هل جاءت لحظة الحقيقة وآن الأوان للاعتراف بأن الوضع في لبنان، وبمعزل عن رغبات أصحاب النوايا الإصلاحية، فضلاً عن أصحاب مشروعات التغيير، يقترب من ذروة الخطر: فالانشقاق يتعاظم حول صورة »الوطن«، نظامه ومؤسساته والسياسات الواجب اعتمادها، اقتصادياً واجتماعياً، وعلاقاته مع الغير، محيطه العربي بداية ثم مع الخارج الاجنبي.
…بل إن هذا الانشقاق قد بدأ يلامس ما لا يمس: طبيعة »العلاقة« مع العدو الاسرائيلي، ولو عبر الموقف من المتعاملين معه، والذين ليس لهم في اي بلد آخر تسمية أخف من »الخونة« سوى »المتعاونين مع العدو«؟!.
تكفي مراجعة متسرعة للبيانات والخطابات والتصريحات المتلفزة، فضائياً وأرضياً، مرتجلة ومكتوبة، لمسؤولين في السلطة أو عنها، ولقيادات في المعارضات التي ما ان ائتلفت حتى اختلفت الى حد التناقض المنذر بالتصادم، حتى يدرك المواطن أن ما تخوف من حدوثه قد صار واقعا: إن لبنان عاد، مرة اخرى، او إنه ما زال في دوامة البحث عن الذات، لكأنما قد ضاع اللبنانيون عن اليقين أو ضاع منهم، فتفرقوا مرة اخرى طوائف ومذاهب شتى، خارجين من »السياسة« الى ما دونها، ومن مشروع الحل الذي يستنقذ »التسوية« ويمكّن لها الى المجهول.
ان لبنان، سلطة وشعباً، في ضياع: لا مرجعية وطنية لها بقوة تمثيلها الكلمة العليا في شؤونه، ولها برنامجها المتفق عليه بقوة الحاجة والضرورة معاً، فمن خرج عليها (وعليه) كان كمن ينتحر سياسيا.
ثم إن اللبنانيين عادوا الى الظهور، مرة اخرى، ومن خلال قياداتهم المفردة او منظماتهم وأحزابهم السياسية الى المربع الرقم واحد، اي الى الاختلاف على البديهيات والثوابت التي تشكل الاساس لقيام الدولة ودوامها.
مفهوم »الوطنية« موضع جدل… فإذا اعتبر من قاتل مع العدو الاسرائيلي هو نموذج »الوطني«، فمن البديهي والحال هذه ان يصبح المقاوم الذي قاتل هذا العدو ليحرر الارض مصدرا للخطر على »الوطن« ووحدة شعبه، لا سيما انه مطارد بقرار الشرعية الدولية بوصفه »ميليشيا« لا بد من تجريدها من السلاح، تمهيداً للسلام الاميركي الموعود؟!.
ثم.. هل من »تعامل« مع »عهد الوصاية السورية« من الخوارج الذين يجب الحجر عليهم، او ربما محاكمتهم بتهمة التعاون مع »الاحتلال«، ام قد تأخذنا بهم الشفقة والرحمة فنعفو عنهم ونلحقهم بقافلة المصالحة الوطنية، ولو في الدرجة الثانية او الثالثة، لنباعد بينهم وبين ابطال السيادة والاستقلال الذين استحقوا شرف العفو تقديرا لثباتهم على ايمانهم بالوحدة الوطنية؟!
..وماذا بالنسبة لقانون الانتخاب الجديد، وهل يرسم على قاعدة ان ابناء كل طائفة ينتخبون نوابهم، حتى لا تسترهن طائفة اخرى، أم يبتدع قانون يجعل لكل طائفة (ولكل مذهب) المجلس التمثيلي الخاص بها، تمهيدا لفيدرالية الطوائف التي نرى شبحها يطل علينا، ويتقدم نحونا بخطى ثابتة، مما دفع حتى بقائد الجيش الذي عرفت عنه الرصانة مع شيء من الوطنية الصوفية إلى التحذير من هذا الخطر الاكيد، والداهم؟!
***
ليس أمراً جديداً على طبقة سياسية تمارس »مهنتها« على طريقة شعراء الزجل، أن تسود في خطابها نبرة الفخر والاعتداد بالخطأ والمباهاة بأنها لا تراجع ولا تتراجع، وأن تحترف نقد الآخرين محاذرة السقوط في فخ نقد الذات: فالكل على المسرح أبطال منتصرون (علينا) لا يأتيهم الغلط لا من خلفهم ولا من قدامهم.. وبالتالي فلا ضرورة للمراجعة، ولا خاصة للاعتذار عن خطأ او طلب الغفران والتوبة، حتى ممن قتلوهم بالامر، وبدم بارد..
من هنا تبدت بعض الكلمات التي ألقيت، أمس، في الاحتفال التكريمي لذكرى استشهاد القائد الشيوعي المناضل جورج حاوي، وكأنها تجيء من خارج السياق العام للخطاب السياسي السائد في لبنان: فهي قد تضمنت، فضلا عن مراجعة التجربة، قدرا من النقد الذاتي، المتميز بالشجاعة واحترام تراثها الغني بالشهداء ومحاولة الانجاز والخطايا والاخطاء التي ارتكبت خلالها، والتي كلفت الكثير.
وتستحق كلمة الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن ابراهيم، الغائب منذ دهر عن حومة العمل العام، والصامت او الممتنع عن الكلام في »الشؤون الداخلية« وقفة مطولة، خصوصا أنها تجاوزت التأبين الحارق »لرفيق الدرب الاعز وصديق العمر الاقرب«، لتتحول الى ما يمكن اعتباره »مدخلا الى مراجعة نقدية« لتجربة »الحركة الوطنية«، الفريدة في بابها، بكل نجاحاتها وإخفاقاتها.
ذلك ان محسن ابراهيم وجورج حاوي لم يكونا فقط الثنائي المتوهج ذكاء واجتهادا وقدرة على فهم الظروف المعقدة وابتداع المخارج (حتى لا نقول الحلول) المناسبة لتخطي المآزق مع »الحلفاء« و»الاصدقاء« بداية، قبل انتاج الخطط الضرورية لمواجهة الخصوم، بل كانا تحت قيادة الزعيم الشهيد كمال جنبلاط بين مهندسي »البرنامج المرحلي للحركة الوطنية في لبنان«، والذي »لم يكن مجرد نص برنامجي شهد الجميع بتقدمه واستنارته، بل هي قدمت أولا وأساسا ممارسة غنية حركت وأطلقت تيارا شعبيا زاخراً عابرا لكل المناطق والطوائف.
عبر استعراضه لهذه التجربة، قدم محسن ابراهيم نقده الذاتي الصريح »لما كان من اخطاء هذه الحركة الوطنية، وبعضه كان قاتلا«… وتحاشيا لثبت الاخطاء الذي يمكن ان يطول فقد اكتفى هذا القائد الذي يتحمل مسؤولية مباشرة وأساسية عن التشديد على خطأين اثنين »كان ضررهما عظيما على الحركة الوطنية وعلى لبنان في آن«:
؟ الخطأ الاول، اننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيدا في تحميل لبنان من الاعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافا.
؟ والخطأ الثاني، اننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الاهلية تحت وهم اختصار الطريق الى التغيير الديموقراطي فكان ما كان تحت وطأة هذين
الخطأين من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة أليمة الى الحركة الوطنية، وفي القلب منها يسارها الذي كان واعدا.
***
طبعاً لن تطمس اخطاء التجربة غناها الذي شكل زادا للعمل الوطني في لبنان، قبل تبعثر اطرافه، خصوصا ان ذلك الحراك الخصب قد طال الروافد الثلاثة لبيئة اليسار العربية: علمنة في اليسار التقدمي الاشتراكي، وتعريب اليسار الشيوعي اللبناني الاممي، ولبننة لليسار القومي العربي في لبنان احدث فتحا جديدا في ارساء نقطة التقاطع والتوازن بين الوطني والقومي ضمن خارطة عربية.
ثم إن ذلك الحراك قد اسهم في اطلاق »جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية«، وقد حمل البيان الاول لعمليتها الاولى في 16 ايلول 1982، اي بينما جيش الاحتلال الاسرائيلي في بيروت بعد، توقيع رفيقي العمر والتجربة: جورج حاوي ومحسن ابراهيم، وكان اعلانه من منزل الشهيد كمال جنبلاط توكيدا على مواصلة النهج حتى بعد غياب »المعلم« وبعد اخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
***
قد يقال ان هذا النقد الذاتي يجيء متأخرا كثيرا عن موعده الافتراضي، مما يفقده القدرة على التأثير في »واقع الحال«.
ولكن كلمات العديد من المتحدثين في المهرجان، وبينهم نسيب لحود ومحمد رعد وغازي العريضي، وخالد حدادة، قد اشارت في اكثر من موقع الى ان احوالنا هذه الايام أعظم بؤسا مما كانت عليه في مطلع السبعينيات:
»نحن نعيش اجواء تغطي ألغام الخطر بكثير من الرماد. في الانتخابات جرت استثارة كل المشاعر ما دون الوطنية. التغيير لا يكون باستبدال الوصايات بل بإلغاء منطق الوصاية، وأسس التركيبة اللبنانية تستدرج الوصايات« (خالد حدادة)
÷ »كم هي قوية العلاقة بين التحرر الوطني وحرية الانسان وبين مقاومة الاحتلال وتعزيز الديموقراطية وبين التصدي للنفوذ الاجنبي واحترام حقوق الانسان. في لبنان السيد المستقل لا يمكن ان ندير الظهر لا لسوريا ولا لفلسطين ولا لسائر الاشقاء العرب، بل سيبقى رائدا للعروبة الحضارية« (نسيب لحود)
÷ »الصراع محوره الهوية والعروبة التي لا تنهض بغير الديموقراطية، الراهن ظلم وقهر واستبداد ورجعية وتخلف واحتلال وتآمر وتسويق للهزيمة. اننا نراوح داخل ازمتنا الوطنية حتى لا نكاد نخرج الى حيث يمكن ان نبصر نور الخروج من المحنة« (محمد رعد)
÷ »تجري الآن محاولة إعادة انتاج نقاش حول تاريخ الحرب اللبنانية من منظار معين يسيء مجددا الى الوحدة الوطنية وإلى المصالحة وإلى الوفاق الذي نتطلع إليه بين اللبنانيين وبين الاخوة الفلسطينيين«.
***
… لكن أبطال التغيير العائدين الى المسرح السياسي بعد غياب، والذين لم يعترفوا في اي لحظة بأنهم قد أخطأوا التصويب. او التقدير او تحديد العدو والحرص على الأخ والصديق، ومراجعة التجربة الماضية بحرص على الوطن ودولته ووحدة شعبه، يندفعون الى »المعركة« لتعويض ما فاتهم.
ولقد شهد لبنان خلال السنة الماضية مسلسلاً من الاخطاء المخيفة أدت الى خلخلة الاسس التي قامت عليها الدولة، وإلى تعميق الانقسام على قاعدة ما قبل السياسة، اي الطائفية والمذهبية، بحيث بات سهلا رمي الاخطاء على »الآخرين« لتبرئة الذات والتقدم إلى القيادة، وكأن »الغياب« او »التغييب« عذر شرعي لتكرار الاخطاء، بل ولتحويلها إلى خطايا.
النقد الذاتي، مراجعة التجربة، الاعتراف بالخطأ، التنبه الى القلق الذي يعانيه الشعب حول وحدته (قبل رزقه) وحول مصير وطنه (قبل الهجرة منه وبعدها)، هذه مسائل لا يقربها أي من قادة المصادفات والتحولات السياسية في الداخل والخارج.
مع ذلك يتقدمون إلى منصة القيادة وكأنهم المنقذون!
أي مستقبل للبنان في ظل قيادات كهذه يرون في انفسهم انهم رسل العناية الإلهية، وأنباء الدكتاتورية الجديدة الطائفية اصلا وفصلا موّهت نفسها بشعارات الديموقراطية والوحدة الوطنية.
تحية لمحسن ابراهيم الذي سكت دهراً ونطق إيمانا بالانسان المواطن وحقوقه في وطنه، وكان شجاعا في نقد ذاته وتجربته حيث لم يجرؤ الآخرون!