استسلم «النظام العربي» لمبدأ انه لا يملك حق القرار في شؤونه!
انه يعيش يوماً بيوم، يتصرف بما بين يديه، منتظراً أن يسمع ما يفيده بل ما يقرر له غده!
من أبسط النماذج، كما هي حالة لبنان، الى أقساها وقعاً، كما هي حالة العراق المضيع مستقبله ككيان سياسي وشعب دفع من دمائه غالياً ثمن اندثار دولته وتمزق روابط وحدته الوطنية، وانتهاءً بشعب فلسطين الذي تتلاشى تدريجياً قضيته التي كانت مقدسة لتغدو أشبه بمسألة خلاف عقاري مع الاحتلال الإسرائيلي.
ومن خلال الوقائع اليومية، يتبدى وكأن «العرب» قد أخلوا مكانهم في الجغرافيا كما في التاريخ، وارتضوا أن تطمس هويتهم الجامعة، فيصيروا رعايا للدولة الأقوى ـ حتى لا نقول الوحيدة ـ في المنطقة التي كانت عربية فصار اسمها المعتمد رسمياً حتى من طرف حكامها: منطقة الشرق الأوسط. ومع هذه التسمية يصبح كل ما حول فلسطين المحتلة، شمالاً وجنوباً وشرقاً، «أنحاء» أو «جهات» لا تشكل حدوداً لإسرائيل بل هي مداها الحيوي.
في الماضي، كان النظام العربي يراهن على الإدارة الأميركية في معظم شؤونه، ما تدعمه فيه يكون، وما لا تدعمه فيه يفضل أن يستغني عنه أو يرجئ البحث فيه, وكانت فلسطين ـ القضية وحقوق أهلها فيها هو العنوان. وهكذا من إدارة الى إدارة أميركية جديدة كانت فلسطين تذوب تدريجياً، أرضاً وقضية وحقوق شعب.
اليوم لا يكاد مسؤول عربي يتحدث الى الإدارة الأميركية عن شعب فلسطين وحقوقه في أرضه، مخلياً طرفه من المسؤولية، تاركاً للقيادة الفلسطينية الرسمية (التي لا تملك قرارها، والمفلسة، والمقتتلة في ما بين أطرافها) أن «تفاوض» على ما لم تعد إسرائيل تقبل مبدأ المفاوضة عليه: أي الأرض والحق في «دولة» على أية مساحة من أرض فلسطين.
بل ان هذا النظام العربي قد سلم «بيهودية» دولة إسرائيل، بعدما اقترنت بالتأييد الأميركي العلني الذي قدمه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ولم ينقضه الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما. هذا اذا نحن لم نفترض انه قد أيده علناً وأمام العرب (والمسلمين) جميعاً، من خلال خطابه التبشيري في جامعة القاهرة، خلال زيارة الساعات لمجموع حلفائه العرب، والتي توقعوا منها الكثير فلم يأخذوا منها إلا الإعجاب بفصاحة الرئيس الأسمر ومجاملاته العديدة مشفوعة بآيات من القرآن الكريم!
لم يعرف المواطن العربي ماذا دار في اللقاءات الرسمية بين بعض القادة العرب والرئيس الأميركي، سواء خلال «رحلة الحج الدينية» أو خلال استقباله بعضهم في واشنطن.
لكن هذا المواطن الذي يلمس التراجع المنهجي للرئيس الأميركي عن بعض الوعود التي ثبت أنها كانت أقرب الى التمنيات منها الى «القرار»، قد أدرك ان عليه ألا يتوقع الكثير من الإدارة الجديدة التي توهم أنها ستكون مختلفة جذرياً عن سابقتها، فاكتشف أنها قد غيرت في الأسلوب أما الاستراتيجية فلا تزال هي نفسها، وان كان من مصلحة الإدارة الجدية أن تشهر بأخطاء الإدارة السابقة في العجز عن التنفيذ، أو في الكلفة العالية للتنفيذ!
يكفي كمثال أن نستمع الى تصريحات نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن خلال زيارته للعراق تحت الاحتلال، والتي كانت رنة التهديد فيها طاغية حتى استفزت من يحكمون بدعم جيوش الاحتلال الأميركي للعراق.
وإذا كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد أطلق كذبة تستعصي على التصديق مفادها أن مصير العراقيين قد بات في أيديهم، فإن نائبه قد «أنب» الحكومة العراقية واتهمها بالتقصير والفساد وحملها المسؤولية عن مخاطر تقسيم العراق… ومع أنه حاول «توضيح» تصريحاته عن ضرورة إشراك حزب «البعث» في القرارات الخاصة بمستقبل العراق، فإنه قد تصرف على طريقة «رمتها بدمائها وانسلت».
أما في فلسطين فالمعادلة أعظم بؤساً: بقدر ما تتعاظم تضحيات الفلسطينيين، شهداء ومعتقلين، فإن الاختلال الفادح في بنيتهم السياسية، معززاً بشهوة السلطة، ومبرراً بالتخلي العربي (وأحيانا بالضغط لمزيد من التراجعات) كل ذلك يصيب قضيتهم بأضرار معنوية وسياسية فادحة لا يمكن تعويضها… بل إن التصلب الإسرائيلي المعزز مباشرة بالتخلي العربي، الذي غالباً ما يتخذ شكل التواطؤ الذي لا حاجة الى التستر عليه، يحقق اختراقات مفزعة في «الطبقة السياسية» الفلسطينية التي صارت «السلطة» ـ ولو تافهة وعاجزة ـ أعز عليها من فلسطين الوطن والقضية.
وعبر الصراع الذي بلغ حدود الحرب الدموية بين «السلطتين» العاجزتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، توالت التراجعات عن كثير مما بقي من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه… وسط مزايدات ومناقصات عربية تغري كلاً من الطرفين الفلسطينيين على المضي في عدائه للآخر الى الحد الأقصى، مع وعي القيادات العربية أن هذه التراجعات ليست في حقيقتها فلسطينية بل هي «عربية» ستدفع ثمنها الدول العربية جميعاً بدءاً بمصر مروراً بسوريا وانتهاء بالسعودية وأقطار الخليج، فضلاً عن أقطار المغرب العربي التي نأت بنفسها عن المشكلة الفلسطينية شديدة التعقيد ودائماً تحت شعار: لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وأهل مكة أدرى بشعابها، ونحن مستعدون لمساعدتهم اذا هم اتفقوا. أما وإنهم مختلفون فلا مجال لمديد العون اليهم، خصوصاً أننا ـ يشهد الله ـ قد حاولنا التوفيق بينهم مرات ومرات، وكانوا يتعهدون لنا ثم ينقضون تعهداتهم، حتى والله قد تعبنا منهم. إنهم يطالبون بالقرار المستقل. حسنا! لهم ذلك!
خبر واحد أسعد أهل النظام العربي، في الفترة الأخيرة، ورأوا فيه بشارة خير، وأمدهم ببعض الاطمئنان الى مستقبلهم، ذلك هو ما يتصل بالأزمة السياسية التي شهدتها إيران بعد الانتخابات الرئاسية فيها، والتي توهم بعض القيادات العربية أنها «ثورة على الثورة» أو «مشروع انقلاب على النظام» أو «مقدمة لإسقاط حكم المرشد وولاية الفقيه».
واذا ما افترضنا أن الإعلام العربي ومعظمه«رسمي» أو «شبه رسمي» يعبر عن سياسة النظام العربي نفسه، لجاز لنا القول إن هذا النظام قد تصرف بجهل ما بعده جهل بطبيعة الحكم في الدولة التي يرى فيها مصدر كل الشرور والأخطار!
لقد بدا هذا النظام العربي متحالفاً مع إسرائيل، وان ظل المسؤولون الإسرائيليون أكثر تحفظاً من معظم الناطقين باسم النظام العربي، في حين اعتمدت الإدارة الأميركية لهجة تحذير وتنبيه، لا تصل الى حد العداء، ولا تتورط بالرهان على سقوط المؤسسة الحاكمة في إيران، بل هي تحاول استثمار هذا «الانكشاف» لتليين شروط التفاوض مع هذه المؤسسة بالذات، وهو تفاوض سيتجاوز إيران الداخل، الى المنطقة من حولها، بدءاً بأفغانستان مروراً بباكستان وصولاً الى دولنا المهددة بضعف أنظمتها تجاه الخارج (وقوتها على شعوبها) وأولها العراق تحت الاحتلال الأميركي وكل ما يجاوره.
من فلسطين الى العراق، مروراً بلبنان، قدم النظام العربي خصومته لإيران على مصالحه الحيوية، وأهدى الأميركيين موقفاً مجانياً من شأنه أن يعقد علاقاته في المستقبل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو أمر يفيد أولا «عدوه» القديم، إسرائيل، كما يفيد الأميركيين، وهم في موقع المحتل لبعض أرضه تماماً مثلهم مثل إسرائيل. ففلسطين غالية، لكن العراق ليس رخيصاً.. ثم إن العراق كان بعض مصادر الأمل في مستقبل عربي أفضل.
إن العرب يخسرون كل يوم، وفي كل مكان: في المغرب كما المشرق.. وهم لا يخسرون من حاضرهم فقط ولكنهم يخسرون أو هم يتسببون في خسارة أجيالهم الآتية حقها في مستقبلها.
إن خبر «عبور» الغواصة الإسرائيلية المياه الإقليمية المصرية، في البحر الأبيض المتوسط قبل قناة السويس ثم بعدها الى البحر الأحمر، ليس خبراً عادياً: إنه يمثل هزيمة سياسية جديدة، لا تجد من يتقدم لتبريرها أو محاولة تفسير دواعيها، في هذه اللحظة السياسية بالذات.
حتى معاهدة الصلح، وبمعزل عن الرأي فيها، لا تبرر مثل هذا الاختراق الذي لم نسمع من يشرح لنا دواعيه.
كذلك لا يبرر هذا «التجاوز» الإسرائيلي، بل هذا القبول المصري بالتجاوز، «وحدة الموقف من إيران».
قد تكون ثمة خلافات سياسية بين بعض النظام العربي وإيران ولاية الفقيه، ولكنها لا تكفي لتبرير الاندفاع في الحرب ضدها بأكثر من الإدارة الأميركية، بل حتى أكثر من إسرائيل ذاتها.
وليس من بعد النظر أن نستعدي دولة جارة كبرى بينما بعض أرضنا محتل (العراق، فلسطين)، وبعضه الأخر مهدد. وهذه إسرائيل تعلن بغير تهيب أو اعتبار للعرب جميعاً أنها ليست معنية بمشكلة «اللاجئين» الفلسطينيين، الذين شردتهم من ديارهم بالمذابح الجماعية، بل ان مسؤوليتهم تقع على عاتق الدول العربية المضيفة!
… وهذه قضية خطيرة تستحق وقفة خاصة أمام تفاصيلها المأساوية غير المسبوقة، والتي «قلب» الرئيس الأميركي أوباما في خطابه في القاهرة معطياتها فجعلها نتيجة للمحرقة الألمانية ضد اليهود، وكأن شعب فلسطين كان مسؤولاً عنها… متناسياً أن المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين وإقامة الدولة اليهودية سابق على المحرقة بنصف قرن، كما أن وعد بلفور سابق على المحرقة بربع قرن.. تماماً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية