طلال سلمان

لماذا نتبرع بأحلامنا للآخرين

في المطعم، وبالمصادفة تلاقينا.
قال وهو ينادي أخاه لينضم الينا: هي فرصة لكي نسأل في أمر يحيرنا. (ثم، متوجهاً اليّ بالخطاب..). نحن الآن في الولايات المتحدة الاميركية. الحرب هجّرتنا، وأخذتنا أقدارنا الى هناك. وها قد أتينا لزيارة الأهل والبلاد، بعد غياب امتد نحو خمس عشرة سنة.
همهمت ببعض كلمات الترحيب، لكنه كان يريد ان يقول كل ما عنده، فأكمل نجواه: نحن هناك، ولله الحمد، بألف خير. أعمالنا جيدة، ودخلنا ممتاز، ونعيش عيشاً كريماً.
تنهد قبل ان يضيف: لكنه الوطن.
تدخل أخوه الأصغر ليوضح اكثر: لا نريد ان نفقد الحلم. العودة هي حلمنا.
وعاد الأخ الاكبر يقول: لقد جلنا في البلد من جنوبنا الى الشمال، ومن العاصمة الى البقاع، وقصدنا مختلف جنبات الجبل. تصرفنا لفترة كسياح. كنا نريد ان نرى بأعيننا، ان نسمع بآذاننا. كنا نريد ان نطمئن الى ان شبح الحرب قد اختفى تماماً، وأن الحياة قد استأنفت دورتها الطبيعية، وأن الانسان قد عاد اخيراً الى »اللبناني« فسحق الوحش الكامن فيه والذي أطلقته الحرب فالتهم صاحبه.
قلت بشيء من الفضول: وماذا رأيتم؟! وبماذا خرجتم من هذه السياحة؟
قالت الحماسة بلسان الأخ الأصغر: الوطن غال.
قال الحساب البارد بلسان الأخ الاكبر: نتمنى طبعاً ان نعود، وبأسرع وقت، ولكن، بصراحة، الأمور في لبنان لا تطمئن.
قلت مستوضحاً: اية أمور؟! الأمن؟ الوضع النفسي للناس؟ الاقتصاد؟ ظلت الحماسة غالبة على منطق الأخ الأصغر فقال: الأمن ممتاز.
رد عليه الأخ الأكبر بسرعة: وكل ما عدا الأمن سيئ!
قال الأخ الأصغر بلهجة اعتذار عن اللبنانيين جميعاً: لا تنس انها مرحلة انتقالية. أنسيت كيف كان الوضع يوم قررنا الهجرة؟
تدخلت وأنا ادعوهما الى الجلوس: مثل هذا النقاش يحتاج وقتاً، إلا اذا كان مطلوباً ان نجيب بإحدى الكلمتين القاطعتين والملتبستين في آن: نعم أو لا.
أضفنا بضعة كراسيّ الى مائدتنا وجاءت الزوجتان ومعهما قريبان على الأرجح. كانت إحداهما »أميركية« تماماً، وإن متحدرة من أصل لبناني، أما الثانية فواضح ان زمن التحاقها بزوجها »المهاجر« ليس ببعيد.
عاد الأخ الأكبر يستأنف النقاش من حيث توقف. قال: ان الوضع الاقتصادي اسوأ مما توقعنا. ان حالة الركود قاتلة.
قاطعه الأصغر بحماسته: لكن البنية التحتية تتكامل الآن كما لم تكن في اي يوم من قبل. ألم تلاحظ مشاريع الطرق والبناء والتجهيز حيثما تجولنا؟
قال الاكبر بلهجة حادة: لست اكثر مني تعلقاً بالوطن. العودة حلمنا جميعاً. لكن ثمة فارق كبير بين الاحلام والاوهام. قد نتخذ قرارنا بالعودة برغم المصاعب. لكن لا بد من ان نعرف ما نحن بصدد الإقدام عليه. ان كان الكابوس مستمراً، او مرشحاً لأن يعود فيفرد ظلاله السوداء على البلاد، فقد يكون من الخير التمهل.
قاطعه الاصغر، مرة اخرى: ان تأخرنا في اتخاذ القرار بالعودة فلن نعود ابداً. ان ابناءكم يكبرون هناك. بعد سنة او سنتين لن يقبل اي منهم ان يعود معك، بل هم قد يضطرونك لأن تبقى معهم في الغربة.
قال الاكبر بحسم: بل سأعود وسيعودون.
تدخلت زوجته مهدئة فقالت برطانة من تعلم العربية على كِبَر: اهدأ، كلما تناقشتما في العودة اختلفتما. ثم انك لا تملك ان تقرر بالنيابة عن أولادنا. ان لهم رأيهم في هذا القرار الخطير.
قال الأصغر: أرأيت؟! يكاد يضيع الحلم.
قبل ان اجيب، رد الاكبر: اخاف ان نعود فلا نجد الا الكابوس.
قالت زوجة الاصغر في محاولة لحسم النقاش: لقد تأخر الوقت، ثم انكما فرضتما همومكما على الاخوان وهم هنا لينسوا بعض همومهم الكثيرة.
قلت بأقصى ما أملك من هدوء وعاطفة: انتم بعض همومنا. اننا نحس بنقص لأن المسكونين بهمّ الوطن امثالكم ليسوا معنا. الوطن جميل بأهله وليس بصخوره.
هدأ الجو قليلاً، وساد شيء من الود، فأضفت:
ليس لدينا الكثير من الفرح ندعوكم اليه. ليس لدينا رخاء. والصورة ليست مبهجة وليست مطمئنة، لكننا باقون.
قال الأصغر كمن يخطب: ونحن، الجنوبيين، لن نترك ارضنا لليهود.
سألتهما: لنتحدث قليلاً عن اوضاعكما.. هل تملكان هنا منازل؟ وهل تملكان رأس مال يكفي لتأمين دخل مقبول؟
اجاب الكبير: الحمد لله مستورة. نعم نملك منازل هنا في بيروت وفي الجنوب، وأوضاعنا المادية مرتاحة نسبياً.
سبقني الاصغر الى الاستنتاج: اذاً نعود.
وقفوا ووقفنا نودعهم، فقالت تلك السيدة بعربيتها المغلفة برطانة اميركية: شكراً لصراحتك. يمكننا الآن ان نقرر أين سنستقر على تلك المسافة الفاصلة بين الحلم والكابوس.
قال الأخ الاكبر: الانسان هو من يصنع أحلامه. وسواء أكنا هنا أم هناك، فعلينا ان ننسجها بالجهد والصبر والحساب. حتى الأحلام لا تجيء من خارج الحساب بالمطلق.
وقال الأصغر: شكراً، لقد أرحتنا.. انت تدعونا الى مواجهة الصعب، ونحن لا نفعل هناك غير ذلك، فلماذا لا نواجه هنا فيبقى جهدنا في أرضنا ولأبنائنا بعدنا. لماذا نتبرع بأحلامنا للآخرين؟!
عدنا من السهرة، وأنا مشوش الذهن، احاسب نفسي: ترى هل تسببت عن غير قصد بتخريب خطة الجماعة؟! هل بعتهم اوهاماً؟! هل غلبت تمنياتي على وقائع أيامنا الصعبة؟!
لكنه الحلم، قلت في نفسي.. وهو يستحق ان نمنحه من جهدنا ما يجعله في الحياة وليس خارجها او بعدها.

 

حوار الصور الخرساء

قال الجدار للجدار: ما ابشعك بكل هذه الوجوه الشوهاء فوقك.
قال الجدار للجدار: لو ان امامك مرآة لرأيتني جميلاً بالمقارنة معك!
***
قال الجدار للجدار: اتذكر ايام كنا نحمل ما يدور في ضمائر الناس؟! ها نحن الآن نُحمَّل اضاليلهم.
قال الجدار للجدار: كان صدري لأعظم الشعارات وهجاً، وكان يلجأ إلينا الفقراء والطامحون إلى التغيير فيكتبون ما لا يطالون تحقيقه.. أما الآن فنحمل الاكاذيب مصورة، ملونة، مزركشة. سقى ا” أيام اولئك الذين كانوا يشرفوننا بأحلامهم.
***
قال الجدار للجدار: احس بانني اتهاوى تحت اثقالهم! اعان ا” الناس، كيف سيتحملون »أصول« هذه الصور الشوهاء.
قال الجدار للجدار: اخشى ان يكون الناس قد صاروا مثلنا، يحملون بشاعة الآخرين ثم يحاسَبون عليها!
***
قال الجدار للجدار: اكاد اختنق. لقد منعوا عني الهواء فلا أجد منه ما يكفي للتنفس.
قال الجدار للجدار: يا حرام، الناس! اذا كنا نحن الجدران نكاد نفطس، فمن أين سيجيئهم هم الهواء!!
***
قال الجدار للجدار: أنت تحمل ضفدعة وسعداناً وأفعى.
قال الجدار للجدار: وأنت تحمل بطيخاً وباذنجانتين وبعض اشواك الجمل وسبعة ألواح صبار فارغة!
***
قال الجدار للجدار: لقد انفرد بك هذا المفتوحة عيناه على الفراغ. ان شكله يخيف الاطفال.
قال الجدار للجدار: لا تخف.. ان الاطفال هم الذين سيريحونني منه.
قال الجدار للجدار: صرنا نحن معرض الديموقراطية.
قال الجدار للجدار: بل صرنا الشهادة والشهود على الديموقراطية!
***
قال الجدار للجدار: بعد منتصف كل ليلة يجيئون كاللصوص، ينتهكون حرمتي، يسكبون اصماغهم ليلصقوا فوقها اصباغهم، ثم يذهبون إلى النوم، ويتركونني للقلق والخوف من غارة اخرى.
قال الجدار للجدار: هؤلاء مساكين. الخوف من هؤلاء الذين على صدورنا، غداً متى طلع النهار!
***
قال الجدار للجدار: اشتهيت لو ان بين هؤلاء »المحتلين« حسناء واحدة، اذاً لهوّنت عليّ الامر!
قال الجدار للجدار: يا غبي، اتجرؤ فتاة على المرور أمام هؤلاء؟! ان اياديهم (المخفية) طويلة جداً، وألسنتهم الكامنة خلف الابتسامات الباهتة اطول، ثم انهم لو كانوا يعرفون الخجل لداروا انفسهم في بيوتهم.
***
قال الجدار للجدار: اشتقت إلى صور المطربين والمطربات. اشتقت إلى ذلك الجسد الطري للراقصة اللولبية.
قال الجدار للجدار: أما أنا فعلى استعداد لأن اقبل ملصقات افلام الجنس والجريمة والكاوبوي. اولئك على الأقل ممثلون، يقومون بأدوارهم بالأجر، أما هؤلاء فأبطال فعليون يمارسون ولا يحاسبون، ثم تبلغ بهم »البجاحة« حد الإعلان عن أنفسهم كبناة للغد الافضل. اكاد اتصبب عرقاً لخجلي من ان استخدم كشاهد زور!

 

من كلمات نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم يعرف من العواطف إلا الحب:
»ليس للحب عمر. كاذب من يحدد للحب مواعيد، وكاذب من يحدد للمحب مواصفات. من قال ان حب الكهل مراهقة متأخرة، وإن حب الفتى شبق مبكر؟! ليس الحب أمراً طارئاً، وليس علبة هدايا تشتريها جاهزة من الدكان. يجيء الحب لينقذ من جفاف. يجيء الحب ليبقيك انساناً. انظر حولك فكل من وجدته ناقص الانسانية بحاجة ملحة الى الحب قبل ان يستحيل وحشاً او جماداً«.
* * *
فكّر بأن يقول لها، ثم لم يقل شيئاً، وحاول ان يجبرها على الاستماع الى صمته البليغ.
لم تستمع الى صمته، ولم تترك له ثرثرتها الفارغة مجالاً للفهم، فأخذ الحب يذوي وتناثر كأوراق شجر خريفية.
قال لها في صمته: خذيني، قبل ان أضيع.
وقالت له ثرثرتها: جدني إن كنت صبوراً.
ودخل لجة الصبر وحيداً، بحث في العبث طويلاً، ثم اخذه الضجر الى النوم.

 

هامش أخير

كنا على شرفة الليل ثلاثة. أطل القمر فصرنا ستة، وابتعد كل منا عن الآخرين لينفرد بالضوء الشاحب ودفء اللقاء المرتجى.
* * *
قالت شجرة الصنوبر للعاشقين: اطمئنا.. ها قد فتحت مظلتي لأحميكما من الحر والبرد والريح، أما عيوني فمعلقة في سماء التضرع، بينما شراييني تتغذى بالهمس الحميم.
* * *
قالت المرأة للمرأة: ما أكثر النساء!
وقال الرجل للرجل: ما أقل الرجال!
وقال الفتى الغر للصبية المراهقة: ليس على هذه الارض إلا نحن. أنت حواء وأنا آدم، والجنة حيث نكون!

 

Exit mobile version