طلال سلمان

مع الشروق قراءة في الحرب الإسرائيلية على غزة كل العرب تحت الحصار..([)

كشف حصار غزة حقائق منسية أبرزها وأخطرها ان مجموع الدول العربية المحيطة بفلسطين كل فلسطين، ومن ضمنها مصر هي المعنية بالحصار الإسرائيلي، قبل غزة وبعدها.
كشف الحصار ان لبنان محاصر براً وبحراً وجوا،
فالجو للطيران الإسرائيلي، والبحر والبر لقوات الطوارئ الدولية (نظريا). ويمتنع على اللبنانيين حتى ان يردوا على أي اعتداء إسرائيلي، لأنهم بذلك سيجدون أنفسهم في مواجهة مع قوات الطوارئ الدولية ومع القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والتي توهموا انها تحميهم وأنها صدرت من اجل تأمين حدودهم، لكن القراءة المتأنية للقرارات المعنية كما للوقائع على الأرض تدل على أن هذه القوات الدولية انما استقدمت لتكون ضمانة إضافية ـ وباسم العالم كله ـ لإسرائيل.. برغم أنها كانت وما تزال والأرجح أنها ستبقى حتى أمد طويل، أقوى عسكريا ـ واقتصاديا ـ من الدول العربية جميعا، متفرقة او متكاتفة.
كذلك كشف الحصار ان سوريا محاصرة، براً وبحراً وجواً،
فالجو للطيران الحربي الإسرائيلي (كما أثبتت الغارات العدوانية الإسرائيلية على الأراضي السورية، سواء على موقع عين الصاحب قرب دمشق، او على المنشأة العسكرية في دير الزور)..
والبر مسدود بقوات الطوارئ الدولية التي تتولى ـ عمليا ـ حماية المستوطنات المحروسة بقوات الاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوري.. أما البحر فيتولى حراسته والإشراف عليه الأسطول الاميركي السادس ببوارجه وحاملات طائراته التي تزايدت عددا، في السنوات الأخيرة، لحماية قوات الاحتلال الاميركي في العراق، ولمواجهة ما تسميه الدعاية الاميركية «الخطر الإيراني».
بالمقابل فإن الاحتلال الأميركي للعراق قد جعل سوريا مطوقة ومحصورة ومحاصرة بالقوات الاميركية المحتلة الى الشرق، والقوات الإسرائيلية الى الجنوب، والغرب للبحر ومن فيه… وقد أضافت الأزمة السياسية المتفاقمة خطورة في لبنان والتي استدعت الكثير من الدول اليه، وغالبا بذريعة حمايته من سوريا، أبعاداً دولية لهذا الحصار الذي تستفيد منه بداية وانتهاء إسرائيل.
فأما الأردن فقد حوله اتفاق الصلح المنفرد في وادي عربة الى محمية اسرائيلية. وليس سراً ان المخابرات الإسرائيلية تتصرف داخل الأردن وكأنه فضاء مفتوح. ولقد حدث ان نفذت هذه المخابرات عمليات اغتيال ومطاردة لقيادات فلسطينية في عمان ذاتها (محاولة اغتيال خالد مشعل، لمن نسي).
كذلك فإن «السياح» الإسرائيليين يجوبون أنحاء الأردن براحة، يمدهم بالأمان شعورهم بأن مظلة القوة الإسرائيلية تغطيهم، وبموافقة معلنة او ضمنية من السلطات الأردنية التي تنظر الى الفلسطينيين (الذين باتوا أكثرية في المملكة الهاشمية) بشيء من الريبة تفوق حذرها المفترض من العدو السابق: الإسرائيلي.
فأما مصر فقد كانت التصرفات الرسمية فيها إزاء الحصار الإسرائيلي على غزة، ثم الحرب الاسرائيلية على شعب فلسطين فيها، تدل على مدى الارتباك وافتقاد وضوح الرؤية عند اتخاذ القرار، ولقد أساءت بعض التصريحات العصبية، وكذلك بعض التصرفات وبعض الأحكام المتسرعة، إلى صورة مصر ومكانتها الراسخة في الوجدان العربي…
ولأن أحداً لم يكن يملك من المكانة أو من الأحقية او من القدرة على ممارسة الدور المصري في غزة، لأسباب تتجاوز الجغرافيا الى التاريخ، وتتجاوز السياسة الى صلات القربى ووقائع الحياة، فقد كان مستغربا ان يتطرف السلوك الرسمي المتوتر حتى حدود الحرب على «التدخل الخارجي» والمقصود هنا «غير الإسرائيلي» في غزة، كأنما الهجوم عليها قد نفذه جيش قوي هبط من المريخ.
استحضرت إيران بأكثر مما تقدر، حتى لو أرادت، ونسبت اليها مساعدة أهل غزة، وهذا أمر مشرف وليس معيبا، كما تم تصويرها وكأنها قوة عظمى تستطيع مواجهة الاميركيين والإسرائيليين، خارج حدودها، وتخترق العرب في المشرق والمغرب، وتستقطب كثرة من المسلمين ومعظم افريقيا وبعض أوروبا….
وكان هذا المنطق، في بعض جوانبه، مسيئا الى كرامة العرب جميعاً، اذ صورهم وكأنهم بالضرورة «اتباع» مجرد اتباع لهذه او تلك من القوى الدولية. كذلك فإن تضخيم الدور الإيراني كان يؤدي الى طمس الجريمة الإسرائيلية التي ترتكب في غزة، ضد أهاليها الذين هم بمعظمهم من اللاجئين في أرضهم، للمرة الثانية او الثالثة، بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم ومدارسهم، ولو كانت «اميركية» وتابعة لوكالة غوث اللاجئين.
أما في خارج مصر فقد تكوّن انطباع سرعان ما أكدته الوقائع وهو ان السلطة في مصر تتقصد التركيز على «خارج ما»، حتى لا تضطر الى التركيز على مسؤولية اسرائيل مما يطرح على الفور دور مصر بالتحديد في الرد على هذه الحرب الإسرائيلية.
بصيغة أخرى، لقد ضاقت السلطة في مصر بواقع انتباهها الى انها رهينة الحصار الإسرائيلي، وإنها مكبلة بمسلسل من الاتفاقات السياسية متعددة الأطراف وإن ظلت الولايات المتحدة الاميركية هي الأخطر بينها، وكذلك برزمة من الاتفاقات الأمنية بينها ما يتصل بالحدود، وبالذات مع قطاع غزة، والاتفاقات الاقتصادية الملزمة، حتى لو كانت مجحفة… وهذه أصوات الاعتراض المصرية على بعض تلك الاتفاقات المجحفة والتي تمس الكرامة الوطنية قد بلغت حرم القضاء، والمحاكمات مفتوحة… وكرد فعل عصبي فقد هرب المسؤولون الى الخلط بين الضحية والجناة.
في الوقت ذاته لم تكن مصر لترغب بأن تتنصل من مسؤولياتها المبدئية والمعنوية تجاه شعب فلسطين، ولم تكن تريد بأي حال ان تتبنى منطق حماس، ولا هي كانت تريد ان تتسبب في انهيار سلطة محمود عباس، خصوصاً انها كانت طوال الوقت ترعاها وتدافع عن «خيارها السلمي»، مع وعيها بأن إسرائيل قد دمرت هذا الخيار تماماً. فلما شنت إسرائيل حربها على غزة كانت تعلن بالفم الملآن ان السيف وحده يحكم العلاقة مع الفلسطينيين جميعا، المسالم منهم نتيجة يأسه من قدراته، او المحارب لعله بجهاده يفتح الباب مجدداً لحل غير مهين..
خلاصة القول إن مصر قد انتبهت، وان هي لم تعلن، أنها واقعة بدورها تحت الحصار الإسرائيلي، مثلها مثل غزة، بل ان الحصار عليها أشد.. وقد تأكد لها ان الحصار ليس إسرائيليا فقط بل هو اميركي أساسا وأن كانت ترجماته إسرائيلية. وقد تأكد لها ذلك بالملموس حين قفزت وزيرة خارجية إسرائيل ـ على حين غرة ـ الى واشنطن لتوقع فيها ما كان معداً ومحضراً من قبل وهو الاتفاق على مشاركة الولايات المتحدة الاميركية في فرض الحصار على المياه الإقليمية المصرية بذريعة مكافحة تهريب السلاح الى غزة.
وكان ذلك استفزازا مؤلما لمصر وكرامة شعبها وجيشها: أبعد هذه الرحلة الطويلة من التعاون مع الإدارة الاميركية، والذي لم يكن مجزيا لمصر، بل لعله كلفها ـ ماديا ومعنويا ـ اكثر مما تطيق، توجه اليها الإدارة الاميركية مثل هذه الإهانة العلنية؟!
ولقد ردت مصر، وكان لا بد ان ترد فترفض هذا التواطؤ عليها وعلى الفلسطينيين جميعا، وليس على حماس وحدها.
لكن هذا الرد لم يغير الأمر الواقع، ولا هو أسقط الإحساس العام السائد بأن الإدارة الاميركية تتقصد إذلال بلاد مصر والمصريين والوقوف مع الجلاد الإسرائيلي وهو يرتكب واحدة من أبشع المجازر ضد شعب فلسطين الأعزل الا من إرادته، جهارا نهارا وعلى مرأى من العالم أجمع.
فجأة، تبدت الحقيقة المرة أمام الجميع، من يعرف فيتجاهل، ومن لا يعرف فيهنأ في جهله، ومن يتغابى حتى لا يفتح عينيه فيتجرع المرارة مصفاة: ان إسرائيل تحاصر جميع العرب في دولهم من حولها جميعا.
وبغض النظر عن منهج حماس وعن «مغامرتها» في الاستيلاء على السلطة في غزة، رداً على ما اعتبرته تواطؤا بين السلطة في الضفة الغربية مع إسرائيل للتخلص من حقيقة انها فازت بالأكثرية المطلقة في انتخابات ديموقراطية تعطيها الحق في تولي الحكم،
وبغض النظر عن حقيقة ان الحرب على غزة كانت قراراً اسرائيلياً متخذاً لا ينقصه غير تحديد ساعة الصفر، ضمن جو عاصف من الخلافات العربية ـ العربية تشغل الجميع عنها، بل وقد توزع الدول العربية الى معسكرين متواجهين، مما يعطيها حرية العمل، بل ويوفر من يتبرع بالدفاع عن مذبحتها في غزة عبر تحميل المسؤولية «للمغامرين من عشاق السلطة في قيادة حماس»،
بغض النظر عن هذا كله، فإن ما لا يمكن غض النظر عنه ان هذه الحرب الإسرائيلية سرعان ما تحولت الى حرب دولية ضد حماس، تشارك فيها كثرة من الدول العربية، خصوصا ان الانقسام العربي قد سحب نفسه على الموقف من هذه الحرب، تماما كما سحب نفسه من قبل على الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز ـ يوليو ـ 2006، وإن كان هذه المرة بصورة اعنف، لان الموقف من حماس سابق على الحرب، ثم ان العديد من الدول العربية كان يسيء تقدير القوة المعنوية الهائلة التي يتمتع بها شعب فلسطين، ووعيه الوطني العظيم الذي يرتفع به فوق الخصومات العقائدية والخلافات السياسية ويجعله يهب للدفاع عن أرضه وحقوقه فيها، بدماء رجاله ونسائه وأطفاله ومنازله ومدارسه والمساجد والجامعات الفقيرة ومستودعات وكالة غوث اللاجئين التي باتت المصدر شبه الوحيد لأسباب حياة ما يزيد على المليون فلسطين، داخل الأرض وفي ديار الشتات.
من حق مصر، إذاً، ان تشعر انها مستهدفة بالحرب الإسرائيلية على غزة، خصوصاً ان اتهام حماس بالمسؤولية عن هذه الحرب لا يستقيم لا مع آلة الحرب الإسرائيلية الجهنمية ولا مع ذرائعها السياسية ولا خاصة مع وقائعها الميدانية.
ولكن بؤس الواقع السياسي جعل الحكومة المصرية تقبل بدور الوسيط، حيث لا مجال لدولة بأهمية مصر وخطورة دورها، فضلا عن هويتها القومية، ان تلعب مثل هذا الدور بين منظم المذابح الجماعية وبين ضحاياه من أبناء شعب فلسطين، في غزة، وهم بأغلبيتهم المطلقة من النازحين عن مساقط رؤوسهم واللاجئين بالاضطرار الى هذا القطاع المكتظ بسكانه، خصوصا انه شريط ساحلي ضيق لا يتسع بالكاد الا لأهله.. الأصليين، أي قبل النكبة 1948 وقبل هزيمة 1967.
انه العجز العربي المطلق، لا فرق جديا بين «الممانعين» و»المعتدلين»، فجميعهم تحت الحصار الذي يعجزهم عن القرار.
ولا يخفف من وطأة هذا العجز ان يقال ان لا أحد يستطيع مقاومة الهيمنة الاميركية التي تغطي الحصار الإسرائيلي للإرادة العربية جميعاً.
بل يمكن القول، براحة ضمير، ان هذا العجز العربي الشامل هو بين أسباب اكتساح «اليمين» الإسرائيلي، الأعظم عنصرية، والأعظم تطرفاً في رفض الحقوق البديهية للفلسطينيين في ما تبقى من أرضهم الوطنية، الانتخابات الأخيرة لكنيست الإسرائيلي.
إن كل تفريط عربي يرتد مزيدا من التطرف في إسرائيل، وكل فرقة بين العرب تزيد من ارتياح الإسرائيليين الى تطرفهم، بل هي تغريهم بالمزيد من التطرف، طالما ان تطرفهم هو الطريق الأقصر للانتصار على كل عربي على حدة، ومن ثم على مجموع العرب.
وكل خلاف عربي ـ عربي يتسبب في إفقاد العرب ما تبقى من تأييد دولي لقضاياهم المحقة.
وها نحن نشهد محاولة جديدة، دولية معززة عربياً، لتكريس الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، عبر الحديث عن مليارات الدولارات المخصصة من دول شتى تحت عنوان إعادة إعمار غزة، مع اشتراط حصر المسؤولية بالسلطة الفلسطينية التي وصل الخلاف من حولها بين الفلسطينيين الى حدود تقارب الحرب الأهلية.
الخطر ان يكون هذا المشروع سبباً لتبرئة إسرائيل من المسؤولية عن حربها التي لما تتوقف ضد شعب فلسطين في غزة، ومن ثم لاستيلاد أسباب جديدة للاشتباك بين الفلسطينيين يغطي على الجريمة الإسرائيلية ويمنع إعادة الاعمار.
والأخطر ان يكون هذا المشروع هو المدخل لإغراء الفلسطينيين بالتخلي نهائيا عن فكرة الكفاح المسلح، وعن المقاومة، والاستكانة الى أوضاعهم كلاجئين ولكن في بيوت نظيفة بناها السخاء العربي والتعاطف الدولي… ووداعا لحلم التحرير.
ولقد شهدنا في لبنان تجربة مؤلمة لنتائج الانشقاق الوطني تجاه العدو الإسرائيلي، حيث كاد بعض القوى السياسية يبرئ إسرائيل من المسؤولية عن الحرب على لبنان ليحاصر المقاومة وأهلها تمهيداً للابتزاز السياسي في لعبة السلطة، ودائما بتحريض وتشجيع من الخارج. وكان بديهياً ان يستخدم المال الخارجي الآتي باسم إعادة الاعمار في هذا المضمار، خصوصاً ان مقدميه أرادوا به نصرة طرف على طرف آخر… بحيث تبدو المقاومة مسؤولة عما أصاب لبنان من تدمير، بينما يبدو «أنصار الحل السلمي» وكأنهم «بناة لبنان الجديد».
والخوف ان تتكرر هذه التجربة في فلسطين، وأوضاعها سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، اكثر هشاشة من اوضاع لبنان، بحيث يصبح المال الآتي تحت شعار إعادة الاعمار سببا لمزيد من الانقسامات التي تأخذ الى الفتنة.
ولا يمكن النظر ببراءة الى تصريحات السيد خافيير سولانا، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وبعد زيارته قطاع غزة، والتي قال فيها ان المساعدات لن تسلم إلا للسلطة في رام الله… انه بذلك يرمي مزيدا من الملح على الجرح الفلسطيني، ويستبق الجهود المصرية، المعززة عربيا، لإجراء مصالحة بين الفصائل الفلسطينية، بحيث يواجه الجميع ـ موحدين ـ مهمة إعادة بناء غزة، عبر إعادة بناء السلطة على قاعدة متينة من الوحدة الوطنية.
أما استخدام المال لزيادة مساحة الشقاق بين الفلسطينيين فلا يمكن أن يخدم إلا أهداف الحرب الإسرائيلية،
وهكذا فالخوف ان نكون أمام مرحلة جديدة من تعزيز الحصار على العرب، دولاً وشعوباً، والضغط به لزيادة الشقاق الى حد تفجير المزيد من الخلافات وصولاً الى حروب أهلية جديدة.
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية

Exit mobile version