لن تكون صورة الوضع السياسي في لبنان مع صباح هذا اليوم، الإثنين الواقع فيه الثالث من حزيران 2002 ما كانت عليه صباح يوم أمس، الأحد، ولن تقتصر الاختلافات على »التفاصيل« بل ستمس »الجوهر« بما يتعدى انتصار »المعارضة« بل المعارضات التي تجمعت بسحر ساحر، فجأة، في معركة فرعية بما يُلبسها مقعداً إضافياً في مجلس نيابي من 128 عضواً، يكاد حضوره السياسي أن يكون رمزياً.
لقد استحضرت المعركة الفرعية كل الغائبين والمغيبين، كل المعترضين والمستنكفين، كل المحبطين والغاضبين، لمواجهة سلطة لم تعرف مرة كيف تربح، والأخطر أنها لم تعرف كيف تخسر… وبديهي القول إنها لم تعرف كيف ترفع نفسها إلى فوق الصراعات والخلافات بحيث لا تكون طرفاً في الحروب والمعارك، الفرعية والجانبية، مما يوفر عليها وعلى البلاد مخاطر الرهانات والمغامرات الفاشلة.
لقد ربحت »المعارضات« التي كانت متنافرة الى حد التناحر، مختلفة الى حد التصادم، فوحدتها الممارسات السلطوية التي طالما اتسمت بطابع العتو والمبالغة بالاعتماد على »قوة السلطة« ومنافعها ونفوذها الذي لا يحد.
ربحت المعارضات »الشارع«، أي الناس، حتى من قبل ان تعلن النتائج النهائية للانتخاب الفرعي، وبالمقابل خسرت السلطة »الشارع«، الناس، مما شل حركتها عن تدبر أمر الخسارة وتحويلها الى »فوز« بالمقعد النيابي سيأتي مطعوناً به سلفاً، وسيظل يشكل في نظر »الناس« دليلاً حسياً على الزور والتزوير ومخالفة إرادة الناخبين.
نجحت »المعارضات« باستغلال كل ما يمكن ان يحكى ويقال عن »الإحباط« و»الاحتقان« والشعور بالغبن والاضطهاد، وتقدمت من موقع »الضحية« لتخوض المعركة فوق أرض مسرح ملائم جدا لطروحاتها، ومستفيدة من تورط السلطة في خوض المعركة بمرشح من »صلبها« لا تستطيع إنكاره أو التنكر له، ولا يستطيع أن يقدم شهادة على نزاهتها وحيدتها، فضلاً عن ديموقراطيتها، حتى لو قصد..
ومن خلال الأعلام والشعارات والصور المرفوعة في خلفية المشهد الانتخابي كان واضحا ان السلطة تخوض معركتها وحيدة ضد أشتات خصومها الذين يمكن لها أن تتباهى ليس فقط في أنها قد وحدتهم ولكن في أنها، أيضاً، قد وفرت لهم الأسلحة والذخائر من خلال غبائها وغرورها واستهانتها بالعواطف والمشاعر لا سيما تلك التي تعبر فعلاً أو ادعاءً عن الغبن والظلم والاضطهاد السياسي.
ما هذه العبقرية التي حققت هذا الإنجاز التاريخي فجمعت كل الأضداد الذين اقتتلوا في ما بينهم فقتلوا من الناس آلافا مؤلفة، في حروب الإلغاء والتحرير ومحاولة التشبث بالسلطة بأي ثمن، مهما كانت دمويته، وجعلتهم صفاً واحداً متراصاً يواجهها في حين أن الحكم مقتتل في ما بين رؤوسه، مكشوف في تعثر أدائه، لا سيما على الصعيد الاقتصادي، ومختلف فعلياً في توجهاته، ومدموغ في أغراضه واستهدافاته الحالية أو المستقبلية؟!
من الذي ورط السلطة في معركة محدودة الأهمية، من حيث المبدأ: بديل لنائب متوفى، لن يستطيع صوته أن يعدل في التوازنات القائمة، والمضبوطة جيداً، على فرض انه جاء من بين »المعارضين« أو باسمهم، بل انه ما كان ليجيء »كمعارض« لو أن السلطة أخلت الميدان وتركت هذا الانتخاب الفرعي يجري في نطاقه »الفرعي« والمحدود التأثير؟!
بل ان أخطاء السلطة وتعنتها أفسحت في المجال للمعارضة السياسية ان تتحول الى نوع من »العنصرية«، وبرز ظهور الشعار الطائفي صريحاً الى حد الاستفزاز، وكان استغلال »المجنسين« أو مرتدي الزي المختلف (العباءة والكوفية والعقال) رخيصاً وكريهاً ولكنه أفاد في تأجيج الغرائز الى الحد الأقصى، فصار التصويت مواجهة »للغريب« و»الطارئ« الذي أفسد طهارة مجتمع اللون الواحد، الراقي والنقي بدمه الملكي الأزرق.
ان أخطاء السلطة باهظة التكاليف على البلاد والعباد… خصوصا وأنها تجيء في لحظة دقيقة جدا ليس على لبنان وحده بل على منطقته جميعاً، ولن يدفع ثمنها وزير الداخلية وحده، بكل شبكة علاقاته العائلية، بل ستصيب الخسارة مركز السلطة و»الحلفاء الكبار« الذين ما كانوا ليتأثروا لو أن الأمر انحصر في المقعد الواحد في معركة فرعية في قضاء واحد من أقضية جبل لبنان.
لقد تورطت السلطة فورطت معها كل الحريصين على صورتها كمرجعية وطنية لبنانية قد يكون لها بعض المعارضين، ولكنها تتحاشى (أو يفترض ان تتحاشى) الظهور بمظهر الطرف المخاصم بل والمحارب لأغراض تخصها وليس لأهداف تتصل بجوهر التحالف، أو بجوهر الموقع، كمرجعية وطنية.
ومن أسف أن تورط السلطة قد أظهر الدولة في صورة »الطرف« فأسقط عنها هالتها الجامعة، وأظهر الشعب »شعوبا« مختلفة على الأساسيات بحيث تبدو وكأنها مهددة بالعودة الى الحرب الأهلية وليست خارجة منها بعد تجربة دموية مريرة يفترض ان تتحاشى العودة إليها، لأي سبب كان.
وليس من الإنصاف ان تبدو الدولة وكأنها عدوة طائفة أو طوائف، وأنها كلما نهجت نهجا وطنيا (في مواجهة العدو الإسرائيلي على وجه التحديد) بدت وكأنها تنهج نهجا دكتاتوريا، أو تنحاز الى طوائف ضد أخرى، بينما تتبدى التيارات الطائفية وكأنها هي المعبرة عن الديموقراطية وعن اللبنانية الصحيحة المناهضة للأغراب!
ومن المؤكد ان كثرة من المواطنين العرب، في مختلف اقطارهم التي تطالها الفضائيات اللبنانية او العربية التي لها من يراسلها من بيروت، قد امضوا ساعات نهارهم، امس يتابعون بشغف حدثين مثيرين جداً: أولهما مباريات كأس العالم في كرة القدم، والثاني كأس الديموقراطية عبر الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي من الجمهورية اللبنانية..
ليس في الامر مفارقة فالجمهور العربي هو في الحالين في موقع »المتفرج«، تستوي في ذلك المباريات الرياضية ذات المستوى ولو في كرة القدم، او الانتخابات، أي انتخابات، وسواء أكانت فرعية ام شاملة…
فاذا ما حدث ان كتبت له المشاركة في »المونديال« جاءت النتيجة فضيحة مدوية اشرف منها الغياب (واقل كلفة)، كما حدث للفريق السعودي يوم السبت الماضي،
اما مع »الانتخابات« وفي لبنان على وجه التحديد فقد يصاب بالصدمة اذ يكتشف ان الديموقراطية تصور وكأنها نقيض العروبة، وان الطائفية تصور وكأنها الطريق الى القرار الوطني المستقل، وان كل رموز »اقتتال الاخوة« في »الشارع المسيحي« لم يجدوا ما يلتقون عليه الا الدولة التسوية التي قامت على اساس اتفاق الطائف ممثلة بالسلطة التي لم تعرف كيف تسوس الحكم فخسرت وتسببت بالخسارة لاهلها كما للاقربين من حلفائها.
وعودة وجوه الاقتتال الداخلي بالامس الى صدارة المسرح السياسي اليوم ليست بشارة خير للمستقبل، لا على المستوى السياسي ولا خاصة على المستوى الاقتصادي.
وقد يكون ثمن المقعد الفرعي المفرد سقوط »مقاعد« اساسية عديدة… ان لم نقل سقوط سياسات لم تنجح في ان تربح الاكثرية من اهلها الاقربين فصارت عبئاً على الحليف المحرج بها، لا هو يستطيع ان ينكرها ولا ان يستمر الى الابد في دفع اثمان اخطائها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان