عشية الذكرى المنسية تأتي الزوارق الحربية الإسرائيلية لتذكِّر من نسيَ أن لبنان ما زال تحت الاحتلال، وأن مستقبله مصادَر، وأن الهامش المتروك للنقاش السياسي فيه أخطر من أن يهدر في المماحكات والأحقاد والأغراض الشخصية للنافذين والمغامرين من قيادات الصدف التاريخية فيه.
فالاجتياح الذي نفّذته قوات الاحتلال الإسرائيلي في 14 آذار 1978 ليس »حادثù« طارئù، ولا هو واقعة قدرية لم تكن لها مقدّمات قبل وقوعها أو نتائج وتداعيات بتأثير وقوعها في ذلك الزمان تحديدù، وفي ذلك المكان تحديدù، ثم إن استهدافاتها السياسية أبعد بكثير من أن تحد بالانعكاسات المباشرة للعملية العسكرية.
وبينما يتسلى أهل السياسة في لبنان بأحاديث التمديد والتجديد، أو يتسامرون بحكايات مبهجة عن إلغاء الطائفية السياسية وموقعها بين النصوص والنفوس، توسّع الزوارق الحربية الإسرائيلية نطاق حصارها للشاطئ اللبناني، مقتربة من مرفأ بيروت، فاتحة باب الاحتمالات لمخاطر جديدة ولأساليب ضغط لم تكن ملحوظة في حسابات الحكم وبالتالي فلا مجال لمواجهتها إلا بالدعاء والبسملة والحوقلة ويا خفي الألطاف نجِّنا مما نخاف.
لم يعد لاستدعاء سفراء الدول الكبرى أي وهج، فبات ممكنù أن يحيلهم الوزير على الأمين العام، فيدخلون عليه متثاقلين، وفي أيديهم مفكرات تمتلئ صفحاتها بكلام مشابه للذي سيسمعونه اليوم، ويبلغهم بغير حماسة ما سبق أن أبلغهم مثله عشرات المرات… وينتهي اللقاء الشكلي بوقوف كل منهم دقائق أمام الصحافيين يتأتئ خلالها بنصائحه القديمة عن ضرورة ضبط النفس، والشجب الصارم لأعمال العنف (من دون تحديد المصدر)، مع تكرار للموقف المبدئي والثابت لحكومته حول »دعمها وتأييدها لاستقلال لبنان وسيادته على أرضه!!
قبل ذلك، كان الحكم قد سحب من التداول حكاية دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد، أو تقديم شكوى للمجلس، أو حتى رسالة إلى رئيس ذلك المجلس هي أشبه بمذكرة تنفعه في إحصائياته ولا تنفعنا في »الاجرائيات«،
ربما لهذا لم تعد أكثرية اللبنانيين تتذكَّر موضوع القرار 425 أو تاريخه: فلا هو عيد العشاق سان فالنتاين ، الذي يستنفر الشباب ويميِّزهم عن سائر خلق ا”، ولا هو عيد الطائفة أو المذهب يسهر عليه »كهَّانها« بحرص لأنه مناسبة لتوكيد الزعامات والاستقطاب الشعبي.
* * *
ليست نهاية الدنيا أن تحاصر الزوارق الحربية الإسرائيلية شواطئ لبنان،
إنها »إضافة« لتأكيد ما ليس بحاجة إلى إثبات: فالطيران الحربي الإسرائيلي »يتنزَّه« يوميù في سماء لبنان، يصوِّر المستجد أو الطارئ في المباني كما في الشجر، ويستطلع ما تبدَّل في »المواقع«، ويقصف حيث يكتشف الطيار ما يريبه أو ما يجافي ذوقه من أشكال العمارة والبشر والحيوان والنبات.
ثم إن العجز واحد، في البر كما في البحر والجو،
لا قوة إسرائيل بحاجة إلى برهان جديد، ولا عجز لبنان الرسمي عن المواجهة العسكرية المباشرة »سر حربي« ستخرجه المناورة الجديدة إلى الضوء.
لكن ذلك كله يعيد طرح السؤال الذي يتهرَّب من مواجهته الجميع:
ماذا أعدَّ لبنان للغد، وعلى المستوى السياسي أولاً؟!
هل الجبهة الداخلية أكثر تماسكù من ذي قبل؟!!
هل خرج الناس من مناخ الحرب ضد الذات وباتوا أكثر استعدادù وقدرة على مواجهة هذه الحرب المفتوحة والدائمة التي يفرضها العدو؟!
هل توحَّدت بعض المفاهيم التي لا بدَّ من التسليم بها كبديهيات لتصبح المواجهة ممكنة، أم ما زال في لبنان مَن ينظر إلى »العدو« كحليف محتمل، أو كقوة توازن إقليمية لإحداث »انقلاب« داخلي؟! هل »المقاومة« عنصر طبيعي وأساسي في المعادلة، أم أنها هي السبب في اختلال الميزان؟! واستطردù: هل المقاومة نتيجة منطقية وطبيعية للاحتلال، وبالتالي يجب أن تُحمى وتُصان وتُدعم، أم أنها سبب فيه يزول بزوالها، ومن ثم »فالواجب« يقضي بتجريدها من السلاح لكي يطمئن »هذا الجار القلق على حدوده وأمنه«، فإذا ما اطمأن تركنا في سلام وانسحب لمعالجة همومه الداخلية، موفرù لنا كل ضمانات »حسن الجوار«؟!
* * *
من السذاجة الفصل بين الحركة الإسرائيلية في غزة (وفي الأردن)، وبين التطورات المؤثّرة داخل الكيان الصهيوني، وبين هذا الذي يقوم به الاحتلال الإسرائيلي داخل الشريط المحتل من الأرض اللبنانية أو على امتداد الشاطئ بين الناقورة وبيروت وصولاً إلى النهر الكبير، في أقصى الشمال على الحدود مع سوريا.
إن تزايد ضغط الحصار على لبنان لا يستهدف إنقاذ أنطوان لحد بقدر ما يستهدف إنقاذ ياسر عرفات وسلطة شرطته في غزة،
فإذا ما »فرط« لحد فلن يطول بعده عمر عرفات وسلطته،
وطالما استحال على إسرائيل القضاء على الانتفاضة داخل فلسطين فهي تحاول ضرب مثيلتها في لبنان،
وأكثر ما يسهّل على إسرائيل تنفيذ هذه المهمة أن يُعاد طرح مواضيع الخلاف والجدل السياسي حول البديهيات في لبنان، وبالذات قضية المقاومة، وأن ينشغل الحكم بنفسه عن شؤون البلاد وشجونها، ويخرج نفسه كلياً من دائرة القرار لأنه مستغرق في صفقات التمديد أو التجديد أو التمهيد لانتخابات موصوفة تؤكد »تاريخية« و»عراقة« زعامات الصدف القدرية.
… وحرام أن يتحوَّل لبنان، عبر حكمه، إلى عبء إضافي على دمشق الصامدة!
حرام أن يظل محاصرù من الداخل، بينما يشتد عليه حصار العدو من الخارج الذي بات داخلاً!!
* * *
محمد صبرا
بهدوء مثير يتناسب مع طبيعته، رحل محمد صبرا.
الرجل الذي أمضى عمره يعمل بصمت، وبلا كلل، رحل من دون أن يغادر صمت المنتدِب نفسه للمهمات الدقيقة،
ليست الدبلوماسية أن تتعلَّم كيف لا تقول شيئù، بل هي في أن تعرف ما لا يعرف بغير أن تقول ما يمنع عليك المعرفة، وفي أن تقول ما لا بد من قوله لكي تحصل من الآخرين على ما يتجنّبون إعلانه أو ما يدارونه عنك حتى لا تعرفه.
محمد صبرا واحد من تلك النخبة المعدودة من رجال الدبلوماسية الذين نجحوا في المجالات الصعبة… خصوصù وقد أُلزموا أحيانù بالترويج لسياسة حكومات أو عهود لم يكونوا يؤمنون بصوابها، فاستطاعوا أن يحموا مصلحة لبنان حتى لدى خصوم سياسة حكَّامه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان