طلال سلمان

مع الشروق ## لا مرجعية للعرب.. إلا خصومهم!

… فلما تفجرت الأزمة في السودان، بكل تداعياتها الخطيرة دولياً، تكشف المخفي أو ما كان مستوراً من حقائق الوضع العربي، فإذا الفضيحة مجلجلة: تبدى «العرب» وكأنهم مجاميع من القبائل والعشائر الهائمة على وجوهها، لا مرجعية أو مرجعيات تنظم اجتماعهم ولا مؤسسات توحد مواقفهم وتوفر لهم الحد الأدنى من الأمان والمنعة والاطمئنان الى غدهم… فلا دولهم محترمة السيادة، ولا جامعتهم العربية مركز التلاقي حول قرارهم الموحد. لا هم أصحاب القرار في شرقهم، ولا هم حليف الغرب من موقع التكافؤ.
بعض دولهم استقبلت مضبطة الاتهام الدولي التي تطلب اعتقال الرئيس السوداني لتقديمه الى المحاكمة، بكثير من الشماتة: سنتخلص من «أصولية» تسللت بثياب العسكر الى مركز القرار فخطفت منا السودان..
وبعض آخر أدار وجهه وأذنيه الى الجهة الأخرى حتى لا يرى ولا يسمع ويعفي نفسه من اتخاذ قرار، أي قرار..
قلة جهرت بتضامن مبدئي: لا يجوز اعتقال رئيس وهو في مركز السلطة… فلترجأ المحاكمة حتى يترك منصبه لكي لا تكون سابقة..
أما ما بقي من الدول العربية، وهي قليل عديدها، فقد رفعت الصوت بالاعتراض لأسباب تداخلت فيها السياسة مع المواقف المبدئية، مع التذكير بحصانة الرؤساء وبكون الرئيس السوداني منتخباً وفق الشروط المعتمدة في بلاده.
لكن ذلك لم يمنع صدور القرار الدولي..
أما الذهاب بالاعتراض الى مجلس الأمن فكان ينقصه وحدة الموقف العربي، وهو الشرط الضروري للنظر فيه بجدية، فإذا لم يكن العرب موحدين فكيف سيطلبون من الآخرين التضامن واحترام ما لم يجمعوا هم عليه؟!
ومشهد العرب في مجلس الأمن تدرج في السنوات الأخيرة من التبعثر الى الانقسام الفضائحي فإلى المواجهات المخزية في ما بينهم تاركين للغير من الأقوياء، أصحاب المصالح العظمى في منطقتهم الغنية بثرواتها وموقعها الاستراتيجي، أن يقرروا لهم ما يرونه مفيداً لتلك المصالح، وليبلط المعترضون ـ إن وجدوا ـ البحر!
عادت الى الذاكرة بعض المشاهد، وبعض الأقوال، التي حفظناها، كصحافيين، من القمة العربية في الكويت، بعنوانها الاقتصادي ومضمونها السياسي المموه..
سمعنا مسؤولاً عربياً بارزاً يرفع صوته بلهجة التحدي وهو يقول:
ـ أريحونا قليلاً من فلسطينكم. ليست فلسطين التي تحتلها إسرائيل أعز علينا من الجزر العربية التي تحتلها إيران. لماذا تريدوننا أن نقاتل العالم من أجل فلسطين وأنتم تهملون القضايا المتفجرة التي تهدد أمننا في الخليج؟!
وفاجأنا مسؤول خليجي آخر يتدخل مسانداً شريكه في «القضية» الجديدة: لن نغفر لبعض العرب أنهم تخلوا عنا عندما غزا صدام الكويت، بذريعة الاعتراض على الهيمنة الأميركية على المنطقة..
وحين حاول بعضنا مناقشة هذا المسؤول في المقدمات التي أدت الى النتائج وأخطرها الحرب التي شنها صدام حسين ضد إيران بتمويل خليجي غطى صفقات السلاح المتعددة المصادر، وبتحريض أميركي مكشوف، انصرف عنا وهو يبرطم بما معناه: لقد اغتيل صدام، فليرحمه الله..
كان الوفد السوداني يجلس يتيماً، قد يبادله بعض الوفود التحية، لكن لا أحد كان معنياً بمشكلاته الخطيرة، وبينها احتمال أن يتجرأ المدعي العام في المحكمة الدولية على سيادته كدولة، وعلى رئيس جمهوريته في سابقة خطيرة هي الأولى من نوعها في التاريخ الحديث..
ولم يكن ظرف مصطفى إسماعيل وحيويته ونزعته الاقتحامية بقادرة على كسر «المقاطعة» العربية شبه الشاملة لهذا البلد العربي والغني، المهدد في وحدته الوطنية فضلاً عن كرامته كدولة ذات سيادة.
[[[
صار لكل دولة عربية «قضيتها» الخاصة التي تباعد بين من كانوا يرون أنفسهم «أشقاء»، وكان العالم يتعامل معهم باعتبارهم «شركاء في القضية الواحدة، فلسطين» إن لم يكونوا شركاء في المصير جميعاً.
أقام الاحتلال الأميركي للعراق جداراً عازلاً مسلحاً في قلب المشرق، مما جعله مشرقين على الأقل: ما قبل العراق، أي سوريا ولبنان وبعض فلسطين، القضية، وما بعد العراق أي شبه الجزيرة العربية المذهبة، بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج ومعها اليمن السعيد..
وكان طبيعياً أن تسارع إسرائيل الى استثمار المأساة العراقية فتوغلت حيث استطاعت داخل العراق، مستغلة الخلافات والانشقاقات السياسية التي كان سهلاً تحويرها الى طائفية ومذهبية وعنصرية في بلد ممزق… وكان بديهياً أن ترى اسرائيل في «دويلة» الأكراد في الشمال العراقي قاعدة ممتازة لنشاطها الذي يطاول إيران فضلاً عن تركيا..
ولان اسرائيل تشكل منذ إقامتها بالقوة على أرض فلسطين، ثم بعد تأمينها بمعاهدات الصلح التي عقدتها، عازلاً بالسلاح بين مصر والمشرق العربي، فقد باتت مصر بعيدة عن هذا المشرق بالمصالح كما بالتوجهات السياسية، مما أثر تأثيراً مفجعاً على قضية فلسطين.
ومعروف أن عزل مصر عن المشرق عموماً، وعن قضية فلسطين خاصة كان هدفاً إسرائيليا معلنا، ومطمحاً سياسياً يتقدم على كل ما عداه، اذ يرى الإسرائيليون أن ابتعاد مصر أو إبعادها عن فلسطين يطلق أيديهم في كل العالم العربي وأفريقيا بل حتى في العالم الإسلامي.
على أن مخاطر عزل مصر لم تقتصر على ضمور دورها في المشرق، بل هو قد أثر حتى على علاقة التكامل مع السودان التي كان يتطلع اليها المصريون والسودانيون باعتبارها بين شروط التقدم والمنعة والازدهار للبلدين.
وليس سراً أن هذه العلاقات قد شهدت تراجعاً كبيراً في السنوات الأخيرة. فليس يكفي أن تستمر اللقاءات على المستوى السياسي، بل المهم هو ما يتحقق من مشروعات التعاون المشترك سواء في المجال الاقتصادي (الزراعي خاصة والصناعي) ثم في المجال الثقافي ومن ضمنه التعليم.
لقد شبت أجيال في كل من مصر والسودان وشعار الوحدة بينهما يملأ الأفق.. وحتى عندما تبين أن القفز الى الوحدة الكاملة متعذر فقد ساد الاقتناع بأن التكامل بين الدولتين ممكن وضروري لكلتيهما، اذ يساهم في تطوير اقتصاد البلدين المتكاملين بالطبيعة وبالمصلحة وبالحاجة، من النيل الى التاريخ الى ضرورة توسيع الرقعة الزراعية بحيث يتحقق الاكتفاء الذاتي في القمح (أي الخبز) وسائر المحاصيل الضرورية.
[[[
لا يخطر ببال أحد أن يحمّل مصر المسؤولية عما جرى في السودان وله خلال السنوات القليلة الماضية، وان افترض البعض انه كان بوسع مصر أن تلعب دوراً في ترشيد السياسة السودانية، وذلك عبر السعي الجاد لإتمام مصالحة وطنية حقيقية بين القوى المختلفة، مستفيدة من احتياج الكل الى مثل هذا الدور الذي لا يستطيع غيرها أن ينجح فيه.
وبرغم المحاولات المتكررة الجادة التي بذلتها ليبيا القذافي والاتحاد الأفريقي وما تفرع عنه، فإن النقص في الدور المصري المؤثر كان مفجعاً، انطلاقاً من انعكاسات ما يجري في السودان على الأمن القومي المصري وعلى دور مصر عربياً وأفريقياً.
وكان من حق بعض العرب أن يفترضوا أن الادارة الاميركية، ودائماً بالتواطؤ مع إسرائيل، تعمل جاهدة لإضعاف دور مصر في محيطها… فكل إنقاص لهذا الدور تستفيد منه إسرائيل وقبلها ومعها الولايات المتحدة الاميركية. وهذه سنوات الستينيات والسبعينيات تشهد على أن النفوذ المصري المعتمد على الاخوة مع حركات التحرر الافريفية كان قوة طاردة لمحاولات التغلغل الإسرائيلي في القارة السمراء.
أما في السودان، وبمعزل عن ارتكابات النظام وعن سوء إدارته للازمات المتوالدة فيه بلا انقطاع، متخذة احياناً شكل الحرب الدينية وأحياناً شكل الاضطهاد العرقي، فإن الأسباب الأصلية هي سياسية وقاعدتها صراع المصالح حيث يتداخل المحلي مع الإقليمي مع الدولي ويفيد كل طرف بحسب قدرته على استثمار نفوذه.
ومؤكد ان اسرائيل كانت على الدوام تلعب دوراً تخريبياً في السودان، كما أن بعض البعثات التي تلطت تحت ستار التبشير لعبت دوراً خطير في الجنوب، مما ساهم في اصطناع قضية دينية حيث لا مجال لأي صراع ديني.
ومؤكد أن الغرب قد خطط، منذ سنوات طويلة، لاستثمار الخلافات التي بلغت حد الصراع المسلح بين الجماعات المختلفة في دارفور، مصوراً تلك الخلافات كاضطهاد عرقي للسودانيين غير المتحدرين من أصول عربية.
فمنذ سنوات طويلة وكثير من المؤسسات السياسية والإعلامية وأجهزة المخابرات الدولية تحضر لتقسيم السودان، على قاعدة عرقية في جهات معينة، وعلى قاعدة دينية في جهات أخرى، ومن خلال تصوير النظام وكأنه سفاح لا يتعامل مع الفئات المختلفة من شعبه إلا بالقمع الدموي.
كان التقدير أن السودان سيكون اهراءات الوطن العربي، حيث يمكن للتعاون بين أصحاب الثروة وأصحاب الأرض الإفادة من نعمة النيل ومن اتساع أراضي السودان الصالحة للزراعة من أجل إنتاج ما تحتاجه هذه المنطقة العربية من المحاصيل الزراعية والقمح على وجه الخصوص، خصوصاً مع فائض الأيدي العاملة العاطلة عن العمل..
لكن ها نحن نخسر السودان، كدولة، من دون أن يفيد منه أهله الاقربون.
[[[
لا تقصد هذه الكلمات الإدانة أو التبرئة أو خاصة الدفاع عن نظام لم يعرف عنه تعلقه بالديموقراطية وحقوق الإنسان. وظلت طبيعته العسكرية تأخذه الى تغليب المنطق الأمني على المفاهيم السياسية.
لكن القصد لفت الاهتمام الى أن مجلس الأمن في عصر الهيمنة الاميركية المطلقة عليه بات المرجعية الوحيدة للشؤون التي كانت عربية فدوّلت وصار العرب فيها مجرد متهمين، وأحيانا شهود زور لا أكثر.
فمجلس الأمن مرجعية للبنان في الخلافات مع سوريا، مفتعلة كانت أم متوهمة، وهو ايضا مرجعية للبنان في العلاقة بين دولته والمقاومة التي حررت أرضه بالسلاح.
ومجلس الأمن، وما تفرع عنه، هو المرجعية في الخلاف على الصحراء بين الجزائر والمغرب، وها هو الآن يغدو مرجعية للصراع السياسي بين الحكم في السودان والمعارضات المختلفة، بعد إضفاء صورة الإبادة العرقية على بعض وجوه الصراع..
وهو المرجعية في شأن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وآخر قراراته خال من أي إدانة للحرب الاسرائيلية على غزة..
وما لا يكون مجلس الأمن مرجعيته تكون الإدارة الاميركية أو الاتحاد الأوروبي بالوكالة…
والعرب في شغل شاغل عن قضايا حياتهم ومستقبلهم، وكأنهم سلموا بأن غيرهم مصدر القرار في كل شؤونهم..
فلا عجب أن تكون هذه هي حالهم… خصوصاً وقد تناسوا الحكمة الإلهية التي تقول: ان الله لا يبدل ما بقوم حتى يبدلوا ما بأنفسهم..
وعسى الله يبعث الى العرب رجالاً إذا أرادوا أراد..
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية

Exit mobile version