الراهن صناعة اميركية خالصة.
كاد الرئيس الاميركي – في حديثه الأول عن الثورات العربية – ينصّب نفسه القيادة الشرعية لهذه الثورات والناطق باسمها: استذكر مفجر ثورة تونس، محمد البوعزيزي، ثم مشى مع جماهير الشعب التونسي في جادة الحبيب بورقيبة وسائر الميادين والساحات في مختلف المدن والقرى، حتى إسقاط الطاغية زين العابدين بن علي وأعوانه، بعد أن أسقطه شعبه وتنكَّرت له زوجته التي جاءت من صالون حلاقة نسائية الى سدة السلطة باعتبارها مركز الثروة.
كذلك تصور الرئيس الاميركي نفسه في ميدان التحرير بالقاهرة، معتصماً على امتداد ثمانية عشر يوماً، حتى سقوط الطاغية حسني مبارك وعصابته ومعه أسطورة التوريث، والرغبة المعلنة لسيدة القصر بأن تكون سيدة مصر طالما انه تعذر عليها ان تكون ملكتها.
تنكر الرئيس الاميركي لروابط «الصداقة التاريخية» مع الطاغيتين اللذين لم يترددا في تلبية احتياجات الإمبراطورية الاميركية، فوقعا اتفاقات التعاون العسكرية، وأمرا أجهزتهما بتلبية كل ما تطلبه المخابرات المركزية الاميركية وما يلزم جيوشها ولو على شكل «تسهيلات» في البر والجو والبحر، فضلاً عن المناورات المشتركة والبعثات باسم التدريب…
لم تتوقف الإدارة الاميركية لحظة أمام حقيقة ان جماهير الشعب الثائر في كل من تونس ومصر قد فرضت محاسبة هذين الطاغيتين على ممارساتهما السياسية قبل مساءلتهما عن الثروات التي نهباها أو سهلا لأعوانهما نهبها… وبالتالي فإن وجوه التعاون المفتوح والتلبية الفورية لمطالب الإدارة الاميركية واحتياجاتها العسكرية كانت بين الأسباب الأساسية والمباشرة لإلحاح الشعبين على محاكمة الأسرتين اللتين حكمتا البلدين دهراً.
وبعد أن أعلن الرئيس الاميركي الأسمر ذو الجذور الإسلامية «الشرق الأوسط» منطقة مصالح عليا لبلاده، ممتداً عبره وبعده الى أفريقيا جميعاً، قرر تقديم «مساعدات مؤثرة» للعهد الجديد في كل من مصر وتونس، مستغلاً سوء الأوضاع الاقتصادية التي تسبب فيها النظامان السابقان وقد كانا في رعاية إدارته، ومن سبقها في واشنطن.
كانت تلك إشارة من الرئيس الاميركي بافتتاح «المزاد» لشراء «الثورات» بميادينها، مستغلاً حقيقة ان «رجليه» في كل من مصر وتونس تركا الدولتين على شفير الإفلاس، بحيث يصعب على الآتين لتولي السلطة، وبصورة مؤقتة، تمهيداً لإشادة النظام الجديد، تحديد الاولويات في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة فيهما.
كانت الخطوة الأولى أن أعلن الرئيس الاميركي إلغاء الديون المترتبة على مصر، ثم الإيعاز الى البنك الدولي وصندوق النقد بتقديم قروض الى كل من مصر وتونس، وسرعان ما عزز الطلب خلال قمة «الثمانية الكبار» في «فنادق دوفيل» فتقرر – مبدئيا – ان يقدم الغرب رزمة مساعدات على شكل قروض وهبات ومنح بمليارات الدولارات (بين 20 و40 ملياراً) للدولتين، وعلى مدى زمني مفتوح.
(ملحوظة: تجدر الإشارة هنا الى أن ما قدم من منح الى المانيا الشرقية عندما أُسقط النظام الشيوعي فيها وأعيدت بالفقر والأمر معاً الى دولتها الأم، كان في حدود 115 مليار دولار… وان تشيكيا حين أعيدت الى أحضان أوروبا وتخلت عن شريكتها سلوفاكيا فضلاً عن الشيوعية التي كانت وحدها قد اختارتها نظاماً لها بالانتخاب الديموقراطي نالت مساعدات بقيمة 50 مليار دولار..).
الطريف في الأمر أن هذه المساعدات – القروض أو ضمانات القروض ستجمع من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأوبك، ثم يأتي دور الاتحاد الأوروبي.
بالمقابل فإن بعض دول النفط قد تلقت الإشارة فلبت النداء، وهكذا أعلن ان السعودية ستقدم أربعة مليارات، للحكومة المصرية في حين جرى الحديث عن 5 أو 10 مليارات ومبالغ أكبر ستقدمها إمارة الغاز الطامحة دائماً للعب دور أكبر من حجمها، على ان تلحق بها إمارات النفط الأخرى.
ولك ان تصدق أو لا تصدق ان هؤلاء الحكام الذين أوجعهم – في ما خص مصر – خلع الطاغية مبارك، وعدم السماح له بالذهاب لاجئاً الى مملكة الصمت وعاتبوا على رفض دعوتهم له، قد دفعتهم النخوة الى تقديم هذه التسهيلات للحكم الذي جاءت به ثورة الميدان.
ما هذا السخاء الأميركي – الأوروبي والملكي العربي على الأنظمة الوليدة التي جاءت بها الثورات، أو بالاحرى: ما هي الأهداف الفعلية لهذه التقديمات التي سوف تكون قروضا، وعلى مدى زمني مفتوح؟! ولماذا لم يقدم أقل منها للنظام الذي سقط مع طاغيته؟
لم يتعود العرب مثل هذا السخاء الاميركي، والأوروبي، إلا مع إسرائيل، التي تنال مساعدات مفتوحة، كل عام، تشمل مختلف المجالات العسكرية أساسا والاقتصاد والزراعة والتعليم، فضلاً عن دعم ملفوف لمشاريع زيادة المستوطنات التي تلتهم الأرض الفلسطينية.
لكن مراجعة سريعة لجدول أعمال الرئيس الاميركي قد تساعد في حل اللغز، لا سيما أن ما قبل زيارة رئيس حكومة إسرائيل الى واشنطن كان مختلفاً جداً عما تم خلال الزيارة وما سوف يتم بعدها.
كان للزيارة التاريخية لبنيامين نتنياهو الى واشنطن محطات ثلاث:
الأولى – لقاؤه الرئيس الاميركي في البيت الأبيض لمدة زمنية قياسية، ورده «القاسي» على طروحاته حول حق الفلسطينيين في دويلة لهم مجردة من السلاح، داخل دولة إسرائيل، على طريقة الكنغارو.
الثانية – خطاب الاستنفار الذي ألقاه نتنياهو أمام منظمة «ايباك»، مركز التأثير الصهيوني الذي لا يحد على قرار الإدارة الاميركية.
الثالثة – «خطاب النصر» الذي ألقاه نتنياهو أمام صعاليك الكونغرس الذين تصرفوا كمناصرين وهتيفة وأزلام أو كأتباع مسحورين بالقائد الإسرائيلي الذي يملك ان يفرض إرادته، بحيث انهم صفقوا له وقوفاً 29 مرة خلال مدة خطابه التي استغرقت، مع مقاطعات التهليل، 48 دقيقة.
بعد هذه المحطات تبدلت أشياء كثيرة في مواقف باراك اوباما وفي سلوكه.
كان عليه بعدها، مثلاً، ان يتراجع عن كل ما يتصل بحق الفلسطينيين بدولة منفصلة ولو بنسبة ما عن إسرائيل، ولها صلة ما بالقدس.. على قاعدة القرارات والاتفاقات المتصلة بمشاريع التسوية او «السلام» في المنطقة، أو بالتحديد ما نص عليه اتفاق اوسلو.
ثم انه كان على أوباما ان يسلم بمقولات نتنياهو حول الثورات العربية، وأبرز ما فيها ان تعتمد «ثورة الأرز» في لبنان نموذجاً.. علما بأن أكثرية اللبنانيين لا يرون في هذه «الثورة» أكثر من انقلاب سياسي طارئ تحت ضغط اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سرعان ما طويت صفحته بانقلاب سياسي مضاد وقد تليه انقلابات أخرى تحت ضغط التحولات العاصفة التي تشهدها الأرض العربية.
وكان لجوء نتنياهو الى «ثورة الأرز» مقدمة منطقية للحملة المفاجئة التي شنها الرئيس الاميركي على المقاومة في لبنان، وحزبها، بينما اللبنانيون يحتفلون بالذكرى الحادية عشرة لإنجازها التاريخي بتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في مثل هذه الأيام من العام ألفين.
من هنا يصير الربط ضروريا بين وعود المليارات التي تهاطلت في قمة دوفيل التي جمعت الدول الاغنى في العالم، على الثورات العربية، بدءا من تونس ومصر، مع وعد بالدفع لمن هم في الطريق الى إنجاز التغيير الديموقراطي في بلادهم المحكومة بالطغاة… لا سيما ان الرئيس الاميركي قد قدم العراق باعتباره نموذجاً محتملاً لمستقبل الوطن العربي جميعاً، قافزاً من فوق مآسي الحرب الأهلية التي مزقت وحدته الوطنية ومعها دولته التي صارت كانتونات وكيانات وجهات وأقاليم بعدد الطوائف والمذاهب والعناصر… وما زال العرض مستمراً.
مما يجب ان يتذكره العرب دائماً، تلك الكلمات النافرة التي خاطب بها نتنياهو الرئيس الاميركي باراك اوباما، وفيها: لا نملك الكثير من هامش الخطأ، لان التاريخ، سيدي الرئيس، لن يمنح اليهود فرصة أخرى.
أما العرب فيعتقدون ان فرصهم مع التاريخ مفتوحة.
كذلك فمن الضروري أن يتذكر العرب جملة أخرى لنتنياهو وردت في خطابه:
الشعب اليهودي ليس هو المحتل الأجنبي. لسنا بريطانيا في الهند!
تُرى هل كان الفلسطينيون محتلين… هل كانوا بريطانيا في فلسطين؟
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية