نحب أن نفترض أن اللبنانيين بمجموعهم كانوا يفضلون عدم الزج بمغتربيهم (لا سيما الأميركيين منهم) في معارك جانبية، مغرقة في محليتها، كثيرة الالتباسات في دلالاتها السياسية، حافلة بالحساسيات الطائفية والمذهبية، كهذه الدائرة رحاها اليوم بين المعارضات المختلفة التي وحّدها فشل الحكم في توحيد نفسه على مشروع بناء دولة الدستور والقانون والازدهار أو النهوض الاقتصادي.
لكن المعارضات المنتشية، بعد، بنصرها المؤزر في معركة بتغرين الفاصلة بين تاريخين، رأت أن تستعين ب »جيش الخارج« وهي غير مقدرة، في أغلب الظن، خطورة ما أقدمت عليه حين »عولمت« بعض الخلافات الداخلية في لحظة دقيقة تهب فيها على منطقتنا جميعا، وعلى لبنان خاصة، رياح سموم تتهددنا في حاضرنا ومستقبلنا، ويمكن اعتبار ما يجري لفلسطين وما يدبر للعراق، ومن بعده أو معه سوريا ومعها لبنان، فضلا عن أقطار أخرى »مشبوهة« ومدرجة على »اللائحة السوداء«، مجرد عناوين للمخاطر المصيرية التي تحتل الآن عناوين الصحف وتتصدر نشرات الأخبار، ولم تعد سرية ولم يعد المخططون يدارون في إعلانها.
بعد تقسيم المقيمين، على محاور غير سياسية، ها هو الجهد يتجه لتقسيم المغتربين واستعدائهم على »دولتهم« وجعلهم قوة احتياطية للتطرف السياسي المستند الى قاعدة طائفية أو مذهبية.
سنتجاوز أن الأكثرية من المغتربين القدامى مقطوعو الصلة ببلد المنشأ، أو عمليا ببلد الأهل الذين مضوا الى ملاقاة وجه ربهم الكريم، وهذا أمر مؤسف، ربما لأنهم يئسوا من لبنان، أو أنهم على الأرجح قد اطمأنوا الى أوضاعهم الثابتة والمريحة كمواطنين في الأمبراطورية الأغنى والأقوى والأعظم نفوذا في الكون.
وسنتجاوز حقيقة أن هؤلاء البسطاء والطيبين إلى حد السذاجة، مثلهم مثل سائر المواطنين الأميركيين، لا يعرفون الكثير عن السياسة والسياسيين في »بلادهم« الجديدة التي يعيشون فيها ويرزقون، فكيف ببلاد الآباء والأجداد البعيدة والتي بالكاد يتذكرون موقعها على خريطة العالم.
لكن ما لا يمكن تجاوزه هو هذا اللعب »بالداخل« عن طريق الاستعانة »بالخارج« الأميركي عبر هؤلاء الأشقاء المنسيين إلا كقوة تدخل قرارها محكوم بتأثيرات غير محلية، وهي تستغل كمكبر صوت لعل واشنطن تسمع فتحزم أمرها وتقرر الموافقة على »انقلاب على الانقلاب« الذي أطاح بالتوازن الداخلي في لبنان فتعيد السلطة إلى »أصحاب الحق الشرعي والإرث التاريخي«، فينتهي الإحباط وتنتصر الإرادة الوطنية ويتحقق الاستقلال بالقرار الحر… وهو ما ذهب من أجله إلى واشنطن جنرال حروب ما بعد الحرب ميشال عون، مستنجدا ومحرضا وداعية لتجديد الحروب!
ولا بد من القول إن محاولة الاتجار بالمغتربين، وتقسيمهم على الطوائف والمذاهب، قد أفضت مع الأسف إلى خسارة مزدوجة: إذ خسر المغتربون احتمال توحيدهم تحت راية الخدمة لمصلحة وطنهم الأول، لبنان، وخسر لبنان دعاة ومبشرين برسالته وحملة لقضيته الوطنية والتي بلغت ذروة تجلياتها بالتحرير وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن أرضه.
وليس جديدا القول إن »الدولة« تكاد تكون غائبة تماما عن عالم هؤلاء المغتربين، بل ان بعض كبار المسؤولين وبعض الدوائر النافذة قد لعبت، في عهود سابقة، دورا تخريبيا مما أودى بجامعة اللبنانيين في العالم، التي كانت مرشحة لولا محاولات الاستثمار الطائفي، لأن تلعب دورا طيبا في توفير الحد الأدنى من الوحدة لهؤلاء المتحدرين من أصل لبناني، أو الذين ما زالوا »مواطنين« فعليين يضخون ناتج جهودهم وثمرة شقائهم في البلاد البعيدة داخل الدورة الاقتصادية هنا في لبنان.
الآن تم تجاوز تقسيم الجامعة إلى تكريس الانفصال الكامل بين المغتربين، ليس فقط على مستوى القارات، حيث لكل قارة لونها الطائفي المميز للمغتربين فيها، بل حتى على مستوى الولايات المتحدة الأميركية ذاتها حيث تم تكريس القطيعة بين المؤتمرين في لوس أنجلس وسائر المغتربين اللبنانيين، باستخدام بعض معارك الأخوة الأعداء في الداخل على مقاعد نيابية، أو على الزعامة، أو بالاستطراد على رئاسة الجمهورية، وهي كلها أمور لا تعني الأغلبية من أولئك الذين لم يعودوا يعرفون حتى لغة أهلهم فضلا عن »صراعاتهم« التي لا تنتهي.
ومفهوم أن يلجم بعض الذين ذهبوا من بيروت ألسنتهم، وأن يقلقهم هذا المناخ المتطرف الذي طالما عمل له ورعاه المتحدرون من صلب »القوات اللبنانية«، والذين دفعهم فشل »انقلابهم« على السلطة الى اليأس مما فتح الطريق بينهم وبين اعداء العرب جميعاً بمن فيهم لبنان، »فتحالفوا« معهم ضد أهلهم عملاً بمنطق »من بعدي الطوفان«!
وليس سراً ان الكثير من هؤلاء المتطرفين (اللبنانيين) تحولوا الى مجرد ادوات في ايدي جماعات الضغط اليهودية، وانهم تورطوا في التعامل معها من موقع »الحليف« او الشريك في العداء لسوريا او للفلسطينيين بحيث لم يعودوا قادرين على التمييز بين اسرائيل وبين أميركا، وبين خطر مثل هذا التحالف الخبيث على لبنان وبين التهديد المصيري الذي تشكله اسرائيل على وطنهم،
ان »روح الانتقام« سيطرت على كثير من منظمي هذا المؤتمر، بحيث اضطر بعض »المعارضين« الذاهبين من بيروت، والعائدين اليها، الى محاولة تهدئة اللهجة في البيان الختامي عن طريق إعادة التذكير بالحقائق السياسية الثابتة في لبنان،
وطبيعي ان بعض المزايدين والمنافقين من الباحثين عن اللمعان قد اختاروا اللغة الرخيصة في المزايدة على اقصى المتطرفين من متحدري »القوات« وبينهم كثير من الهاربين من العدالة لجرائم اغتيال ارتكبوها (رشيد كرامي، كمثال)،
ان خطاب التطرف يجد الكثير من الحجج والذرائع، وبعضها صحيح، لكن المؤدى خطير. فليس اسهل من التدليل على فشل الحكم في العديد من الاهداف التي كان عليه ان يحققها… كذلك فليس اسهل من اتهام سوريا بالتسبب في كل الاخفاقات، بما يمكن ان يتركه ذلك من صدى طيب لدى واشنطن التي تحاول عبثا »ترويض« دمشق أو عزلها عن التأثير في محيطها العربي، ولا سيما في القضية الفلسطينية، وفي المواجهة مع المشروع الاسرائيلي.
في مثل هذه اللحظات لا بد من تقدير موقف البطريرك الماروني الكاردينال صفير الذي يعلن تحفظاته ولكن من موقع توحيدي، ومثله بعض العقلاء الذين ذهبوا الى لوس انجلس لكي يحاوروا من في بيروت (او من في دمشق) فكادت تغلبهم رياح التطرف وان نجحوا في استنقاذ مقاطع في البيان الختامي تيسر امر متابعة الحديث معهم، في حين كان بعض المؤتمرين يرغبون في القطيعة كمدخل الى الحرب مع المختلفين معهم في الرأي… وهذه هي الديموقراطية قبل لوس انجلس، فكيف بعدها!