عاش لبنان، أمس، يوماً تاريخياً يمكن اعتماده كمنطلق لإعادة تأسيس حياته السياسية على قاعدة اتفاق الطائف بكل بنوده ومندرجاته.
لم يكن الحدث فقط أن لبنان قد شهد أعظم تظاهرة شعبية احتضنتها بيروت في تاريخه، وجاءت للمشاركة فيها مئات الألوف من مختلف المناطق، شمالاً وجبلاً، بقاعاً وجنوباً إضافة إلى هذه العاصمة التي عادت الروح إلى شارعها الوطني العربي.
.. بل لقد توفرت جملة من المعطيات التي تجعل من 8 آذار 2005 نقطة نهاية لمرحلة كاملة من تاريخ لبنان الحديث ونقطة بداية لمرحلة جديدة لن تكون امتداداً لما قبلها.
في التوقيت: يأتي هذا المهرجان السياسي غير المسبوق بكثافة حشده واشتماله على كل ألوان الطيف الاجتماعي في لبنان، بعد يوم واحد من الإعلان الرسمي، وعبر مؤسسة »المجلس الأعلى اللبناني السوري« التي تجمع إلى رئيسي الجمهورية أركان الحكومة في البلدين، عن الاتفاق على انسحاب القوات العسكرية من لبنان، التي دخلته في العام 1976، لوقف الحرب الأهلية فيه، ثم أعيد تقنين وجودها بعد اتفاق الطائف في نهايات العام 1989.
ثم انه يأتي بعد 22 يوماً من الزلزال الذي أحدثه في لبنان اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بكل تداعياته وانعكاساته المؤذية على الحياة السياسية عموماً، بالسلطة أساساً ثم القوى السياسية التي كانت مختلفة أصلاً على كثير من الأساسيات وقد فاقم خلافاتها إلى حد الانقسام واحتمالات المواجهة انسياق بعض قوى المعارضة إلى تأييد القرار الدولي 1559، الذي يدعو في بنده الثاني إلى »تصفية سياسية« للمقاومة الوطنية ممثلة ب»حزب الله«.
وكانت المعارضة، بفصائلها المختلفة، قد استثمرت جريمة
الاغتيال في تنظيم حملة شرسة ضد الوجود السوري في لبنان، تجاوزت الجيش والمخابرات السورية إلى الشعب السوري نفسه، مستولدة حالة عنصرية كريهة تؤذي الوفاق الوطني في لبنان أكثر مما تؤذي سوريا.
في الحالة السياسية: احتلت المعارضة، بفصائلها المختلفة، »الشارع« في بيروت، انطلاقاً من جوار ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وغطت بالشعارات المتطرفة الأفق، متجاوزة السلطة و»الاحتلال السوري« للمطالبة بقيام حكم آخر يلوح باتفاق الطائف ولكنه لا يعتمده. وساد مناخ انقلابي كامل، عززته التصريحات والمواقف الغربية الداعمة والمشجعة، وقد شارك فيها إلى جانب الإدارة الأميركية معظم الغرب وإن ظلت الحملة الفرنسية تحتل الطليعة.
صُوِّر انسحاب سوريا (بالأمر) وكأنه المدخل إلى انقلاب كامل في لبنان، بالاستناد إلى التظاهرات المنظمة التي ظلت بشعاراتها في »الشارع« حتى يوم الأول الاثنين، حيث اتخذت سياقاً استفزازياً يبشر بالانقلاب، ومن ثم بمحاسبة كل من يشغل منصباً في السلطة القائمة.
ولقد افترضت المعارضة أن لها القدرة وحدها على حكم البلاد، وببرنامجها، طالما أنها تمثل »الأكثرية« في لبنان، وإن كانت قيادتها قد تجنبت المواجهة مع »حزب الله« فاستثنته من »الحرم« الذي أوقعته على سائر القوى والأحزاب والشخصيات المصنفة »موالية«، ودعته لأن ينضم إليها، حتى ومعظم القوى المنضوية تحت لوائها ترحب بالقرار 1559 وتدعو لتنفيذه فوراً (على »حزب الله«؟!).
في ظل هذا المناخ جاءت دعوة الأمين العام ل»حزب الله« السيد حسن نصر الله إلى مهرجان الأمس، باسم التجمع الذي تلاقى عنده قبل ثلاثة أيام.. وهي الدعوة التي لباها مئات الألوف، أمس، والتي تركز مضمونها على الإلحاح على الحوار بين الأطراف جميعاً، وعلى قاعدة اتفاق الطائف، للوصول إلى صيغة تلبي مطالب الجميع، على أن تتضمن موقفاً قاطعاً في وضوحه من القرار الدولي 1559 الذي ترى فيه المقاومة ومعظم القوى السياسية توجهاً نحو اتفاق 17 أيار جديد.
في المشهد: كان اختيار مركز تجمع الحشد موفقاً… برغم أن عشرات الألوف من المشاركين لم يستطيعوا الوصول إلى المركز، بسبب من كثافة الجماهير التي ملأت جميع الجادات والشوارع والطرق المؤدية إلى ساحة رياض الصلح.
وكانت للصورة أبعادها التاريخية:
فلقد وقف السيد حسن نصر الله، ليلقي كلمته، وفي مواجهته تماماً تمثال رياض الصلح، رئيس أول حكومة للاستقلال، وقد قضى اغتيالاً، وعن يساره سراي الحكم التي جددها وأضاف إليها رفيق الحريري، رئيس حكومات إعادة الإعمار، ومن خلفه وأمامه »قلب بيروت« الذي أحياه مشروع الحريري وجعله درة بيروت ومقصد العرب من مختلف ديارهم.
أما على مبعدة بضع مئات من الأمتار، في شارع الأمير بشير الشهابي، فتقوم كنيسة مار مارون، يجاورها مسجد محمد الأمين، الذي كان حلماً فبعثه رفيق الحريري وحققه وإن كان دهمه التفجير الإجرامي قبل أن ينجزه، فاتخذ من مساحة إلى جانبه هي بمثابة الحرم مثوى لهذا الرئيس الشهيد (ومرافقيه) الذي تركزت بعض أبرز شعارات المهرجان الحاشد أمس حول المطالبة بالكشف عن كل الحقائق المتصلة به: مَن خطط له ودبّر ومَن شارك في التنفيذ وسهّل.
ولم يكن هذا هو الشعار الوحيد المشترك بين التظاهرات التي نظمتها المعارضة بعد اغتيال الرئيس الحريري، وحشد الأمس، بل ان معظم الشعارات والهتافات كانت واحدة: الحرية، السيادة، الاستقلال، الحوار الوطني على قاعدة اتفاق الطائف لإعادة صياغة الحياة السياسية في لبنان بما ينهي وجوه الخلل الكثيرة فيها والتي ضربت مشروع بناء الدولة فخلخلته.
في أي حال، فقد غربت شمس الأمس وظلت الدعوة إلى الحوار معلقة في انتظار جواب المعارضة، الذي قد يتأخر بعض الوقت وإن كانت مقدماته كما صدرت على ألسنة بعض قادتها لا تبشر بالتجاوب المأمول..
وإذا ما تجاهلت المعارضة هذه الدعوة الجدية للحوار على قاعدة اتفاق الطائف لإعادة صياغة الحياة السياسية في لبنان بما يلبي احتياجات الأطراف جميعاً، فلسوف يواجه لبنان انقساماً حاداً، قد يكون بين تجلياته أن تقوم حكومة جديدة قديمة لا يشارك فيها المعارضون والذين يتطلعون لأن يحققوا نصراً كاسحاً في الانتخابات النيابية (إذا ما جرت في موعدها) يكون هو قاعدة المرحلة الجديدة من تاريخ لبنان.
لقد تجاوز المهرجان شعارات الدعوة إليه، وفيها: توكيد الوفاء لسوريا وتضحيات جيشها وتأكيد الترابط المصيري مع شعبها، والدعوة إلى تجديد التعاقد الوطني على قاعدة اتفاق الطائف، وبالتعاون مع سوريا التي لا يمكن شطبها، والمطالبة بكشف الحقيقة عن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتحديد المسؤولين عنها والمقصرين في واجبهم تجاه دولتهم ومواطنيهم..
بل لقد تجاوز المهرجان إعلان الاستعداد لمقاومة التدخل الأجنبي ممثلاً بالقرار 1559، بالتضامن الوطني أساساً، وبالديموقراطية المجسدة للإرادة الشعبية، ليؤكد أن العروبة عنصر تكويني في لبنان، ليست طارئة عليه ولا وافدة، وأن لبنان بعروبته يساهم بحماية سوريا وعروبتها، وليست سوريا وحدها مصدر حماية العروبة في لبنان.
لقد أعلنت الجماهير التي احتشدت في قلب بيروت وعبر شرايينها أمس، أن لبنان بإرادته الحرة هو المقاوم لأي نوع من التدخل الأجنبي، تماماً كما قاوم الاحتلال الإسرائيلي حتى أجلاه بدماء أبنائه.
… وتلك هي ذروة الديموقراطية،
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان