… وتقرر أن تأخذ إجازة قصيرة من همومك اللبنانية الكثيفة، التي يختلط فيها السياسي بالطائفي، ويموّه »الشعار الوطني« التدخل الأجنبي أو يكاد، ويختلط الصراع على السلطة بمخططات الهيمنة الكاملة على كامل المنطقة العربية وهي أميركية إسرائيلية مكشوفة بل ومعلنة، في حين أن الدولة مفلسة وحكمها يبدو قاصراً عن الإنجاز.
تحاول الابتعاد، ولو قليلاً عن الوقائع اليومية للمأساة العربية المفتوحة على مخاطر الحرب الأهلية في العراق، والتذويب المنهجي لفلسطين القضية والأرض والشعب، وبالاستطراد السلطة التي تعجز عن الرفض بينما يرفض العدو الإسرائيلي »إذعانها« ويرجئ »التسوية« إلى زمن آخر بأمل أن يُنهي النسيان حلم »الدولة«، ولو في غزة، المعزولة الآن وبالعكسر الإسرائيلي عن مصر، التي كانت دائماً الحاضنة والملجأ الأخير.
يضاف إلى ذلك الحصار القاسي المفروض على سوريا والذي يربك حركتها وهي تحاول حماية ذاتها من جموح الاحتلال الأميركي للعراق وشروطه التي لا تنتهي، والتي تتكامل مع الرغبة الإسرائيلية في إنهاء الدور السوري في كامل المنطقة، بدءاً من لبنان وصولاً إلى فلسطين وانتهاءً بالعراق المخضّب بدمه والمتروك لمصيره، فيُسقط شارون عرضها بالعودة إلى طاولة المفاوضات لأنه أقوى من أن يفاوضها وهي أضعف من أن تحاربه..
تذهب إلى القاهرة في الطريق إلى الاحتماء بالتاريخ (الأقصر ومعبدها والكرنك ووادي الملوك) أو إلى استعادة الأمل بالقدرة على الإنجاز (السد العالي وما أضافه إلى مصر من مصادر القوة)… وتحاول أن تستمد من النيل العظيم صفاء في التفكير تحتاجه للمراجعة، لكنك تجد نفسك محاصراً باليأس، إذ لا تسعفك اليوميات المصرية في الخروج من الشرنقة السوداء، بل هي تضيف ما يُعجزك عن التمني بأن يكون العام الجديد أفضل من المنصرم، أو ليس أسوأ منه، وهذا أضعف الإيمان.
إن بوابات الجحيم مفتوحة أمام هذه المنطقة التي كنا نعرفها بتسمية »الوطن العربي« والتي تبدو الآن مِزقاً من الكيانات والأنظمة التي يهدّها الرعب ولا يشغلها إلا حماية الذات ولو ببيع الوطن أو تأجيره.
والكل من الحكام يعرف أن بوابة واشنطن في تل أبيب، ولذلك يدفع لإسرائيل ما يفترض أن يزكيه لدى الإدارة الأميركية فإذا هي تفرض عليه من الشروط ما يهدد أمنه الشخصي ودوام نظامه، ولكنه لا يملك غير الخضوع بأمل شراء الوقت، لعل وعسى…
تجلس إلى الكبير محمد حسنين هيكل، فتسمع منه عبر تحليله الدقيق المستند إلى معلومات أكيدة، عبر متابعة يومية للتقارير الصادرة عن معاهد الدراسات الاستراتيجية، الأميركية أساساً، وعن فهم عميق للتحولات التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية في طورها الإمبراطوري الراهن، فتتأكد مخاوفك من احتمال أن تغرق منطقتنا في مسلسل من الحروب الأهلية التي سيتسبّب بها عجز الأنظمة عن المواجهة كما عن تطوير مفاهيمها وأساليبها القمعية، والتي سارعت الآن إلى نفاق الأميركيين برفع شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان، فوق مراكز أجهزة المخابرات السرية منها والعلنية.
وتجلس إلى الزملاء من الصحافيين الذين ما تزال لديهم القدرة على التحليل من خارج المنظور الضيّق للسلطة، فتكتشف أن حجم الاختراق الإسرائيلي المعزز الآن بالحماية الأميركية أخطر مما تقدر معه مصر على الصمود، فمع اتفاق »الكويز« باتت »المشاركة« الإسرائيلية في الإنتاج المصري شرط حياة للصناعة (التصدير) والزراعة فضلاً عن السياحة.
ولا تكتمل اللوحة إلا بالتنبّه إلى غياب »العرب« عن مصر، لا سيما عرب الجزيرة والخليج، ليس فقط كمستثمرين (برغم الإغراءات المفتوحة) بل حتى كسيّاح.
وتدوخ وأنت تحاول حلاً للمعادلة المستحيلة: كيف تطالب مصر بدورها القومي بينما العرب قد ابتعدوا عنها، وصارت كل مشيخة ترى في نفسها أنها »أهم« للسياسة الأميركية من مصر، وأن مصر بحاجة إليها أكثر مما تحتاج هي مصر، خصوصاً وقد سقط الحرم من حول الاعتراف بإسرائيل أو التعامل معها أو مشاركتها في استثمارات أو في بعض الصناعات الاستهلاكية، فضلاً عن فتح الأرض والبحر والخليج للقواعد العسكرية الأميركية التي منها انطلقت الحملة لاحتلال العراق، ومنها يمكن أن تنطلق حملات أخرى، إذا لزم الأمر.
يشكو لك المسؤول المصري الكبير واقع الحال: لقد افرنقع العرب، لم يعودوا وحدة ولا مجموعة، ولن تستطيع براعات عمرو موسى أن تبعث الحياة في جامعة الدول العربية التي هجرها معظم الأنظمة بل ويعملون على تهديمها كلياً. لا يريد أي مسؤول عربي التزاماً بأي سياسة من طبيعة »قومية«. ذلك عصر مضى وانقضى ولن يعود. سياسة اليوم: يا رب رأسي! ولا بأس لحماية رأسي من التضحية ببعض الأوطان العربية.
وعبر التعاطف الذي تلمسه في أحاديث المسؤولين والإعلاميين المصريين مع سوريا، فإن التخوّف عليها يظل طاغياً..
لا أحد يجادل في شرعية »دور سوري« في لبنان، كضمان لتركيبته الهشّة يحميه من الانجراف، مرة أخرى، إلى حرب أهلية من طبيعة طائفية، إلا أن الكل مع »تحديد« واضح لهذا الدور
يحمي »قوميته« ويعصمه من أن يكون طرفاً في الصراع الداخلي الذي سيرتد بالأذى على سوريا نفسها.
أما بالنسبة إلى العراق فيرى أصحاب الرأي أن الاحتلال الأميركي سيكون هو المسؤول عن حرب أهلية قد تتبدى في شكل فتنة سنية شيعية أو عربية كردية، بالاشتراك مع بعض الحكام العرب الذين لن يتورعوا عن التضحية بالعراق والعراقيين من أجل حماية أنظمتهم..
وتسمع عن المحاولات الإسرائيلية الحثيثة لتخويف مصر من احتمال قيام دولة شيعية في العراق، وذلك بالاستناد إلى »توغل إيراني« مباشر سيمتد خطره ليشمل منطقة الخليج، وسيكون له أثره في لبنان وسوريا.
وتكتشف أن حكاية »الهلال الشيعي« التي طلع بها على الناس ملك الأردن هي إسرائيلية المصدر، وإن كان الهدف منها حماية الاحتلال الأميركي… وهو كما قال هيكل قد رأى هذا الهلال الموهوم بينما تعامى عن النجمة الإسرائيلية التي تكاد تحتل سماء الأردن ومعه بعض المنطقة العربية.
وفي حين سقط بعض الإعلام المصري (لا سيما المموّل أميركياً، وهذا حديث يطول) في هذا الفخ الإسرائيلي، فإن أهل الرأي في مصر لم يحوّلوا أبصارهم عن الخطر الأصلي ممثلاً بالاحتلال الأميركي وتداعياته على بعض الأنظمة العربية المتهالكة والتي ترى في تعظيم هذا الخطر استثماراً مجزياً إذ يحيطها بحماية مذهبية مستنفرة ضد »الآخر«، خارجياً كان أم داخلياً، وكل ذلك يخدم الغرض الإسرائيلي ويمكنه من التغلغل أكثر فأكثر ليس في العراق فحسب بل في العديد من الأقطار العربية التي كانت محصنة ضده بوطنيتها ومشاعرها القومية.
لا يخفي هيكل فزعه من تفجر الحرب الأهلية في أكثر من قطر عربي… فمع عجز الأنظمة القائمة عن تلبية مطامح شعوبها إلى الحد الأدنى من الكرامة والخبز والديموقراطية، ورعبها من الإمبراطور الأميركي ووكيله الإسرائيلي تصبح الحرب الأهلية ملجأ أخيراً لهذه الأنظمة، إذ تنشغل الرعية بصراعات دموية حول مسائل وهمية، تستند إلى دعاوى عنصرية أو طائفية أو مذهبية، ويصبح النظام بكل عيوبه هو الضمانة الأخيرة للكيان السياسي، أي للدولة، أو حتى للوطن..
* * *
… ويسألونك عن لبنان فتعجز عن توصيف حالته الراهنة، خصوصاً وقد تداخل المحلي بالخارجي والسياسي بالطائفي، وإن ظل »الوجود السوري« هو العنوان.
وتسمع نغمتين متباينتين إلى حد التناقض:
في تقدير أصحاب الرأي، ممن يفهمون التاريخ، أن العلاقة الخاصة أو المميزة مع سوريا هي شرط وجود للبنان.. ويستعيدون المحطات التاريخية، بدءاً من إعلان »دولة لبنان الكبير« إلى إعلان استقلال لبنان، ودخوله جامعة الدول العربية، إلى الحرب/ الحروب الأهلية العربية الدولية التي تفجرت فيه لأسباب عدة، وصولاً إلى اتفاق الطائف وما بعده حتى يومنا هذا..
أما الفريق الكياني المصري الذي يشهد ضموراً فادحاً لدور مصر في محيطها الأقرب، ليبيا والسودان فضلاً عن فلسطين، إضافة إلى تراجع الدور المصري المفجع في المحيط العربي والعالم الإسلامي، فلا يتورع عن إظهار »شماتته« بسوريا وتبجّحها بقدرتها على لعب دور عربي تعجز عنه مصر، وهي الأولى والأقدر على أدائه..
لكن الاختلاف في الرأي بين الفريقين لا يلغي الشعور بالعطف على لبنان بل الإعجاب بشعبه الذي أثبت قدرته على مواجهة الصعب والانتصار عليه، فضلاً عن التقدير الاستثنائي الذي يمتد من طبيعته الخلابة إلى دوره الثقافي وصولاً إلى الفنانين والفنانات فيه، والقاهرة تشهد غزواً دائماً مفتوحاً لكل من قال »أوف« أو »آه« في حين أن أهل القدرة يتركون مصرهم في الأعياد والإجازات ليجيئوا إلى لبنان الجميل لكي… يستمدوا منه القدرة على مواجهة الصعب بحب الحياة والإقبال على أطايبها بدءاً بالفن وانتهاءً.. بالتبولة.
هل ما زال بإمكاني أن أتمنى لكم عاماً سعيداً؟!
علينا، كما يقول الرئيس سليم الحص، أن نخترع الأمل أحياناً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان