هل هدأت عاصفة الغضب الكروية التي أضاعت العقول وأساءت إلى كرامة الدولتين الكبيرتين، مصر والجزائر، والى الروابط الأخوية والقيم النضالية ذات التاريخ المشرف بين الشعبين الشقيقين، وكنا نراها النموذج الأرقى للعلاقات بين الأشقاء المستهدفين جميعاً بخطر الاحتلال والهيمنة الأجنبية؟
هل بات ممكناً أن نراجع، بهدوء، ما حدث وجعلنا موضع التندر والسخرية في العالم أجمع، فأساء الى كرامة كل عربي وأي عربي داخل الوطن وخارجه: أمن أجل «ركلة» يسقط المقدس من العلاقات بين الأخوة، وتكاد تدوسه الأقدام، أمام عيون الكون كله، بالأصدقاء المستهجنين الى حد عدم تصديق ما تراه عيونهم وما تسمعه آذانهم، وبالأعداء الشامتين والمتشفين وقد جاءتهم الهدية الثمينة بلا طلب ومن حيث لا يتوقعون، وعنوانهم الدائم: إسرائيل، التي تتعاظم مكانة وقدرة بنسبة ما يخسر العرب او يزيد؟!
هل باتت العودة الى المنطق والمصلحة المعززة بالروابط الأخوية ممكنة، خصوصاً أن الرجوع الى العقل هو السبيل الوحيد لوقف الموجة الانتحارية التي سادت بين دولتين شقيقتين، جمعت بينهما روابط استثنائية كانت لها تأثيرات تاريخية، كان مقدراً لها ان تشكل القدوة والمثال في علاقات الدول العربية بعضها بالبعض الآخر؟!
لقد سال حبر كثير، معظمه غير نظيف، وارتفعت أصوات عديدة، معظمها موتور، فيها الرياضي وفيها الإعلامي وفيها لمؤسسات كانت محترمة، ولكن نتيجتها جميعاً سياسية، تحاول تهشيم التاريخ الذي صاغ وجدان أجيال عربية عديدة، وتحقير المقدس بين أشقاء لم يسبق ان كان بينهم نزاع او خصومة او تنافس عدائي، لا على الدور ولا على الحدود ولا في المصالح.
فعلى امتداد حقبة زمنية طويلة، استمرت لعقدين او أكثر، توحدت في الوجدان صورة مصر والجزائر، كنموذج فذ للعلاقات النضالية بين شعبين شقيقين، ثم بين دولتين، جمع بينهما الرباط المقدس في الهوية الواحدة والمواجهة البطولية لقوى الاحتلال الأجنبي، طلباً لتحرير الإرادة والأرض.
هل بات ممكناً أن أروي شيئاً من ذكريات فتى من جيل وعى الدنيا، ومصر تختلط فيها عاطفة الأم ووهج الكتاب والجامعة والصحيفة وملامح البطل الذي طال انتظاره للخروج من ليل التخلف والضياع والتفكك الذي أثمر الهزيمة العربية المدوية: ضياع المقدسة فلسطين؟!
أول تظاهرة سرت بين جماهيرها الحاشدة ترفرف علينا أعلام مصر وصورة جمال عبد الناصر كانت في أعقاب القرار التاريخي بتأميم قناة السويس في 23 يوليو ـ تموز ـ 1956.
كانت ثورة الجزائر من اجل استعادة هويتها (ودينها) تنهي بالكاد عامها الثاني، تصلنا أخبارها عبر القاهرة، فتؤكد فينا الشعور بوحدة المصير… ربما لهذا امتزجت في هتافاتنا الحارة مصر والجزائر، كما امتزجت في شعورنا بالعداء صور بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وكان ذلك بديهياً، لم ينظمه أحد.
بعد ذلك لم يغادر أبناء جيلي الشارع لسنوات عديدة: وقع العدوان الثلاثي على مصر، وهرعناـ بعد التظاهرات ـ نبحث عن مراكز التطوع ، بينما كانت أمهاتنا وأخواتنا يتخلين عما يملكن من ذهب قليل (الأساور والخواتم والحلي) للتبرع بها مناصفة: لجيش مصر ولثوار الجزائر.
ولسوف نبقى في تظاهرة مفتوحة: جاء الانتصار على العدوان الثلاثي مدوياً، بالمعنى السياسي، فرفع معنوياتنا عالياً جداً، ولقد رأينا فيه دعماً عظيماً لثورة الجزائر التي يقاتل مجاهدوها الأبطال الاستعمار الفرنسي الذي شارك بريطانيا وإسرائيل في العدوان الذي صار ثلاثياً كعمل انتقامي من مصر بشعبها وجيشها بسبب من دعمها لثورة الجزائر، وحق شعبها في استعادة هويته التي انكرها عليه الاحتلال وحاول ان يفرض عليه الفرنسة، مروجاً لنظرية ان الجزائر هي فرنسا ـ عبر البحار، خصوصاً وقد منع فيها تعلم اللغة العربية وبناء المساجد ورفع الأذان. (هل هي مصادفة أن تقدم إسرائيل الآن على منع أذان الصبح في المسجد الأقصى)؟!
كانت سوريا قد أوقفت النفط العراقي المسحوب عبر أراضيها الى مصفاتي حمص وطرابلس، بنسف الأنابيب، باعتبار أن الشركة المالكة بريطانية ـ فرنسية… وبالمقابل كان الآلاف من الشبان السوريين قد سجلوا أسماءهم كمتطوعين، واستعدوا للذهاب الى حيث تطلب القيادة في القاهرة، وكأنهم لم يكتفوا بأن القيادة السياسية في سوريا أبلغت مصر استعدادها لإرسال جيشها للقتال الى جانب رفاق سلاحه المصريين.
كان المشرق العربي في حالة غليان: الكل يريد ان يشارك المصريين في معركة الشرف وصد العدوان الثلاثي… وليست مبالغة أن يقال إن كل بيت في فلسطين (التي لم تكن إسرائيل قد أكملت احتلالها بعد) ولبنان وسوريا والعراق وصولاً الى الجزيرة العربية بشمالها وجنوبها اليمني قد حاول وسعى بكل طاقته لأن يشارك في نصرة مصر التي استحقت بجدارة ان تكون القيادة العليا للعرب جميعاً في مشرقهم والمغرب.
من باب التذكير فقط يمكن الإشارة الى أن «الشارع» في بيروت قد أسقط شرعية رئيس الجمهورية، آنذاك، كميل شمعون، لتردده في اتخاذ الموقف البديهي في دعم مصر. ولم ينفع ادّعاؤه انه حاول عقد قمة، كان معظم من حضرها من المشكوك في وطنيتهم وفي صدق أهدافهم منها… وذاك ما سوف يستكمل بعد حين في ثورة شعبية ضد التجديد للرئيس الذي خالف إرادة شعبه.
مع احتفال مصر بعيد النصر، في أواخر عام 1957، كانت سوريا بشعبها وجيشها وأحزابها وقيادتها السياسية تتوجه الى مصر طالبة التوحد معها، تحقيقاً للأمنية العربية الغالية في قيام دولة للوحدة تجمع الشتات العربي وتبني القوة التي تحصن الأمة في وجه أعدائها وتمكنها من بناء الغد الأفضل المرتجى.
ولم يتأخر موعد تحقيق الحلم كثيراً، خصوصاً ان السوريين قد تعجلوه أكثر مما يجوز، ففرضوا على جمال عبد الناصر قيام دولة الوحدة، قبل ان تستكمل الركائز الضرورية لبنائها.
يستحيل علي أن اصف المشهد الأسطوري الذي عاشه السوريون وعشناه معهم، في دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية والقامشلي ودير الزور، خلال استقبالهم للقائد المصري الذي حقق الحلم العربي في التحرر والوحدة: جمال عبد الناصر.
لقد زحف نصف الشعب اللبناني، على الأقل، الى دمشق لتحية بطل الإنجاز التاريخي، مسلمّين بقيادة مصر للأمة العربية جميعاً في سعيها الى التحرر والوحدة والمنعة، وقد رأوا في هذا الإنجاز التاريخي خطوة واسعة على طريق تحرير فلسطين، ودعماً جدياً ومحسوساً لثورة الجزائر من اجل إنجاز أهدافها في استعادة هويتها الوطنية (العربية) بالتخلص من مستعبدها الفرنسي بالثورة التي كان العرب جميعاً يعرفون ان مصر هي مصدر دعمها الأعظم، سياسياً على المستوى الدولي بالسلاح والتدريب.
وفي هذا الجو الملتهب حماسة والمعزز ثقة المواطن العربي بذاته، قامت ثورة 14 تموز ـ يوليو ـ في العراق لتنهي الحكم الملكي فيها وتعلن الجمهورية مقتربة بالموقف من قيادة الثورة العربية في القاهرة.
ولقد تسنى لي أن أشهد ـ في ما بعد، وتحديداً في أواخر أيلول ـ سبتمبر 1962ـ قيام جمهورية الجزائر الديموقراطية الشعبية، وأن أتابع موكب النواب في أول جمعية تأسيسية (برلمان) وهم يدخلون الى تلك القاعة لينتخبوا أول رئيس لهذه الدولة التي استولدتها الثورة… وسمعت من القادة التاريخيين كما من المواطنين العاديين الشهادات الصادقة عن الدور المصري الحاسم في نصرة هذا الشعب الذي كان مسلوب الأرض والهوية.
ولقد دعاني شاب جزائري الى منزله ليسمعني ـ متباهياً ـ تسجيلات يحتفظ بها في صندوق ورثه عن أجداده، وكانت مجموعة من خطب جمال عبد الناصر وتعليقات او مقدمات نشرات إخبارية او مناسبات احتفالية لجلال معوض ومحمود عروق وأحمد سعيد، او أغاني ثورية لأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.
وكان واضحاً لكل من يريد ان يعرف ان السفير المصري هو في موقع المرجعية في الجزائر التي أعادتها الثورة الى هويتها الأصلية…
[[[
الدور هو الذي يصنع المكانة. ومنذ منتصف الخمسينيات وحتى وفاة جمال عبد الناصر في 28 أيلول ـ سبتمبر ـ 1970، كان العرب يسلمون بأهلية مصر لأن تقودهم، في الحرب كما في السلم. لقد عززت فيهم شرف الانتماء الى الأمة، ووحدت بين شعوبهم على طريق أهدافهم المرتجاة وأولها الثقة بالنفس والقدرة على الإنجاز والأهلية لصنع الغد الأفضل.
ولقد كنت ألمس بالمحسوس الفجوة الواسعة بين نظرة العرب الى نظام عبد الناصر وبين نظرة المصريين الذين كانوا يريدون منه ان يطوي أعلام الثورة وأن يهتم بالداخل وشؤونه وشجونه الثقيلة… لكن هذه النظرة كانت ظالمة جداً لأن مصر تلك قد دخلت فاستقرت في قلوب العرب جميعاً، بل وفي قلوب الشعوب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وسائر المضطهدين والمحرومين من حقوقهم بل ومن إنسانيتهم في مختلف أنحاء العالم.
وشرف القيادة أسمى من أن يقدر بالكلفة التي دفعت لتحقيقه، خصوصاً ان العرب عموماً، ومع استثناءات تشمل تلك الأنظمة التي كانت خاضعة للهيمنة الأجنبية، قد أعطوا مصر بقدر طاقتهم. فكانت مصر هي صاحبة القرار في مختلف الشؤون العربية، مشرقاً ومغرباً، وهي المرجعية المسلم لها بشرف القيادة. صارت مصر طرفاً مقرراً في السياسات الدولية.
وليس من التفصيل ان نذكر بأن العرب ـ على اختلاف توجهاتهم ـ لم يسلموا يوماً بحق أي دولة من دولهم بشرف القيادة إلا مصر.
كذلك ليس من التفصيل أن جيلاً كاملاً من طلائع المثقفين والكتاب والدارسين قد جاء الى مصر، بقرار واعٍ، فدرس في جامعاتها، ثم عاد الى بلاده ليتولى المناصب ومواقع القرار متباهياً بأنه خريج جامعة القاهرة او الإسكندرية، وأنه قد تطوع، مثل أبنائها، ليقاتل معهم أعداءها… وأن جيلاً من الأمهات قد اندفعن ينزعن مصاغ حفلات زفافهن ليرسلنها تبرعات عينية، أو ليدفعنها في حفلات السيدة العظيمة أم كلثوم، من اجل عودة مصر بجيشها الى الميدان الأصلي في مواجهة الحرب الإسرائيلية، التي كانت وما زالت وستبقى مفتوحة حتى يستعيد شعب فلسطين حقه في أرضه التي بذل جيلان او ثلاثة أجيال من أبنائه دماءهم من اجل تحريرها.
وليس من باب التمني العاطفي الساذج أن يلتفت العرب الى مصر مفتقدين دورها الذي لا تغني عنه أية دولة عربية أخرى، فلقد نشأوا وشبوا وفي يقينهم ان مصر هي «دولتهم»، خصوصاً ان معظمهم يعيشون في «دول» اصطنعت على عجل، ولأغراض أجنبية، أساسها حماية إسرائيل والتمكين لها في الأرض العربية، وإدامة هيمنتها على القرار العربي مستعينة بالدعم الدولي المتواصل لها ( بريطانيا بداية، ثم الولايات المتحدة دائماً).
وحده الجاهل او المكابر او الأعمى بالغرض او بالتبعية هو الذي ينكر دور مصر، ولكن السؤال ـ الأساس: هل تريد مصر الدور القيادي الذي لا يعوضه احد أم انها قد تنصلت منه وتخلت عنه، ولم تعد تريده، إما لأنها لم تعد قادرة على أدائه، لأسباب خارجة عن إرادتها، وأما لأنها اختارت العزلة خلف اتفاقات الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي ولسان حالها يقول لإخوانها العرب: اذهبوا انتم وربكم فقاتلوا. لقد أديت قسطي للعلى، ودفعت الثمن غالياً، وآن لي أن ارتاح من أثقالكم.
…ولكنه دور لا يمكن الاستقالة منه، ليس بسبب العرب او من اجلهم، ولكن بسبب من تكوين مصر ذاتها وقدراتها وحقها الطبيعي في القيادة، اذا ما هي أرادتها بكل ميزاتها العظيمة وبكل أعبائها الثقيلة أيضاً.
ليس عند العرب بديل من مصر، ولا هم سلّموا «بالبدائل» التي توهم قادتها انهم يعوضون مصر فخاب فألهم، حتى ومصر غائبة. أما مصر فإنها إن تخلت عن دورها العربي تقوقعت وانحسر نفوذها وتابعت بعجز الحسد تطاول دويلات نفطية صغيرة جداً على حقها في القيادة.
وبالمقابل فإن العرب لا يتصورون ان يخسروا الجزائر التي سكنت بثورتها المجيدة وجدانهم، وعززت فيهم الإحساس بالقدرة على الإنجاز بطرد المستعمر واستخلاص استقلالها وهويتها… ودينها الحنيف الذي كان يتهدده خطر الاندثار بسبب التجهيل المفروض على شعبها وتحريم الشعائر الدينية وتدريس القرآن الكريم.
يكفي العرب ما لحق بهم من خسائر أصابت دولهم جميعاً، بدءاً بمصر وصولاً الى الجزائر، مروراً بفلسطين التي تكاد تندثر (شعباً وقضية مقدسة) وانتهاءً بالعراق تحت الاحتلال الاميركي من غير ان ننسى اليمن التي يتهددها خطر التفكك والتشطر دويلات بعدد قبائلها وبحسب مطامع جيرانها الأقرب فالأبعد.
ان كل خسارة تلحق بالعرب، مشرقاً ومغرباً تخصم من قيمة مصر، وليس العكس صحيحاً بأي حال…
وها أن العرب قد أصيبوا بخسارة فادحة ولا تعوض بفضيحة صراع الأقدام بين مصر والجزائر، التي أثارت «الأسى عند إسرائيل» كما عبر رئيسها شيمون بيريز الذي تغطي يديه ووجهه دماء الفلسطينيين ومعهم الكثير من المصريين وسائر العرب، بمن فيهم أبناء الجزائر وقد شاركوا في الحربين: تلك التي شنتها إسرائيل على العرب في 5 يونيه ـ حزيران ـ 1967، او تلك التي مشت اليها مصر وسوريا بقرار واع في 6 تشرين الأول ـ أكتوبر ـ 1973، ثم ضيعت الغفلة او الصفقة نتائجها الأولية الباهرة التي ما تزال موضع فخار العرب جميعاً، لتنتهي بافتراق العرب، ليس عن بعضهم بعضاً فحسب بل عن تاريخهم ومستقبلهم فضلاً عن حاضرهم الكارثي.
لقد خسرت مصر كثيراً، وخسرت الجزائر كثيراً، لكن العرب خسروا ما لا يعوض من جدارتهم بأن يكونوا مؤهلين لحماية وجودهم ذاته، وليس كرامتهم فحسب.
وكرامة العرب واحدة في كل أرضهم، وما تخسره الجزائر لن تربحه مصر والعكس بالعكس، وفي النتيجة فإن العرب بمجموعهم هم الخاسرون.
والسؤال: هل من سبيل الى تعويض مصر والجزائر، وبالتالي العرب ـ كل العرب ـ الخسارة الفادحة في سمعتهم وفي رصيد مكانتهم الدولية.
ويبقى الخطر قائماً من أن تكون مصر التي خرجت من ميدان فلسطين وأقفلت أبوابها العربية على ذاتها قد وفرت المبرر والعذر للدول العربية الأفريقية في الخروج بدورها من هذا الميدان، وبهذا تصبح مهمة إسرائيل في تهويد فلسطين أسهل بما لا يقاس، وربما بعدها تصبح «شيخ الصلح» بين عرب المشرق وعرب المغرب!
وماذا ترانا نقول لهذا الفتى الفلسطيني الذي حاول المستوطن الإسرائيلي قتله بدهسه مرات ومرات بسيارته بعدما أطلق عليه رصاصات مسدسه؟!
وماذا ترانا نقول لأهل القدس الذين تهدم بيوتهم على رؤوسهم، وللمسجد الأقصى الذي باركنا حوله وإسرائيل تمنع أذان الفجر فيه؟!
وكيف السبيل لأن نهتم بما تحققه الرؤوس، أولاً، ومن بعدها الأقدام؟!
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق المصرية»