كأنما كانت الإدارة الأميركية تنتظر هذه الحرب الإسرائيلية على لبنان، والتي تدمّر عمرانه بطريقة منهجية مدروسة ومعدة سلفاً، لكي تعلن وزيرة خارجيتها، وبفرح غامر، المباشرة في بناء “مشروع الشرق الأوسط الجديد”.
من الصعب “منطقياً” الافتراض أن واقعة أسر جندي إسرائيلي في غزة للمطالبة بإطلاق النساء والأطفال من آلاف آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، تكفي لتمهيد الأرض للمشروع الجليل.
… ثم أن تكون واقعة إقدام “حزب الله” على أسر جنديين إسرائيليين للمطالبة بإطلاق أسرى لبنانيين في السجن الإسرائيلي استثنوا من صفقات تبادل سبق أن تكرّرت مرات عدة، مناسبة لإطلاق البشرى بمباشرة بناء هذا الشرق الأوسط الجديد الذي يقدم وكأنه بداية جديدة للتاريخ.
ومن الصعب الاقتناع بأن هذا المشروع الجبار، الذي أعلن عن نفسه في تبديل الجغرافيا مع وعد بتبديل الهوية في وقت لاحق، يتطلب تدمير نصف لبنان (حتى كتابة هذه السطور) فضلاً عن تدمير معظم ما “أبقي” للفلسطينيين وحتى إشعار آخر، من “وطنهم” فلسطين.
إذا كان ما يجري هو فقط “العنوان” فكم من التخريب والتدمير والمذابح الجماعية والقتل الإفرادي ونسف معالم التحضّر وأسباب الانتماء للعصر، ستتطلب المراحل المتعددة لهذا المشروع الذي يتم الترويج له منذ سنوات طويلة ولا يرى العرب ـ لا سيما في المشرق ـ من ملامحه إلا تهديم كيانات قائمة، وإشعال فتن نائمة، وأنهاراً من الدماء المسفوحة ظلماً وعدواناً، وشطب قدرات دولهم الكبيرة والثرية وذات الموقع الاستراتيجي الحاكم على التأثير، بل وتقصّد إذلالها وتحقيرها أمام شعوبها؟
هل يفترض عاقل أن أي حاكم عربي، مهما بلغ استعداده لتقبّل الإهانة، يستطيع أن يضيف ما يجري للبنان على يد آلة الحرب الإسرائيلية الهمجية، وبالتغطية الأميركية المطلقة، إلى رصيده السياسي (أو حتى إلى رصيده الآخر الأكبر من رصيد دولته؟!).
لكأنما هذه الدول التي طالما كانت لها مكانتها بفضل ما شرَّفها به العرب من موقع قيادي ومن حق القرار، قد ألغت دورها ومكانتها، واختارت أن تذهب إلى قفص الأسر الأميركي (وهو إسرائيلي تماماً..) بقدميها، وعلى حساب كرامة شعوبها (وحكّامها؟!)..
لعل بين ما يهوِّن على هؤلاء “الحكّام” أنهم “ومعهم دولهم” أسرى، أو رهائن برضاهم، وغالباً بطلب منهم، لدى الإدارة الأميركية وللقرار الإسرائيلي!
وبالتأكيد فإن الأسرى الثلاثة من جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يقهر يعامَلون لدى من أسرهم، سواء في لبنان أم في غزة، بأكرم مما تعامل واشنطن هؤلاء الحكّام الذين توسلوا إلى الإدارة الأميركية حتى “تأسرهم” بلطفها!!
وبالتأكيد فإن “حزب الله” في لبنان (ومن ثم بعده بمسافة حركة حماس في فلسطين المحتلة) يستطيع أن يدعي أنه يمثل في بلاده “ديموقراطياً” أكثر ممّا يمثل أي حاكم عربي يسترهن إرادة شعبه بالحديد والنار.. أو بالذهب، أو بجميع “وسائل الإقناع” هذه مجتمعة!
بل لعل “حزب الله”، برصيد جهاده ضد العدو الإسرائيلي وإنجازه تحرير معظم ما كان محتلاً من أرض لبنان، يمثل في بلاد أولئك الحكّام أكثر ممن يمثلون.
ويستطيع “حزب الله” أن يدعي أنه قد حقق إنجازاً عظيماً يخاف منه ـ ويا للمفارقة ـ الإسرائيليون والعديد من الحكّام العرب!
لقد قاتل إسرائيل فانتصر، وقاتلتهم فانتصرت على من قاتل منهم ذات يوم وبالاضطرار، وفرضت عليهم الاستسلام فاستسلموا، ثم جاءها بعض من لم يقاتل فاستسلم بلا حرب وبلا طلب… وبرغم أنهم قد انحازوا إلى العدو ضد أهلهم، فإنهم لم يزيدوا من قوتها، ولم يمنعوا انتصار المجاهدين “بدمائهم” عليها..
إذن كان لا بد من تدمير معظم لبنان، بعد فلسطين، وبعد العراق، لكي تبشّرنا السيدة رايس بولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد.
تدمير ثلاثة أوطان عربية هو عنوان هذا المشروع الجبار… إنه إغراء لا يقاوم وغواية لا تصد!
أما “المقدمة” فهي تكتب بقذائف المدافع وصواريخ الطائرات والبوارج التي تعمل فتكاً في البيوت والمنشآت والمدارس والمساجد والكنائس والمؤسسات التي بناها اللبنانيون، في الجنوب أساساً والبقاع وبعض الشمال وبعض الجبل والضاحية النوارة لبيروت الأميرة.
أربعة آلاف غارة جوية، وآلاف أطنان القنابل المدمرة، ومئات البيوت المهدّمة، أحياناً على ساكنيها، ومئات آلاف المواطنين الآمنين، بالنساء والأطفال والشيوخ، بالمرضى والعجزة، بالشباب والصبايا الذين كانوا بالكاد قد أمسكوا بمستقبلهم بأيديهم.
أربعة آلاف غارة (حتى أول الليل الرابع عشر من مجلد الموت الإسرائيلي) هي مجرد واحد من عناوين “دليلك إلى الشرق الأوسط الجديد”، المكتوب ـ كما ما تحمله القذائف والصواريخ والقنابل الحارقة ـ بالعبرية.
مع ذلك تقول “الإحداثيات” غير ما تقول السيدة رايس،
وقوات حلف الأطلسي، أو القوات متعددة الجنسية، لن تستطيع أن تبدل كثيراً في “الوقائع الميدانية”.
فلا أحد مستعد لأن يرسل أبناءه إلى الموت المجاني بذريعة حماية ـ حدود ـ الدولة الوحيدة في الدنيا التي ليست لها حدود معترف بها،
بينما أهل الأرض سيبقون في أرضهم التي لن تغادرهم بالأمر الأميركي.
… والمشاريع التي أعدت لتزوير هوية هذه الأرض وأهلها، كثيرة، وهي في متناول السيدة رايس، في أرشيف وزارتها الكونية، فإن لم تجدها فلتطلبها من وزارة الخارجية أو وزارة المستعمرات البريطانية.
… ونفترض أن لبنان المهدّم، والمقتل شعبه على الطرقات وفي البيوت التي كانت آمنة، لن يغري كثيراً في الدعاية لمشروع الشرق الأوسط الجديد!
نشرت في “السفير” 24 تموز 2006