لنتفق، بداية، ان الشعب اللبناني، بمختلف تلاوينه وأطيافه، يريد معرفة »الحقيقة« حول جريمة العصر متمثلة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري: من أحبه فوالاه بالمطلق، ومن عارضه فانتقده أو اندفع بالنقد إلى حد الخصومة السياسية.
ان القلق الذي يعيشه اللبنانيون قد تجاوز يومهم إلى غدهم، وتجاوز موقفهم من السلطة إلى إيمانهم بالدولة ومدى ثباتها أمام العواصف، في ظل الانقسامات العمودية التي اصابت المجتمع فشرخته لتعيده مرة أخرى طوائف ومذاهب تستعير الشعار السياسي لتغطي طبيعتها »الانفصالية« ولو تحت ستار الفيدرالية.
ولقد جاءت الانتخابات النيابية التي حكمها منطق الاستعجال بنتائج تؤكد الشرخ وتعمقه، بغض النظر عن كل الادعاءات التي رافقت تحالفات الاضطرار في اللحظة الأخيرة، سواء أكان الغرض منها تحقيق مزيد من المكاسب (المقاعد) أو اقتناص اللحظة المؤاتية لإسقاط الحرم وغسل اليدين من دماء الصديقين السابقين، من خلال المبالغة في المطالبة بالثأر ما دام توجيه التهمة إلى »عهد الوصاية« السابقة يمنحها الفرصة للعودة إلى »الملعب«، وكأن جريمة اغتيال الحريري تجبّ ما قبلها من جرائم اغتيال وتنفع صك براءة من الماضي وتأشيرة دخول إلى المستقبل.
على هذا كان منطقياً ان تستولد الحكومة قيصرياً، وبتسويات اضطرارية وبالتالي هشة، تعتمد في بيانها (وفي قراراتها) لغة ترضي جميع الاطراف، فيظهر كل طرف وكأنه أخذ ما يريده عبر منعه الاطراف الأخرى من ان يأخذوا كل ما يريدونه.
»سيروا بخطى أضعفكم«، تلك هي قاعدة التسوية.
»أرجئوا أي حديث في ما يفرق هؤلاء الذين تطلب تلاقيهم سلسلة من الوساطات والشفاعات والمداخلات الدولية التي تجاوزت، في لحظات، الوصاية إلى الفرض، فطُمست مطالب أو تم تجاهلها بقصد مقصود، وفي تواطؤ مكشوف بين الاطراف المعنيين«…
علق الوضع كله على خشبة كشف »الحقيقة« حول جريمة الاغتيال: من خطط، ومن حرض، ومن نفذ…
وهكذا تعلقت عيون اللبنانيين وأنفاسهم (ومصالحهم وأرزاقهم) بتقرير لجنة التحقيق الدولية، وصار المدعي العام الالماني ديتليف ميليس أخطر شخصية في العالم: بيديه صكوك الغفران ومفاتيح أبواب جهنم.
صارت الدولة المهيضة الجناح والمهددة بالتفكك في عهدة ميليس: برئاستها المطاردة بالشبهة، وحكومتها المركبة قطعة إلى جانب أخرى وأجهزتها الأمنية المفككة وإدارتها المشهر بنقص كفاءتها أو بارتكابات بعضها وخضوع بعض آخر منها للزعامات والمحمية، بمجملها، بولاءاتها السياسية. هذا قبل ان نصل إلى أثقال الدين العام، فضلاً عن ضرورات حماية »استمرارية السلطة« مما لا توفره الشرعية المنقوصة فكيف إذا ما كان مطعوناً بأهليتها وبقوة تمثيلها لشعبها أصلاً؟!
ولقد كان ميليس صريحاً مع اللبنانيين (ومع الشرعية الدولية التي كلفته بمهمته الصعبة) حين أعلن منذ قبوله هذا التكليف انه لن ينتهي من عمله قبل مطلع شهر تشرين الثاني… أي انه حدد، منذ البداية، انه يحتاج إلى مدة إضافية (طالما ان مدة التكليف ثلاثة أشهر)… (حديث إلى مجلة دير شبيغل الالمانية).
هذا يعني ان أمام اللبنانيين، بعد، أكثر من سبعين يوماً من الانتظار على جمر القلق والخوف والذعر من نتائج التحقيق، التي يقرأها كل طرف، سلفاً، بما يوافق مصالحه وعواطفه وارتباطاته وأغراضه.
لا أحد يطالب فؤاد السنيورة ومن معه باجتراح المعجزات، فالرجل الذي كان قادراً على اجتراح ما يشبه المعجزات قد بات شهيداً للوطن، الآن.
لكن من حق الناس ان يطالبوا حكومة الائتلاف الاضطراري بتسيير الأعمال، للحد من الخسائر التي تصيب الدولة قبل ان تصيب سلطتها، وتلحق الاضرار بالمواطنين قبل الإدارات ومديريها، الفاسدين منهم والصالحين.
ومرفوض هو الادعاء ان تعيين بعض الموظفين الكبار يستدعي تعطيل ما تبقى من السلطة: ولا مرة تم التعيين على قاعدة الاكفأ والأنزه والأكثر إيماناً بالدولة… فكيف والدولة على هذه الحال!
هل جاء الاكفأ إلى الرئاسات والوزارات والنيابات والقيادات الإدارية، مدنياً وعسكرياً، في أي عهد؟!
ليس هذا دفاعاً عن الفساد والمفسدين، ولكنها دعوة لاستنقاذ ما تبقى من السلطة، وبالتالي من الدولة، ليتمكن مواطنوها من ان يتحملوا بعد صدمة جريمة الاغتيال، صدمة نتائج التحقيق وهم في لبنان وليسوا خارجه، ويشعرون بأنهم رعايا لدولة قائمة فعلاً وباقية فعلاً وليست مهددة بالتمزق في كونفدرالية طائفية، وبأن ثمة سلطة معنية بشؤون يومهم، على الأقل، ما دامت لا تستطيع ادعاء المسؤولية عن الغد.
ان كل يوم يضيع هدراً يفتح الباب لأخطار تتجاوز تقرير ميليس واتهاماته.
ولننظر حولنا بقليل من التبصر: من فلسطين إلى العراق، مروراً بسوريا، التي يشتد عليها حصار الضغوط لأسباب تتجاوز لبنان وسلطته، وصولاً إلى السعودية والمخاطر التي تتهددها مع أقطار الخليج وانتهاءً بإيران التي لبست ثياب الحرب من قبل ان تفرض عليها.
وأن تكون الحكومة مؤقتة وذات مهمة محددة ومحدودة لا يمنعها من ان تكون حكومة…
قليلاً من الاحترام لمسؤولية الألقاب يا من جاءت إليكم الألقاب من قلب المأساة.
طلال سلمان
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان