في ظروف أخرى غير التي نعيش كان يمكن اعتبار ما يجري انتصاراً رائعاً للحركة الشعبية، لبسطاء الناس المتحدرين من بيئات أقرب إلى طبيعة البلاد، للذين أعطوا زهرة العمر بلا منّة لقضية الأمة وحلم الوطن وطموحات أبنائه المجدين.
فقط لو أنه في زمن آخر، غير زمن التراجعات الساحقة لأحلام التغيير، بدءاً بالمستوى القومي، وصولاً إلى المستوى الوطني، بشقيه السياسي والاجتماعي الاقتصادي، وانتهاء بالمستوى الأممي،
فقط لو أنها ظروف أخرى غير ظروف الانهيار الذي كاد يطوي صفحة الإيديولوجيات والأحزاب العقائدية، وكاد يلغي أية قيمة للعمل الشعبي كتنظيمات سياسية أو تيارات فكرية أو هيئات نقابية ومنتديات ثقافية،
فقط لو أن الرجال ما زالوا هم الرجال، لم تسحقهم الخيبات والهزائم، ولم يطحنهم الإحساس بالعجز: »حتى الاتحاد السوفياتي العظيم ومعسكره الاشتراكي الذي شكّل أعظم أمبراطورية في التاريخ، ترتكز إلى عقيدة جمعت في أفيائها عشرات الملايين… كل ذلك تهاوى واندثر«!
فقط لو أن هؤلاء وصلوا في الموعد الصحيح، وبالأسلوب الصحيح، الى الموقع الصحيح، من ضمن انتمائهم إلى أصولهم، ومن داخل إيمانهم بأنهم يصلون لأنهم أصحاب قضية وبالتالي أصحاب حق، وانهم أصحاب فكر تغييري، وبالتالي فإن وصولهم »ثورة« تصحح الوضع المغلوط والظالم الذي كان يمنع وصول أمثالهم من أصحاب الإيمان بما يؤمنون،
فقط لو أن هؤلاء الذين دخلوا المجلس النيابي ثم الحكومة، من خارج النادي السياسي الذي كان يحتكره تحالف الاقطاع التقليدي ورأس المال، قد دخلوهما وهم ممتلئون بإيمانهم بأن هذا الدخول حق من حقوق من يمثلون، أي الناس الذين أنجبوهم وعاشوا في فقر حتى علّموهم، وباعوا الأرض الغالية لكي يحفظوا لهم كرامتهم وعزة النفس، وليمكّنوهم من حماية أحلامهم بالتغيير والعمل لها من دون أن يكسرهم ذلّ الحاجة والضعف أمام السلطان،
فقط لو أن هؤلاء قد اخترقوا السور بقوة قضيتهم وليس على حساب قضيتهم وأهاليهم الذين ما زالوا منسيين ومحرومين وبؤساء في وقوفهم أمام أبواب الإقطاع الجديد الملتحق الآن برأس المال على قاعدة المحاصصة،
فقط لو أن هؤلاء قد احتلوا مواقعهم كثمرة شهية لانتصار حققه نضالهم الدؤوب، فرفع أحزابهم وتنظيماتهم وتياراتهم إلى السلطة لكي يسخّروها لأهدافهم بدل أن يظلوا مسخّرين لخدمة محتكريها وسالبيها من صاحبها الأصلي: الشعب، الناس، تلك المجاميع من الفلاحين والعمال والموظفين والمثقفين وصغار الكسبة، سافحي عرق الجبين لكي يظل الجبين مرفوعاً، المتمسكين بحقوقهم كبشر حتى لا يظلوا »أزلاماً« و»رعايا« لأصحاب السلطة أو أصحاب المال أو لحلفهما غير المقدس المجدّد والممدّد له حتى… يشيب الغراب!
فقط لو أن هؤلاء قد دخلوا نعيم الحكم كشركاء في القرار وليسوا مجرد منفذين له، يؤجرون ألقابهم لتمويه الانحراف، أو يوظفون سمعتهم الطيبة كأفراد للتغطية على انحياز السلطة للأغنياء على حساب الفقراء، وعلى استغلال النفوذ الذي يمارسه »الأقوياء« فيأخذون السلطة (ومعها الجاه والمال والمنافع والمصالح) الى حيث تغدو خصماً للناس وليس أداة لإقامة العدل وإشاعة الانصاف وتكافؤ الفرص،
فقط لو أن هؤلاء الآتين من ليل التعب والظلم والاضطهاد والامتهان والحرمان ما زالوا يملكون القدرة على الاعتراض والوقوف في وجه الغلط،
فقط لو بقيت لهؤلاء الطيبين، أصلاً، والصادقين أصلاً، والمنتمين إلى أرضهم أصلاً، أسماؤهم الأولى وصفاتهم الأصلية،
… إذن لكان لبنان قد أنجز أعظم ثورة في تاريخه،
لكن زمن الثورات قد انتهى، في لبنان كما في غيره، وجاء زمن الثروات..
وأحلام التغيير بات عليها أن تتوارى لأن زمن تحقيقها قد ابتعد حتى لم يعد له موعد.
فلنكتفِ الآن بالتهنئة…
مبروك يا أصحاب السعادة، مبروك يا أصحاب المعالي،
وسنحفظ أسماءكم القديمة في صدورنا كعلامات على زمن التحول.. سبحان مَن يحوّل ولا يتحوّل!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان